الموسوعةالقرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ قراءات ـ أحكام ـإعراب ـ تحليل لغة
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزء الثامن عشر ـ المجلد السادس والثلاثون
سورةُ النّور (24)
الآيةَ: 9
وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9).
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وَتحْلِفُ فِي المَرَّةِ الخَامِسَةِ أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ زَوْجُها مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنى.
والمَغْضُوبُ عَلَيْهِ هُوَ الذي يَعْلَمُ الحَقَّ ثُمَّ يَحِيدُ عَنْهُ، ولِذَلِكَ فقد خَصَّهَا اللهُ ـ تَعَالى بِالغَضَبِ، لأَنَّ الرَّجُلَ في الغَالِبِ لَا يَتَجَشَّمُ فَضِيحَةَ أَهْلِهِ وَرَمْيَها بالزِّنَى إِلَّا إِذا كانَ صَادِقًا مَضطَّرًّا، وَهِيَ تَعْلَمُ صِدْقَهُ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ.
وفي تَخْصيصِ المَرْأَةِ بِالْغَضَبِ تَغْليظٌ عَلَيْها لأَنَّها مَادَّةُ الفُجُورِ، فالنِّساءُ عادَةً كثيرًا مَا يَتَلَفظْنَ باللَّعْنِ، فَرُبَّما يَتَجَرَّأْنَ عَلَى التَّفَوُّهِ بِهَذِهِ الكَلِمةِ لخِفَّةِ وَقْعِهَا على قُلُوبِهِنَّ بِسَببِ كَثْرَةِ جَرْيِها على أَلْسِنَتِهِنَّ، بِخِلَافِ كَلِمَةِ غَضَبِهِ ـ تَعَالى.
وَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلَ امْرَأَتَهُ فَإنَّ إِقامةَ الحدِّ عَليْهِ واجِبٌ كَالْأَجْنَبِيِّ، بالجَلْدِ إِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً، أَوِ التَّعْزِيرِ إِنْ كَانتْ غيرَ مُحْصَنَةً. غَيْرَ أَنَّ الْمَخْرَجَ مِنْهُمَا مُخْتَلِفٌ، فإِنَّ قَذَفَها أَجْنَبِيٌّ وَجَبَ علَيْهِ الْحَدُّ، إِلَّا أَنْ يُقِرَّ الْمَقْذُوفُ بالتُّهْمَةِ، أَوْ يَشهَدَ مَعَهُ أَرْبَعَةٌ ثلاثةٌ مِنَ الشُهَداءِ، كَمَا تَقَدَّمَ بيانُهُ، أَمَّا إِذا قَذَفَها زَوْجُها فإِنَّ الحدَّ يسْقُطُ عنهُ بإقْرَارِ الزَّوجةِ أَوْ بالشُّهودِ أَو بالمُلاعَنَةِ، فَاللِّعَانُ فِي قَذْفِ الزَّوْجَةِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا يتعَذَّرُ علَيْهِ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَلَى الْعَارِ، ولذلكَ فَقد جَعَلَ اللَّهُ اللِّعَانَ حُجَّةً لَهُ عَلَى صِدْقِهِ.
وَإِذَا أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى زِنَاهَا أَوِ اعْتَرَفَتْ بِالزِّنَا سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ وَاللِّعَانُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ وَلَدٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِهِ، وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُلَاعِنَ بَيْنَهُمَا يَبْدَأُ فَيُقِيمُ الرَّجُلَ وَيُلَقِّنُهُ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ، فَيَقُولُ: قُلْ أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ فُلَانٌةً بِالزِّنَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَمَاهَا بِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ سَمَّاهُ بِاللِّعَانِ، وَإِنْ رَمَاهَا بِجَمَاعَةٍ سَمَّاهُمْ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ كَمَا يُلَقِّنُهُ الْإِمَامُ. وَإِنْ كَانَ وَلَدٌ أَوْ حَمْلٌ يُرِيدُ نَفْيَهُ قالَ: وَإِنَّ هَذَا الْوَلَدَ ـ أَوِ الْحَمْلَ، لَمِنَ الزِّنَا، وما هُوَ مِنِّي، وَيَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: عَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ فُلَانٌةً، وَإِذَا أَتَى بِكَلِمَةٍ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ تَلْقِينِ الْحَاكِمِ لَا تَكُونُ مَحْسُوبَةً، فَإِذَا فَرَغَ الرَّجُلُ مِنَ اللِّعَانِ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ، وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ حُرْمَةً أَبَدِيَّةً، وَانْتَفَى عَنْهُ نَسَبُ الوَلَدِ، وَسَقَطَ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ، وَوَجَبَ عَلَى الْمَرْأَةِ حَدُّ الزِّنَا، فإِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً رُجِمَتْ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ جُلِدَتْ وَغُرِّبَتْ. وَيُجْزِي فِي ذَلِكَ حَيْضَةٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَنْفِيهِ إِلَّا بِثَلَاثِ حِيَضٍ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ مِنَ الشُّغْلِ يَقَعُ بِهَا كَمَا فِي اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ، وَإِنَّمَا رَاعَيْنَا الثَّلَاثَ حِيَضٍ فِي الْعَدَدِ لِحُكْمٍ آخَرَ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الطَّلَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ـ تَعَالَى.
وَحَكَى اللَّخْمِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ مَرَّةً: لَا يُنْفَى الْوَلَدُ بِالِاسْتِبْرَاءِ، لِأَنَّ الْحَيْضَ يَأْتِي عَلَى الْحَمْلِ. وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ، وَقَالَهُ الْمُغِيرَةُ. وَقَالَ: لَا يُنْفَى الْوَلَدُ إِلَّا بِخَمْسِ سِنِينَ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
واختلَفَ الأئمَّةُ في اللِّعَانِ، فقالَ الشَّافعيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إنَّما يَكُونُ فِي كُلِّ زَوْجَيْنِ، حُرَّيْنِ كَانَا أَوْ عَبْدَيْنِ، مُؤْمِنَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ، فَاسِقَيْنِ أَوْ عَدْلَيْنِ. وَلَا لِعَانَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأَمَتِهِ، وَلَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّ وَلَدِهِ. وَقِيلَ: لَا يَنْتَفِي وَلَدُ الْأَمَةِ عَنْهُ إِلَّا بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ، بِخِلَافِ اللِّعَانِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِذَا نَفَى وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ لَاعَنَ. وَهُوَ تَحْصِيلُ مَذْهَبِ الإمامُ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَصِحُّ اللِّعَانُ إِلَّا مِنْ زَوْجَيْنِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَمِينٌ، فَكُلُّ مَنْ صَحَّتْ يَمِينُهُ صَحَّ قَذْفُهُ وَلِعَانُهُ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مُكَلَّفَيْنِ. وَفِي قَوْلِهِ: ((وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا)). دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُلَاعَنَةَ تَجِبُ عَلَى كُلِّ زَوْجَيْنِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَخُصَّ رَجُلًا مِنْ رَجُلٍ وَلَا امْرَأَةً مِنَ امْرَأَةٍ، وَقد نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ فَقَالَ ـ تباركَتْ أَسْماؤُهُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ} الآيةَ. وَلَمْ يَخُصَّ زَوْجًا مِنْ زَوْجٍ أَبَدًا. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الإمامُ مَالِكٌ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الأَئمَّةُ: الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَاللِّعَانُ يُوجِبُ فَسْخَ النِّكَاحِ، فَقَدْ أَشْبَهَ الطَّلَاقَ، فَكُلُّ مَنْ يَجُوزُ طَلَاقُهُ يَجُوزُ لِعَانُهُ. وَاللِّعَانُ أَيْمَانٌ لَا شَهَادَاتٌ، قَالَ اللَّهُ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ المائدةِ ـ وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: {لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما} الآية: 107، أَيْ أَيْمَانُنَا. وَقَالَ في الآيَةِ الأولى مِنْ سُورَةِ "المنافقون": {إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}. ثُمَّ قالَ بعدَ ذَلِكَ في الآيةِ: 16، مِنْها: {اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً}. وَقَالَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ: ((لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (1/238 (2131)، و: (1/245 (2199)، و: (1/273 (2468). والبُخَاريُّ: 3/233 (2671)، و: (6/126 (4747)، و (7/69 (5307)، وَأَبُو دَاوُد: (2254)، و: (2256)، وَابْنُ مَاجَةَ: (2067)، والتِّرْمِذِيّ: (3179)، وَالنَّسَائي: في "الكُبْرَى": (8169). وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، كالحَدِيثِ الذي أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ ـ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ: ((أَرْبَعَةٌ لَيْسَ بَيْنَهُمْ لِعَانٌ لَيْسَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْأَمَةِ لِعَانٌ وَلَيْسَ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْعَبْدِ لِعَانٌ وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْيَهُودِيَّةِ لِعَانٌ وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ لِعَانٌ)). أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ في سُنَنِهِ: (ج: 3/ص: 163، حديث رقم: 239). وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ في مُصَنَّفِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَهُمَا إِمَامَانِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَوْلُهُ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ ـ في سنن الدارقطني: "يرفعاه". إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاحْتَجُّوا مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْأَزْوَاجَ لَمَّا اسْتُثْنَوْا مِنْ جُمْلَةِ الشُّهَدَاءِ بِقَوْلِهِ: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ}، وَجَبَ أَلَّا يُلَاعِنَ إِلَّا مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَتْ يَمِينًا مَا رُدِّدَتْ، وَالْحِكْمَةُ فِي تَرْدِيدِهَا قِيَامُهَا فِي الأَعْدَادِ مَقَامَ الشُّهُودِ في الزِّنَى. وَهَذَا يَبْطُلُ بِيَمِينِ الْقَسَامَةِ فَإِنَّهَا تُكَرَّرُ وَلَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ إِجْمَاعًا، وَالْحِكْمَةُ فِي تَكْرَارِهَا التَّغْلِيظُ فِي الْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْفَيْصَلُ فِي أَنَّهَا يَمِينٌ لَا شَهَادَةٌ أَنَّ الزَّوْجَ يَحْلِفُ لِنَفْسِهِ فِي إِثْبَاتِ دَعْوَاهُ وَتَخْلِيصِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ شَاهِدًا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ حُكْمًا عَلَى غَيْرِهِ هَذَا بَعِيدٌ فِي الْأَصْلِ مَعْدُومٌ فِي النَّظَرِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مُلَاعَنَةِ الْأَخْرَسِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُلَاعِنُ، لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَصِحُّ طَلَاقُهُ وَظِهَارُهُ وَإِيلَاؤُهُ، إِذَا فُهِمَ ذَلِكَ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُلَاعِنُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ فَيُنْكِرُ اللِّعَانَ، فَلَا يُمْكِنُنَا إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: رَأَى أَبُو حَنِيفَةَ عُمُومَ الْآيَةِ فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بالزنى قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ، وَنَسِيَ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ} وَهَذَا رَمَاهَا مُحْصَنَةً غَيْرَ زَوْجَةٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اللِّعَانُ فِي قَذْفٍ يَلْحَقُ فِيهِ النَّسَبُ، وَهَذَا قَذْفٌ لَا يَلْحَقُ فِيهِ نَسَبٌ فَلَا يُوجِبُ لِعانًا، كَمَا لَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً.
إِذَا قَذَفَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ نُظِرَتْ، فَإِنْ كَانَ هُنَالِكَ نَسَبٌ يُرِيدُ أَنْ يَنْفِيَهُ أَوْ حَمْلٌ يَتَبَرَّأُ مِنْهُ لَاعَنَ وَإِلَّا لَمْ يُلَاعِنْ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: لَا يُلَاعِنُ بِحَالٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُلَاعِنُ فِي الْوَجْهَيْنِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ. وَهَذَا يُنْتَقَضُ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، بَلْ هَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ تَقَدَّمَ وَهُوَ يُرِيدُ الِانْتِفَاءَ مِنَ النَّسَبِ وَتَبْرِئَتَهُ مِنْ وَلَدٍ يَلْحَقُ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنَ اللِّعَانِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ حَمْلٌ يُرْجَى وَلَا نَسَبٌ يُخَافُ تَعَلُّقُهُ لَمْ يَكُنْ لِلِّعَانِ فَائِدَةٌ فَلَمْ يُحْكَمْ بِهِ وَكَانَ قَذْفًا مُطْلَقًا دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ} الْآيَةَ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَبَطَلَ مَا قَالَهُ الْبَتِّيُّ لِظُهُورِ فَسَادِهِ.
ولَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ غَائِبًا فَتَأْتِي امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ فِي مَغِيبِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَيُطَلِّقُهَا فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا، ثُمَّ يَقْدَمُ فَيَنْفِيهِ فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَها هَهُنَا بَعْدَ الْعِدَّةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَدِمَ بَعْدَ وَفَاتِهَا وَنَفَى الْوَلَدَ لَاعَنَ لِنَفْسِهِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ الْعِدَّةِ، وَيَرِثُهَا لِأَنَّهَا مَاتَتْ قَبْلَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا.
إِذَا انْتَفَى مِنَ الْحَمْلِ وَوَقَعَ ذَلِكَ بِشَرْطِهِ لَاعَنَ قَبْلَ الْوَضْعِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُلَاعِنُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَضَعَ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رِيحًا أَوْ دَاءً مِنَ الْأَدْوَاءِ. وَدَلِيلُنَا النَّصُّ الصَّرِيحُ بِأَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَاعَنَ قَبْلَ الْوَضْعِ، وَقَالَ: ((إِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِأَبِيهِ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فَهُوَ لِفُلَانٍ)). فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النعت المكروه.
