يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ
(25)
قولُهُ ـ تَعالى شأنُهُ: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} المُرادُ بدينِهِ: جزاؤهُمْ على ما ارْتَكَبُوا، وَهُوَ حَقٌّ لأَنَّهُ عَادِلٌ لا ظُلْمَ فِيهِ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ للآيةِ التي قَبْلَها لِأَنَّ ذِكْرَ شَهَادَةِ الْأَعْضَاءِ يَسْتَتْبِعُ السُّؤَالَ عَنْ عَاقِبَةِ تِلْكَ الشَّهَادِةِ وَآثَارِها، فَقد أُجِيبَ: بِأَنَّ اللهَ يُجَازِيَهُمُ عَلَى ما عَمِلُوا مِنْ سوءٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَشْهَدَ عَلَيْهِم جَوَارِحِهِمْ الَّتي ارْتَكَبُوا بِها مَعَاصِيَهُمْ وَمُخالَفاتِهِمْ وَجَرَائِمِهِمْ.
فإِنَّنا مَازِلْنَا نُتَابِعُ تَفْصِيلٌ الْمَوْعِظَةِ مِنْ قَوْلِهِ ـ تَعَالى، في الآيةِ: 17، السَّابِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركةِ: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
فَقدِ ابْتُدِئَ بِالوَعِيدِ لمَنْ أَحَبَّ الْعَوْدَةَ إِلَى حَديثِ الإِفْكِ، وَثُنِّيَ بِالوَعِيدِ عَلى الْعَوْدَةِ إِلَى تِلْكَ الفِرْيَةِ وَالإِشَاعَةِ الْكاذِبَةِ عَلَى أُمِّ المُؤْمِنِينَ السَّيِّدَةِ عَائشَةَ الصِّدِّيقَةِ ـ رَضي اللهُ تَعَالَى عَنْها وَأَرْضَاهَا.
قوْلُهُ: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} أَيْ: وَيَعْلَمُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، أَنَّ اللهَ هُوَ الحقُّ الْمُبيْنُ ـ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، فَهُوَ يَقْضِي بِحَقٍّ، وَيَأْخُذُ بِحَقٍّ، وَيُعْطِي بحقٍّ، ويَمْنَعُ بِحَقِّ. فَـ "الْحَقُّ" مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى المُباركَةِ ـ تَبَاركَتْ أَسْمَاؤُهُ، وَ "المُبينُ" مِنْ أَسْمَائِهِ أَيْضًا، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ "أَبَانَ" يُبِينُ فهوَ مُبينٌ، وَيُسْتَعْمَلُ هَذَا الفِعْلُ مُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى "أَظْهَرَ" عَلَى أَصْلِ مَعْنَى إِفَادَةِ الْهَمْزَةِ التَّعْدِيَةَ، كمَا يُسْتَعْمَلُ "بَانَ"، بِمَعْنَى "ظَهَرَ"، عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ الْهَمْزَةَ زَائِدَةٌ فيهِ، فَيمكِنُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ وَصْفًا لِـ "الْحَقَّ" فيكونُ بِمَعْنَى الْعَدْلِ، أَيْ: الْحَقُّ الْوَاضِحُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكونَ وَصْفًا لِلَّهِ ـ تَعَالَى، بِمَعْنَى أَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، هَادٍ مُبِينٌ. وَقَدْ أَثْبتُهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي عِدَادِ أَسْمَاءِ اللهِ ـ تَعَالَى. وَقال ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: (وَذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ ابْنَ أُبَيَّ بْنِ سَلُولٍ، كَانَ يَشُكُّ فِي الدِّيْنِ، وَيَعْلَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبيْنُ).
قولُهُ تَعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} يَوْمَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزمانيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُوَفِّيهِمُ". وهو مُضافٌ، و "إِذ" ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمانِ مَبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بالإضافَةِ إلى "يَوْمَ" وَالتَّنْوينُ عَوَضٌ مِنَ الجُمْلَةِ المَحْذوفَةِ، والتَّقْديرُ: يَوَمَ إِذْ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ .. الخ. و "يُوَفِّيهِمُ" فعلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وعلامَةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مُقَدَّرةٌ عَلَى آخرِهِ لثِقَلِها على الياءِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المفعوليَّةِ على كونِهِ مفعولَ "يُوَفِّي" الأَولَ لأنَّ "يوفِّي" هنا بمعنى "يُعْطي" فيتعدَّى لمَفْعولينِ، والميم: علامةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ. ولفظُ الجلالةِ "اللَّهُ" فَاعَلُهُ ومرفوعٌ بِهِ. و "دِينَهُمُ" مَفْعُولُهُ الثاني منصوبٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والميم: علامةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ. و "الْحَقَّ" صِفَةٌ لِـ "دِينَهُمُ" مَنْصوبٌ مِثْلُهُ. والجمْلَةً الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتِأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَيَعْلَمُونَ} الواوُ: للعَطْفِ، و {يَعْلَمُونَ} فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَعَلَامَةُ رفعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِليَّةِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلَى جملةِ "يُوَفِّيهِمُ" على كونِها جملةً مُسْتِأْنَفَةً لَا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {أَنَّ اللَّهَ هو الْحَقَّ الْمُبِينَ} أَنَّ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتوكيدِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. وَ "هُوَ" ضَمِيرُ فَصْلٍ للتَّوكيدِ. و "الْحَقُّ" خَبَرُ "أَنَّ". و "الْمُبِينُ" صِفَةٌ لِـ "الْحَقُّ" مرْفوعةٌ مِثْلُهُ. وَجُمْلَةُ "أَنَّ" مِنِ اسْمِها وخَبَرِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ، سَادٍّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "يَعْلَمُونُ".
قرأ العامَّةُ: {يُوَفِّيهِمُ} بِتَشْديدِ الفَاءِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "يُوْفِيْهِمْ" بِتَخْفيفِها مِنْ "أَوْفى".
قرأ العامَّةُ: {الحَقَّ} بالنَّصْبِ على أنَّهُ نعتٌ لـ "دينَهم"، وقرأ أبو حَيَوَةَ، وَأَبُو رَوْقٍ، وَمُجاهِدٌ: "الحقُّ" بالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ للهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَال، وَهِي قراءةُ ابْنِ مَسْعودٍ وأُبَيٍّ بنِ كَعْبٍ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُما.