تمت المشاركة مع أصدقاؤك
الموسوعةالقرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ قراءات ـ أحكام ـإعراب ـ تحليل لغة
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزء الثامن عشر ـ المجلد السادس والثلاثون
سورةُ النّور: (24). الآية: 39
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} فِيمَا تَقَدَّمَ ذَكَرَ اللهُ ـ تَعَالَى، لَنَا، كيفُ يَجْزي المُؤمنينَ مِنْ عبادِهِ عَلَى أَعْمالِهِمُ الصَّالِحَةِ يَوْمَ القيامةِ، وبَيَّنَ لَنَا أَنَّهُ يعامِلُهمْ بالفضْلِ وَلَيْسَ بِالْقِسْطاسِ والعَدْل فَيُضاعِفُهَا لَهْمْ أَضْعافًا كثيرَةً لا حَصْرَ لها ولا عَدَّ.
وفي هَذِهِ الآيةِ المُباركَةِ، يُبَيِّنُ لَنا ـ جَلَّ وَعَلَا، حالَ أَعْمالِ الكافرينَ، فَإِنَّ ما يظُنُّهُ الكافِرُ صالحًا مِنْ عَمِلِهِ، لا يقبَلُهُ اللهُ مِنْهُ، ولا يجزيهِ بِهِ، ولا يُثيبُهُ عَلَيْهِ يومَ القيامَةِ، لِأَنَّهُ لمْ يَعمَلْهُ لوَجْهِ اللهِ وابتغاءَ ثوابِهِ، وطَلَبًا لمَرضاتِهِ، وكيفَ، وَهُوَ لَا يُؤْمِنُ بِهِ أَصْلًا، فكيفَ تَعْمَلُ عندَ أحَدٍ مِنَ النَّاسِ وتَطْلُبُ الأَجْرَ مِنْ غيرِهِ! فهم إِنَّما عَمِلوا الأَعمالَ الخَيِّرةَ الصَّالِحَةَ لِيَنَالُوا اسْتِحْسَانَ النَّاسِ وثناءَهُمْ عَلَيْهِمْ، أَوْ لمَكْسَبٍ مادِيِّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ يحقِّقونَهُ بِهِ. وقدْ بَيَّنا هَذا المَعنى في غيرِ مَوْضِعٍ مِنْ هَذِهِ الموسوعةِ، وذَكَرْنا عدَدًا مِنَ الآياتِ والأحاديثِ النَّبَويَّةِ الشَّريفةِ التي تُوَضِّحُ هَذا الأمْرَ وتُؤَكِّدُ هَذا المَعنى، وَسَنَكْتفي هُنَا بحديثٍ واحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأحاديثِ فإِنَّ في ذلِكَ لَبُلْغَةً.
قالَ ابْنُ خُزيمةَ في صَحِيحِهِ: (4/115): حَدَّثَنَا عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ أَبُو عُثْمَانَ، أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ، حَدَّثَهُ أَنَّ شُفَيًّا حَدَّثَهُ: أَنَّهُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: أَبُو هُرَيْرَةَ. قالَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ، فَلَمَّا سَكَتَ وَخَلَا، قُلْتُ: أَنْشُدُكَ بِحَقٍّ وَحَقٍّ لَمَّا حَدَّثْتَنِي حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَقَلْتَهُ وَعَلِمْتَهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَفْعَلُ. لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِمْتُهُ، ثُمَّ نَشَغَ (شَهَقَ) أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً فَمَكَثَ قَلِيلًا، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: لَأُحَدِّثَنَّكَ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً أُخْرَى فَمَكَثَ بِذَلِكَ، ثُمَّ أَفَاقَ وَمَسَحَ وَجْهَهُ، قَالَ: أَفْعَلُ. لَأُحَدِّثَنَّكَ بِحَدِيثٍ حَدَّثَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا وَهُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا مَعَنَا أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ. ثُمَّ نَشَغَ أَبُو هُرَيْرَةَ نَشْغَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ مَالَ خَارًّا عَلَى وَجْهِهِ، أَسْنَدْتُهُ طَوِيلًا، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَزَلَ إِلَى الْعِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ، فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ، وَرَجُلٌ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ، فَيَقُولُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ أَثْنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ. وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ. وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ.
وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ، وَأَتَصَدَّقُ. فَيَقُولُ اللَّهُ: كَذَبْتَ. وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ. فَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ.
وَيُؤْتِي بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُ: فِيمَ قُتِلْتَ؟ فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ، فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ. فَيَقُولُ اللَّهُ ـ تَعَالى: كَذَبْتَ. وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ لَهُ: كَذَبْتَ. وَيَقُولُ اللَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، لَهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ".
ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى رُكْبَتَيَّ، فَقَالَ: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
قَالَ الْوَلِيدُ: فَأَخْبَرَنِي عُقْبَةُ أَنَّ شُفَيًّا هُوَ الَّذِي دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، فَأَخْبَرَهُ بِهَذَا. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: وَحَدَّثَنِي الْعَلَاءُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ أَنَّهُ كَانَ سَيَّافًا لِمُعَاوِيَةَ، وَأَنَّ رَجُلًا دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَحَدَّثَهُ بِهَذَا. قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الآيتان: (15 ـ 16) مِنْ سُورَةِ هُودٍ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ. وأخرجه الترمذي في الزهد (2383)، وقالَ: حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ. وَالحاكم في مُسْتَدْرَكِه: (1/579)، وَصَحَّهُ على شَرْطِ الشَّيخينِ قال: ولم يخرِّجاهُ، ووافقهُ الذَّهَبيُ. وَأَخرجَه ابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِرَقَم: (408). كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ في تَفْسِيرِهِ: (4/2/20).
والسَّرابُ: ما يَتَرَاءَى للِإِنْسانِ مِمَّا يُشْبِه الماءَ في المُنْبَسِطِ المُتَّسِعِ القَفْرِ مِنْ الأرضِ، وَفِيهِ يَكُونُ السَّرَابُ في مُنْتَصَفِ النَّهارِ عِنْدَ شِدَّةِ الحَرُّ وَبَعْدَ العَصْرِ، وإنَّما تَتَشَكَّلُ هَذِهِ الظاهِرةُ كَنَتيجَةٍ لانْكِسَارِ الضَّوْءِ.
وَفرَّقَ الإمامُ الْفَرَّاءُ ـ رحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، بَيْنَ السَّرابِ والآلِ فقَالَ: هوَ مَا لَصِقَ بِالْأَرْضِ. والآلُ الَّذي يَكونُ ضُحًى كَالمَاءِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ. "معاني القرآنِ وإِعرابُهُ" لهُ: (2/254).
وقالَ العَلَّامَةُ الأَزْهَرِيُّ في "تهذيبُ اللُّغَةِ" لَهُ: (السَّرابُ الَّذي يَجْرِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ كَأَنَّهُ المَاءُ، وَهُوَ يَكونُ نِصْفَ النَّهارِ، وَهُوَ الَّذي يَلْصَقُ بِالْأَرْضِ). وَقَدْ نَسَبَ هَذَا الْقَوْلَ لِابْنِ السِّكِّيتِ.
وَقِيلَ: هُوَ الشُّعَاعُ الَّذِي يُرَى نِصْفَ النَّهَارِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْحَرِّ فِي الْبَرِّ، يُخَيَّلُ لِلنَّاظِرِ أَنَّهُ الْمَاءُ السَّارِبُ أَيِ الجَارِي.
وَقِيلَ: هوَ مَا يَتَكَاثَفُ في قُعُوْرِ القِيْعَانِ. ومِنْ ذلكَ قولُ الشَّاعِرِ الجاهِلِيِّ امْرُئِ الْقَيْسِ الكِنْديِّ:
أَلَمْ أُنْضِ الْمَطِيَّ بِكُلِّ خَرْقٍ .......................... أَمَقِّ الطُّولِ لَمَّاعِ السَّرَابِ
تَقولُ: فُلانٌ أَمَقُّ: إِذا كانَ طَويلَ القامَةِ، وَإِضَافَةُ الْـ "أَمَقِّ" إِلَى "الطُّولِ هُنَا هُوَ كَمَا تَقولُ: فُلانٌ بَعيدُ البُعْدِ، وَلَيْسَ مِنْ إِضافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ. فَهُوَ يَقُولُ أَنَّ طُولَهُ طَويلًا للمُبَالَغَةِ في وَصْفِهِ بالطُّولِ. وَقَالَ شَاعِرٌ آخَرُ مُشَبِّهاي العُهودَ الخادِعةَ بالسَّرابِ:
وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ، لَعَلَّنَا ...................... نَكُفُّ! وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِق
فلَّما كَفَفَتُ الحربَ كانَتْ عهودُكُمْ ................. كَلَمْعِ سَرابٍ في الفَلا مُتَأَلِّقِ
يُضْرَبُ بِهِ المَثَلُ لِمَنْ يَظُنُّ بِشَيْءٍ خَيْرًا فَيَخيبُ ظنُّهُ. وَقِيلَ: هُوَ الشُّعَاعُ الَّذي يَظْهَرُ في مُنْتَصَفِ النَّهَارِ في شِدَّةِ الحَرِّ، فيُخَيَّلُ لِلنَّاظِرِ إليْهِ بِأَنَّهُ مَاءٌ سَارِبٌ.
وَقالَ ابْنُ عطِيَّةَ في تَفْسيرِهِ: السَّرَابُ مَا تَرَقْرَقَ مِنَ الْهَوَاءِ فِي الْهَجِيرِ فِي فَيَافِي الْأَرْضِ الْمُنْبَسِطَةِ. وَأَوْهَمَ النَّاظِرَ إِلَيْهِ عَلَى البُعْدِ أَنَّهُ مَاءٌ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَنْسَرِبُ كَالمَاءِ، فَكَذَلِكَ أَعْمَالُ الكافِرِ، يَظُنُّ في دُنْيَاهُ أَنَّها نَافِعَتُهُ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ القِيامَةِ، لَمْ يَجِدْها شَيْئًا، فَهِيَ كَالسَّرابِ الَّذي يَظُنُّهُ الرَائي العَطْشَانُ مَاءً، فإِذا قَصَدَهُ، وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ بِالْوُصولِ إِلَيْهِ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا. "المُحَرَّرُ الوَجِيزِ" لَهُ: (4/187).
وفَسَّرُهُ العُلَمَاءُ المُعَاصِرُونَ: بِأَنَّهُ ظَاهِرَةٌ ضَوْئِيَّةٌ، سَبَبُهَا انْعِكَاسُ الشُّعَاعِ المُنْبَعِثِ مِنَ الأَجْسَامِ المُضِيئَةِ، وَارْتِدادُهُ مِنْ سَطْحِ أَرْضٍ فَسِيحَةٍ جَرْدَاءَ، عِنْدَمَا تَرْتَفِعُ دَرَجَةُ حَرارَتِها أَثْنَاءَ النَّهارِ، فَيَتَّجِهُ الشُّعاعُ المُنْعَكِسُ عَلَى التَّدْريجِ مُحاذِيًا لِسَطْحِ الأَرْضِ، مُتَبَاعِدًا عَنْهَا قَلِيلًا قَلِيلًا، حَتَّى يَصِلَ إِلَى عَيْنِ الرَّاصِدِ، وَعِنْدَهَا تُرَى صُوَرُ الأَجْسَامِ المُضِيئَةِ مَقْلوبَةً، كَمَا لَوْ كَانَتْ مِرْآةً كَبيرَةً مُمْتَدَّةً. التَّفْسِيرُ الوَسِيطُ ـ مَجْمَعُ البُحُوثِ الإسْلاميَّةِ بالأزْهَرِ الشَّريفِ: (6/1432).
وَالسَّرَابُ سَرَابانِ عِنْدَ الإمَامِ البَغَوِيِّ: الأَوَّلُ: مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، وَهُوَ شُعَاعٌ يُرَى بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بالغَدَوَاتِ شِبْهَ المُلَاءَةِ لِأَنَّهُ يُرْفَعُ فِيهِ الشُّخُوصُ، يُرَى فِيهِ الصَّغِيرُ كَبيرًا، والقَصِيرُ طَويلًا. وَالثاني: الرَّقْرَاقُ: وَيَكُونُ بِالْعَشَايَا، وَهُوَ مَا تَرَقْرَقَ مِنَ السَّرَابِ، أَيْ: جَاءَ وَذَهَبَ. تَفْسيرُ البَغَوِي: (3/421 ـ 421).
والقِيْعَةُ: القَاعُ. وَمَعْناهُ الأَرْضُ المُنْبَسِطَةُ. وَقِيلَ: بَلْ هِيَ جَمْعُ قَاعٍ، كَ "جِيْرَةٍ جمعُ جارٍ. ويُقَالُ: قَاعٌ، وأَقْوُعٌ، وَأَقْوَاعٌ، وَقِيعَةٌ، وَقِيعَانٌ، وَهُوَ مَا اسْتَوَى مِنَ الأَرْضِ، لَا حَصَى فِيهَا وَلَا حِجَارَةَ، وَلَا يَنْبُتُ الشَّجَرُ، وَمَا حَوَالَيْهِ أَرْفَعُ مِنْهُ، وَهُوَ مَصَبُّ المَيَاهِ)
وفي "تَهْذيبُ اللُّغَةِ" لِلْأَزْهَرِيِّ أَنَّ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ ـ رَحمَهُ اللهُ، قالَ: (القَاعُ: أَرْضٌ وَاسِعَةٌ، قَدِ انْفَرَجَتْ عَنْهَا الجِبَالُ والآكامُ. (3/33).
قولُهُ: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} وَكَذَلِكَ المُشْرِكُ، الذي لا يؤمِنُ باللهِ ـ تَعَالَى، يأْتي يومَ القيامَةِ، وقد قامَ في الحياةِ الدُنيا بِبعضِ الأَعْمَالِ الخيِّرَةٍ، فَيَحْسَبُ أَنَّها سَتَنْفَعُهُ، وأنَّ اللهَ سَيُكافِئُهُ عَلَيْهَا، ولَكِنْ خابَ ظَنُّهُ، لأَنَّهُ إنَّما عمِلَها حِينَمَا عَمِلَهَا، طَلبًا للسُّمعَةِ، أَوِ المنافعِ الشَّخصيَّةِ، ولمْ يَعْمَلْهَا ابتغاءَ مَرضاةِ اللَّهِ وطَلَبًا لثوابهِ، لأنَّهُ ما كانَ يؤمِنُ باللهِ ولا بالبعثِ بعدَ الموتِ، وحتى المُؤمِنَ الذي يُلَبِّسُ عَلَيْهِ إِبْلِيسُ، فَيْشْغَلُهُ عَنْ ربِّهِ، ويُغْرِيهِ ويَغُرُّهُ، فَيَبْتَغِي بما يعمَلُ مِنْ خيرٍ وصَلَاحٍ ما يَبْتَغَيهِ الكافِرُ المُشْرِكُ مِنْ مَصالحَ آنِيَّةٍ، ومَظاهِرَ برَّاقةٍ خَدَاعَةٍ، فيذْهَبُ عملُهُ سُدًى كَمَا بيَّنَهُ الحديثُ السَّابِقُ، وكما قالَ اللهُ ـ تَعَالى، في الآيَةِ الأَخِيرَةِ مِنْ سُورةِ الكَهْفِ: {فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لقاءَ ربِّهِ فلْيَعْمَلْ عملًا صالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}، وكما قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فيما يرويهِ عنْ رَبِّهَ، فقدْ أَخْرَجَ أَئِمَّةُ الحديثِ الشَّريفِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَعْنِي: قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ((أَنَا خَيْرُ الشُّرَكَاءِ، مَنْ عَمِلَ لِي عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي، فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ، وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ). وَفي رِوَايَةٍ، قالَ: (قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ).
وفي رِوَايَةٍ أُخْرى قالَ: (قَالَ اللَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمَنْ عَمِلَ لِي عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي، فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ). أَخْرَجَهُ: أَحْمَدُ في المُسْنَدِ: (2/301 برقم: 7986 و: 6987، وفي: (2/435 برقم: 9617). وأخرجَهُ مُسْلِمٌ في صحيحِه: (8/223 برقم: 7584). وابْنُ مَاجَةَ برقم: (4202). وَابْنُ خُزَيْمَةَ برقم: (938)، وابْنُ حِبَّانَ برقم: (395).
