يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
(17)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} هَذِهِ الآيةُ تخُصُّ مَنْ شَارَكَ بِقَذْفِ السَّيِّدَةِ عائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، مِنَ المُؤْمِنِينَ فقطْ، لِأَنَّ المَوعِظَةَ والتَّحْذيرَ يَنْفَعُ مَعَهُمْ، فَهُمْ مُؤْمِنُونَ باللهِ، يخافونَهُ وَيَحْذَرُونَ غَضَبَهُمْ، ويَخْشَوْنَ عَذابَهُ، أَمَّا الكافِرُونَ وَالمُنَافِقُونَ فَإِنَّ المَوْعِظَةَ لَا تَنْفعُهُمُ، لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ باللهِ أَصْلًا، أَوْ أَنَّ في إِيمانِهِمْ شَكٌّ وَدَخَلٌ. ولِذَلِكَ قالَ ـ تَعَالى: "إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"، أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ بأنَّ اللهَ مَوْجُودٌ وَعَادِلٌ وَقَادِرٌ عَلَى مُعَاقَبَتِكمْ وَالانْتِقامِ مِنْكُمْ، مُوقنينَ بِاللَّهِ وَشَرْعِهِ، مُعَظِّمُينَ رَسُولَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا تقعوا في مِثْلِ هَذا الخَطَأ مَرَّةً أُخْرِى. التفسير فإِنَّ مِنْ شَرْطِ الإيمانِ باللهِ تَرْكَ قَذْفِ المُحْصَناتِ، فإِنْ كُنْتُمْ مُؤمنينَ فَلا تَعُودُوا لِمِثْلِ مَا قُلْتُمْ في أُمِّكمْ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا وأرضاها.
فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِالنِّفاقِ أَوِ الْكُفْرِ فَإنَّ لَهُ حُكْمًا آخَرَ. فَكونوا على حذَرٍ، وَلَا تَعُودُوا لِمِثْلِها أَبدًا، لِأَنَّ قَذْفَ المُحْصَنَاتِ جُرْمٌ عَظِيمٌ، وَكَبيرَةٌ يَسْتَحِقُّ مُرْتكِبُها العِقَابَ الشَّديدَ عليْها، والعَذَابَ الأَليمَ مِنَ اللهِ ـ جَلَّ جَلَالُهُ. وَالْأَبَدُ: يَشْمَلُ الزَّمَنَ الْمُسْتَقْبَلَ كُلُّهُ.
قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما ـ في رِوايَةِ مِقْسَمِ بْنِ بَجَرَةَ: يُحَرِّمُ اللهُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ فِي "مُصَنَّفِهِ": (13/371)، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ في "تَفْسيرِهِ": (7/24 ب).
وفي روايةٍ أُخرى قالَ: "يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا": يُحَرِّجُ اللهُ عَلَيْكُم. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ.
وَقَالَ مُجاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنْهُ: يَنْهَاهُمُ اللهُ أَنْ يَعُودُوا لِمِثْلِهِ. رواهُ سُفْيانُ في "تَفْسيرِهِ: (ص: 222)، وَالطَّبَرَانِي في "المُعجَمُ الكَبيرِ": (23/145). وَأَخْرَجَه الْفرْيَابِيُّ أَيْضًا.
قوْلُهُ تَعَالَى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ} يَعِظُكُمُ: فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذَكَّرِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} أَنْ: حرفُ نَصْبٍ مَصْدَرِيٌّ. و "تَعُودُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ منصوبٌ بها وعلامةُ نَصْبِهِ حذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخمْسَةِ، وَواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والألِفُ للتفريقِ. و "لِمِثْلِهِ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَعُودُوا"، و "مِثْلِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "أَبَدًا" منصوبٌ على الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَعُودُوا" أَيْضًا. وَ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةُ وما بعدَها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ بِنَزْعِ الخافِضِ المُتَعَلِّقِ بِـ "يَعِظُكُمُ"، والتَّقْديرُ: يَعِظُكُمْ مِنْ عَوْدِكُمْ لِمِثْلِهِ أَبَدًا.
وَقدَ جَوَّزُوا في قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "أَنْ تَعُودُوا" وُجُوهًا ثَلاثَةً:
ـ أَوَّلُها: أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَالتقديرُ: يَعِظُكُمْ اللهُ كَرَاهَةَ أَنْ تَعُودُوا لمِثْلِها.
ـ ثانيها: أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ حرفِ "في"، أَيْ: في أَنْ تَعُودُوا، نَحْوَ قَولِكَ: وَعَظْتُ فلانًا في كَذَا فَتَرَكَهُ.
ـ وَالثالث: أَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى فِعْلٍ يَتَعَدَّى بِحرفِ الجَرِّ: "عَنْ"، ثُمَّ حُذِفَتْ "عَنْ"، أَيْ: يَزْجُرُكُمْ بِالْوَعْظِ عَنِ العَوْدِ.
وَعَلَى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ الأَخيريْنِ يجْيءُ القولانِ في مَحَلِّ "أَنْ" بَعْدَ نَزْعِ الخافِضِ.
قولُهُ: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إِنْ: حَرْفُ شَرْطٍ جازِمٌ. و "كُنْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ نَاقِصٌ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ لِاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ تاءُ الفاعِلِ، في مَحَلِّ الجَزمِ بِـ "إِنْ" على كونِهِ فعلَ شَرْطٍ لهَا، وَجَوَابُ شَرْطِها مَحْذوفٌ، والتقديرُ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَلَا تَعُودُوا لِمِثْلِهِ. وَتاءُ الفاعِلِ هَذِهِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ اسْمُهُ، وَالميمُ للجَمْعِ المُذكَّرِ. وَ "مُؤمِنينِ" خَبَرُ "كانَ" مَنْصُوبٌ بِهَا، وَجُمْلَةُ الشَّرْطِ مِنْ "إِنْ" وفعلِ شَرْطِها وجوابِها جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.