وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا
(4)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الْمُرَادُ بِـالاسْمِ الْمَوْصُولِ "الَّذينَ"، هُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ؛ الْمُعَانِدُونَ، الْمُعَادُونَ للهِ وَرَسُولِهِ، الْمُسْتَكْبِرونَ عَلَى الْحَقِّ. وَوُضِعَ الاسْمُ الْمَوْصُولُ مَوْضِعَ ضَمِيرِهِمْ لِتوجيهِ الذَّمِّ لَهُمْ بِمَا يكونُ فِي حَيِّزِ الصِّلَّةِ إِيذَانًا بِأَنَّ مَا تَفَوَّهُوا بِهِ هو وَصْفٌ ذَمِيمٌ لِكُفْرِهِمْ باللهِ العَظِيمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّيِعُونَ"، قالَهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَأَصْحَابُهُ يَوْمَ دَارِ النَّدْوَةِ.
وَقَالَ الْكَلْبيُّ وَمُقَاتِلٌ: القائلُ لِمَا سيَأْتي في الآيةِ: هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحارِثِ، مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ. وَمَعَهُ طُغاتُ قُرَيْشٍ وَغُلَاتُهاُ فِي الْكُفْرِ، كَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ أُميَّةَ، وَنَوْفَلِ بُنِ خُوَيْلِدٍ، وَمَنْ ضامَّهمْ وَأَيَّدَهُمْ وَقَالَ بِقَوْلِهِم. وَقد جِيءَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ مِنْ قولِهِ: "كَفَرُوا" لِيَشْمَلَ كُلَّ مَنْ شَايَعَهُ ووافَقَهُ.
وهَذَا كما تَرَى شُرُوعٌ مِنْهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، فِي حِكَايَةِ أَبَاطِيلِهِمُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْفُرْقانِ وَمَنْ نُزِّلَ عَلَيْهِ مَعًا، لتفنيدِها والرَّدِعليْها وَإِبْطَالِهَا.
قَوْلُهُ: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} إِنْ: بِمَعْنَى (مَا) النَّافِيَةِ، وَهِيَ مَعَ "إِلَّا" تُفِيدُ الْحَصْرَ. وَقَدِ اسْتَعْمَلُوا اسْمَ الْإِشارَةِ "هَذَا" لِلْحَطِّ مِنْ قَدْرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْفُرْقانُ. وَ "الْإِفْكُ" هُوَ أَشْنَعُ الكَذِبِ لأَنَّهُ ـ بِرَأْيِهِمْ، مَكْذُوبٌ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى جَدُّهُ. وَ "افْتَرَاهُ" أَيْ: اخْتَلَقَهُ، وأَتَى بِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وادَّعَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ. يُريدونَ أَنَّ النَّبيَّ ـ عَلَيْهِ الْصَّلاةُ وَالسَّلَامُ، رَكَّبَهُ وَرَتَّبَهُ وَنَسَبَهُ إِلَى رَبِّهِ ـ جَلَّ وعَزَّ، لَيْسَ إِلَّا. وَقْدْ رَدَّ القرآنُ الكريمُ هَذِهِ الفريَةَ الشَّنِيعَةَ عَلَى هَؤُلَاءِ الكَفَرَةِ وأشْباهِهِمْ في غيرِ مَوْضِعٍ مِنْ كتابِهِ الكريمِ، فقالَ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآيةَ: (38)، وقالَ مِنْ سُورَةِ هُودٍ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} الآيَةَ: (35)، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ السَّجْدَةِ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} الآيةَ: (3)، وقالَ مِنْ سُورَةِ الأحقاف: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الآيةَ: (، وَقالَ فِي الآيَاتِ: (44 ـ 46) مِنْ سُورَةِ الحاقةِ: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}. إلى آخِرِ ما هُنالِكَ. قوْلُهُ: {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} أَيْ: وَأَعَانَهُ عَلَى اخْتِلَاقِهِ قَوْمٌ آخَرُونَ. يَعْنُونَ بالقَوْمِ الآخَرِينَ أَهْلَ الْكِتَابِ اليَّهُودَ وَالنَّصَارَى، وَذلكَ بِأَنْ يُحَدِّثُوهُ بِأَخْبَارِ الْأُمَمِ الغابِرَةِ وَهُوَ يُعَبِّرُ عَنْ هَذِهِ الأمَمِ بِعِبَاراتِهِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: يَعْنُونَ الْيَهُودَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَشَارُوا إِلَى عَدَّاسٍ مَوْلَى حُوَيْطِبٍ، وَيَسارٍ غُلَامِ عَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَجَبْرٍ مَوْلًى لِعَامِرٍ أَيْضًا، وَكَانَ الثَّلَاثَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.وَقِيلَ: هُمَا جَبْرٌ وَيَسَارٌ، كانَا يَصْنَعَانِ السُّيوَفَ بِمَكَّةَ، وَكانَا يَقْرَآنِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجيلَ. وقيلَ: هُوَ عَابْسٌ.
قولُهُ: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} قَدْ: للتَّحقيقِ، وَ "جاؤوا": أَتَوْا" والظُّلْمُ: التَّعَدِّي عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ، والزُّورُ: الكَذِبُ.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقٍ الزَّجَّاجُ ـ رَحِمَهُ اللهُ، ما مَعْنَاهُ: الْمَعْنَى: فَقَدْ جَاؤُوا بِظُلْمٍ وَزُورٍ، فَالْفِعْلُ: "جَاءَ" كَالْفِعْلِ "أَتَى" يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى "فَعَل"، وَيُعَدَّى تَعْدِيَتَهُ، أَوْ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: "بِظُلْمٍ وزورٍ". فَإنَّهُ لَمَّا سَقَطَتِ الْباءُ أَفْضَى الْفِعْلُ إلَى الْمَفْعُولِ فَنَصَبَهُ. وَالزُّورُ: الْكَذِبُ.
وَالتَّنْوينُ في "ظُلْمًا وزورًا" هُوَ لِلتَّفْخِيمِ، أَيْ: جَاؤوا بِمَا قَالُوا ظُلْمًا هَائِلًا وَعَظِيمًا لَا يُقادَرُ قَدْرُهُ. ذَلِكَ لأنَّهُمْ جَعَلُوا الْحَقَّ الواضِحَ الصُّراحَ إِفْكًا مُفْتَرًى.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ} الواوُ: اسْتِئنافيَّةٌ، وَ "قَالَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ. وَ "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ فِي مَحَلِّ الرَّفعِ بِالْفَاعِلِيَّةِ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِحِكَايَةِ أَبَاطِيلِهِمْ وتَفْنِيدِ دَعَاوَاهُمْ، فيما يَتَعَلَّقُ بِالْمُنَزَّلِ وَالْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ مَعًا، وَإِبْطَالِهَا.
قولُهُ: {كَفَرُوا} فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بِوَاوِ الْجَمَاعَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفريق، والجُمْلةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الْمَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعرابِ.
قوْلُهُ: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ} إِنْ: نَافِيَةٌ بمعنى "ما". و "هَذَا" الهاءُ: للتَّنْبِيهِ، و "ذا" اسمُ إشارةٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "إِلّا" أَدَاةٌ للحَصْرِ. و "إِفْكٌ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مرفوعٌ. وَالْجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ ب: "قالَ".
قولُهُ: {افْتَرَاهُ} فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلَى الفتْحِ الْمُقَدَّرِ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِهِ على الْأَلِفِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، والهاء: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالمَفعولِيَّةِ. وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ صِفَةً لِـ "إِفْكٌ".
قولُهُ: {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} الوَاوُ: للعطفِ، و "أَعَانَهُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمفعوليَّةِ. و "عَلَيْهِ" عَلى: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَعانَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بِحَرفِ الجَرِّ. وَ "قَوْمٌ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. و "آخَرُونَ" صِفَةٌ لِـ "قَوْمٌ" مرفوعٌ مِثلُهُ، وعلامةُ الرَّفعِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المذَكَّر السَّالمُ. وَالْجُمْلةُ الفِعْلِيَّةُ هذهِ في مَحلِّ الرَّفْعِ، عَطْفًا عَلى جُملةِ "افْتَرَاهُ".
قولُهُ: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَفْريعٍ، لأنَّ ما قبلَها عِلَّةٌ لِمِا بَعْدَهَا. و "قد" حَرْفُ تَحْقِيقٍ. وَ"جَاؤُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بِوَاوِ الْجَمَاعَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفريق، "وَجَاءَ" هُنَا، بِمَعْنَى "فَعَلَ"، ولذلكَ فقد تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ واحِدٍ. و "ظُلْمًا" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ. وَ "زُورًا" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ منصوبٌ مِثْلُهُ. والجُمْلةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "قالَ" عَلَى كَوْنِها جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. لكونِها جملةً مُفَرَّعَةً عليْها.