قولُهُ: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} أَسْنَدَ هُنَا ـ سُبْحانَهُ وتعالى، فِعْلَ حُسْبانِ السَّرَابِ ماءً إِلَى الظَّمْآنِ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ للْمَاءِ تكونُ شَديدَةً جِدًّا، فَإنَّهُ لِشِدَّةِ حاجَتِهِ إليْهِ يَجْرِي التِماسًا لَهُ وَيَلْهَثُ خلفَهُ فَلَا يَجِدُهُ، ولا يتوقَّفُ الأَمْرُ عِنْدَ خَيْبَةِ المَسْعَى وفقدانِ الأمَلِ وَإِنَّمَا بدَلَ أَنْ يجِدَ حاجتَهُ، ويحصُدَ نتيجةَ ما كانَ يظنُهُ عَمَلًا صالحًا سَيُنْجيهِ ممَّا هُوَ فيهِ وينقذُهُ ممّا يَنْتَظِرُهُ مِنْ أَشَدِّ العَذابِ، يَجِدُ نَفْسَهُ بِمُواجَهَةِ المُحِاسَبَةِ عَلَى كُفرِهِ بِرَبِّهِ وَمَا قَدَّمَ مِنْ سَيِّءِ السُّلُوكِ وَقَبيحِ العَمَلِ.
فَإِنَّ أعمالَهُ الصالحةَ ذهبتْ هباءً، وأَعمالَهُ الفاسِدَةَ تنتظِرُهُ وتَتَمَثَّلُ لَهُ، وتَنْتَصِبُ أَمَامَهُ، ويجدُ نفسَهُ بِمُواجهَةِ إِلَهٍ عَظِيمٍ لَطَالَما كَفَرَ بِهِ وعصاهَ، وكَذَّبَ رَسُولَهُ وآذاهُ، ولطالما تَنَكَّرَ لنِعَمِهِ، وأَنْكَرَ فَضْلَهُ عَلَيْهِ، وَسَعَى في أَذِيَّةِ خلقِهِ وعيالِهِ وهوَ الآنَ مُطالبٌ بِأَنْ يتحمَّلَ عاقبَةَ ذلكَ كُلِّهِ، عندها يَصْحُو مِنْ غَفْلَتِهِ، ويستيقظُ مِنْ أحلامِهِ ويَتَفَاجَأُ بِضَيَاعِ الصَّالحِ مِنْ عَمْلَهِ. عَصَمنا اللهُ مِنْ ذَلِكَ.
قولُهُ: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} كثيرًا مَا يُسَوِّفُ الإنسانُ، وَيَتَّبِعُ ما يزيِّنُهُ لَهُ الشَّيْطانُ، فَيُؤَجِّلُ ويماطِلُ، وَيَظُنَّ المَوْتَ بَعِيدًا، وأَنَّ بَيْنَهُ وبينَ البَعْثِ مِنْ بَعْدِ المَوْتِ للحِسَابَ والعقابِ زمَنًا مَديدًا، لِذَلِكَ يحَذِّرُ اللهُ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، هنا بِأَنَّهُ: "سَريعُ الحِسابِ"، فإِنَّكَ يا أَيُّها الإنسانُ سَتَجِدُ نَفْسَكَ في ذَلِكَ الموقفِ بِأَسْرَعَ ممَّا كنتَ تَتَصَوَّرُ، وأَقْرَبَ مِمَّا كُنْتَ تَتَخَيَّلُ، كما قالَ ـ تَعَالى، أَيْضًا في الآيةِ: 46، مِنْ سورةِ النَّازِعاتِ: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}.
فإِنَّ للهِ ـ تَعَالَى، في إِخْفاءِ مِيعَادِ المَوْتِ لَحِكْمَةً يَعْلَمُها وأَمْرًا يُريدُهُ وَيُدَبِّرُ لِهُ؛ وَرًبَّما كانَ في الإِبْهَامِ غَايَةُ البَيَانِ، فَلَعَلَّ الإنْسانَ إِنْ خَفَضَ طَرْفَهُ لَا يَرْفَعُهُ، وَلَعَلَّ نَفَسَهُ إِنْ خَرَجَ مِنْ صَدْرِهِ لا يَعُودُ إِلَيْهِ أَبَدًا، وَرُبَّما أَغمضَ عَيْنَيْهِ فَلْمْ يَفْتَحْهُما إِلَى قَيامِ السَّاعَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فإِنَّ الحِسَابَ قَريبٌ، وقريبٌ جِدًّا، والجزاءَ سَريعٌ، وسَريعٌ جِدًّا جِدًّا؛ فيَبْقَى المَرْءُ ذَاكرًا لَمَوتِهِ عَامِلًا لآخِرَتِهِ.
قولُهُ تَعَالى: {وَالَّذِينَ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ. و "الَّذِينَ" اسمٌ مَوصولٌ، مَبْنِيٌّ على الفتْحِ في محلِّ الرَّفْعِ عَلَى كَوْنِهِ مُبْتَدَأً أَوَّلَ. خبَرُهُ الجملةُ مِنَ المُبْتَدَأِ الثاني وخبرِهِ، وهَذِهِ الجملةُ الاسْميَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ حَالِ عَمَلِ الكُفَّارِ، بَعْدَ بَيانِ حالِ عمَلِ المُؤمنينَ حينَ ضَرَبَ لهم مَثَلًا، فقالَ: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ في مِصْباحٌ ..} الآيةَ: (35)، السَّابقةَ. فَلَا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {كَفَرُوا} فعلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ على الضَّمِ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والألِفُ للتَّفْريقِ، والجُمْلةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوصولِ "الذينَ" فلا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} أَعْمَالُهُمْ: مَرفوعٌ على كونِهِ المُبْتَدَأَ الثاني، وهوَ مُضافٌ، والهاء: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والميمُ: علامَةُ تذْكيرِ الجَمْعِ. و "كَسَرَابٍ" الكافُ: حَرْفُ جَرٍّ وتشْبيهٍ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّرٍ لِلْمُبْتَدَأِ الثَّاني، و "سَرَابٍ" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "بِقِيعَةٍ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمحذوفٍ على أنَّهُ صِفَةٌ لِـ "سَراب"، ويَجوزُ أَنْ يكونَ ظَرْفًا، والعَامِلُ فِيهِ الاسْتِقْرَارُ العَامِلُ في كافِ التَّشْبِيهِ. وَ "قِيعَةٍ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مِنَ المُبْتَدَأِ الثَّاني و خَبَرِهِ، خَبَرٌ للمُبْتَدَأِ الأَوَّلِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ.
قولُهُ: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} يَحْسَبُ: فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجَازِمِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولُهُ الأَوَّلُ، و "الظَّمْآنُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. و "مَاءً" مَفْعُولُهُ الثَّاني منصوبٌ بِهِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ, صِفَةً ثَانِيَةً لِـ "سَرَابٍ"، وَقد حَسُنَ ذَلِكَ لِتَقَدُّمِ الجارِّ عَلَى الجُمْلَةِ. هَذَا إِنْ جَعَلْنا الجارَّ صِفَةً.
قولُهُ: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ} حَتَّى: حَرْفُ جَرٍّ وَغَايَةٍ، مُتَعَلِقٌ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَتْ "حتَّى" غَايَةً لَهُ، والتَّقْديرُ: وَاسْتَمَرَّ ذَاهِبًا إِلَيْهِ إِلَى عَدَمِ وُجْدَانِهِ شَيْئًا وَقْتَ مَجيئِهِ إِيَّاهُ. و "إِذَا" ظَرْفٌ لمِا يَسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، خافضٌ لِشَرْطِهِ مُتَعَلِّقٌ بجوابِهِ. "جَاءَهُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى "الظَّمْآنُ"، والهَاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصِبِ بالمَفْعُولِيَّةِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِإِضَافَةِ "إِذَا" إِلَيْهَا عَلَى كَوْنِهَا فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا.
قولُهُ: {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} لَمْ: حَرْفُ نَفْيٍ وَجَزْمٍ وَقَلْبٍ. و "يَجِدْهُ" فعلٌ مُضارعٌ مجزومٌ بِهِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ بِهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى "الظَّمْآنُ". والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على أَنَّهُ مفعولُهُ الأوَّلُ. و "شَيْئًا" مَفْعولُهُ الثاني منصوبٌ بِهِ، وَالْجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ جَوَابُ "إِذَا" الظَّرفيَّةِ المُتَضَمِّنَةِ مَعنى الشَّرطِ فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. وَجُمْلَةُ "إِذَا" في مَحَلِّ الجَرِّ بِـ "حَتَّى". وَالْجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "يَحْسَبُهُ".
قولُهُ: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} الوَاوُ: حَرْفُ عَطْفٍ، وَ "وَجَدَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ على الفتْحِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ تقديرُهُ (هُوَ) يعودُ على "الظَّمْآنُ"، ولفظُ الجَلالةِ "اللَّهَ" مَفْعُولُهُ منْصوبٌ بِهِ. و "عِنْدَهُ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَرْفِيَّةِ الاعْتِباريَّةِ، مُتَعلِّقٌ بالمَفْعُولِ بِهِ الثَّاني لِـ "وَجَدَ"، والتَّقديرُ: وَوَجدَ اللهَ مَوْجُودًا أوْ كائنًا عِنْدَهُ، وَهُوَ مُضَافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ. والجملةُ الفعلِيَّةُ هذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جملةِ جَوَابِ "إِذَا" عَلَى كونِها لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
وَقدْ تقدَّمَ ـ غَيْرَ بَعيدٍ، بِأَنَّ الضَّمائرَ المَرْفُوعَةَ في "جاءَهُ"، وَفي "يَجِدْه"، وَفي "وَجَدَ"، والضَّمَائرَ في "عِنْدَهُ"، وَفي "وَفَّاهُ"، وَفِي "حِسَابَهُ" كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى "الظَّمْآنُ"؛ لِأَنَّ المُرَادَ بِهِ الكَافِرُ المَذْكُورُ أَوَّلًا. وَقِيلَ: بَلْ الضَّميرَانِ في "جَاءَهُ"، وَ "وَجَدَ" عائدَانِ عَلى "الظَّمْآنُ"، والضَّمائرُ البَاقِيَةُ كُلُّها عائدَةٌ عَلَى الكَافِرِ، وَإِنَّما أُفْرِدَ الضَّميرُ عَلى هَذَا ـ وَإِنْ تَقَدَّمَهُ جَمْعُ، وَهُوَ قَوْلُهُ ـ سُبْحانَهُ: "والَّذينَ كَفَرُوا" حَمْلًا عَلَى المَعْنَى، إِذِ المَعْنَى: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الكُفَّارِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِاتِّسَاقِ الضَّمَائِرِ، واللهُ تَعَالى أَعْلَمُ.
قولُهُ: {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} الفاءُ: للعَطْفِ. و "وفاه" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفتحِ المقَدَّرِ عَلى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهِ عَلَى الأَلِفِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جَوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "الله" ـ تَعَالَى. والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ به في مَحَلِّ النَّصْبِ على أَنَّهُ مَفْعُولُهُ الأوَّلُ. وَ "حِسَابَهُ" مَفْعُولُهُ الثاني مَنْصُوبٌ بِهِ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. والجملَةُ الفعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جملةِ قولِهِ "وَجَدَ" على كونِها لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} الوَاوُ: للاسْتِئْنافِ، وَلفظُ الجلالةِ "اللَّهُ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ. وَ "سَرِيعُ" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ، وهوَ مُضَافٌ. وَ "الْحِسَابِ" مَجْرُورٌ بِالْإِضافَةِ إِلَيْهِ. وهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا، فليسَ لها مَحَلَّ مِنَ الإعرابِ.
قرَأَ الجُمْهورُ: {بقيعةٍ} بتاءٍ مَرْبوطَةٍ. وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحارِبٍ "بقيعَتٍ" بِتَاءٍ مَبْسُوطَةٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ قرأَ أيضًا "بقيعَهْ"، يَقِفُ عَلَيْهَا بِالْهَاءِ. وَفِيهَا أَوْجُهٌ:
أَحَدُها: أَنْ تَكونَ بِمَعْنَى "قِيْعَة" كالعامَّةِ، وَإِنَّما أَشْبَعَ الْفَتْحَةَ فَتَوَلَّدَ مِنْهَا أَلِفٌ كَقَوْلِهِ: "مُخْرَنْبِقٌ ليَنْباعَ".
والثاني: أَنَّهُ جَمْعُ قِيْعَةٍ، وَإِنَّما وَقَفَ عَلَيْهَا بالهَاءِ ذَهَابًا بِهِ مَذْهَبَ لُغَةِ طَيِّىءٍ في قَوْلِهِمْ: "الإِخْوةُ وَالأَخَوَاهْ" أَيْ: وَالأَخَوَاتُ، وَ "دَفْنُ البُنَاهُ مِنْ المَكْرُماهُ"، أَيْ: "وَدَفنُ البَنَاتِ مِنَ المَكْرُمات". وَهَذِهِ القِرَاءَةُ تُؤيِّدُ أَنَّ "قِيْعَةَ" جَمْعُ قاع.
الثالثُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: "وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: "بِقيعَاة" بِتَاءٍ مُدَوَّرَةٍ كَ "رَجُلٌ عِزْهاة"، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا بِنَاءً مُسْتَقِلًا لَيْسَ جَمْعًا وَلَا اتِّساعًا.