إِذَا قَذَفَ زَوْجِهِ بالوَطْءِ فِي الدُّبُرِ لَاعَنَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُلَاعِنُ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ اللِّوَاطَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وإِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ زَنَتْ قَبْلَ الْتِعَانِهِ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْمُزَنِيُّ: لَا يَسْقُطُ الحدُّ عَنِ القاذِفِ، وزَني الْمَقْذُوفِ بَعْدَ أَنْ قُذِفَ لَا يَقْدَحُ فِي حَصَانَتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَا يَرْفَعُهَا، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ الْحَصَانَةُ وَالْعِفَّةُ فِي حَالِ الْقَذْفِ لَا بَعْدَهُ. كَمَا لَوْ قَذَفَ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ الْمَقْذُوفُ بَعْدَ الْقَذْفِ، وَقَبْلَ أَنْ يُحَدَّ الْقَاذِفُ، لَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ عَنْهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحُدُودَ كُلَّهَا مُعْتَبَرَةٌ بِوَقْتِ الْوُجُوبِ لَا وَقْتِ الْإِقَامَةِ. وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ اللِّعَانِ وَالْحَدِّ مَعْنًى لَوْ كانَ مَوْجُودًا في ابْتِداءٍ مَنَعَ صِحَّةَ اللِّعَانِ وَوُجُوبَ الْحَدِّ، فَكَذَلِكَ إِذَا طَرَأَ فِي الثَّانِي، كَمَا إِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ ظَاهِرُهُمَا الْعَدَالَةُ فَلَمْ يَحْكُمِ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى ظَهَرَ فِسْقُهُمَا بِأَنْ زَنَيَا أَوْ شَرِبَا خَمْرًا فَلَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِمَا تِلْكَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحُكْمَ بِالْعِفَّةِ وَالْإِحْصَانِ يُؤْخَذُ مِنْ طريقِ الظَّاهِرِ لَا مِنْ حَيْثُ الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ، وَقَدْ قَالَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ: (ظَهْرُ الْمُؤْمِنِ حِمًى)، فَلَا يُحَدُّ الْقَاذِفُ إِلَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَمَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ كَبِيرَةٌ لَا تَحْمِلُ تَلَاعَنَا، هُوَ لِدَفْعِ الْحَدِّ، وَهِيَ لِدَرْءِ الْعَذَابِ. فَإِنْ كَانَتْ صغيرةً لَا تَحْمِلُ، لَاعَنَ هُوَ لِدَفْعِ الْحَدِّ وَلَمْ تُلَاعِنْ هِيَ لِأَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ لَمْ يَلْزَمْهَا شَيْءٌ. وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: لَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ مَنْ لَمْ تَبْلُغْ. قَالَ اللَّخْمِيُّ: فَعَلَى هَذَا لَا لِعَانَ عَلَى زَوْجِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا تَحْمِلُ.
وإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ بالزِّنَى أَحَدُهُمْ زَوْجُهَا فَإِنَّ الزَّوْجَ يُلَاعِنُ وَتُحَدُّ الشُّهُودُ الثَّلَاثَةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُمْ لَا يُحَدُّونَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا شَهِدَ الزَّوْجُ وَالثَّلَاثَةُ ابْتِدَاءً قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ وَحُدَّتِ المَرْأَةُ. وَدَلِيلُنا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ}، الْآيَةَ. فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ قَذَفَ مُحْصَنًا وَلَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ حُدَّ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَأْتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ سِوَى الرَّامِي، وَالزَّوْجُ رَامٍ لِزَوْجَتِهِ فَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ الشُّهُودِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِذَا ظَهَرَ بِامْرَأَتِهِ حَمْلٌ فَتَرَكَ أَنْ يَنْفِيَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ سُكُوتِهِ. وَقَالَ شُرَيْحٌ وَمُجَاهِدٌ: لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ أَبَدًا. وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ سُكُوتَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ رَضِى بِهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ ثُمَّ يَنْفِيهِ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ وَضَعَتْ، وقال: رجوتُ أَنْ يَكونَ رِيحًا يَنْفُشُ، أَوْ تُسْقِطُهُ فَأَسْتَرِيحُ مِنَ الْقَذْفِ، فَهَلْ لِنَفْيِهِ بَعْدَ وَضْعِهِ مُدَّةٌ مَا فَإِذَا تَجَاوَزَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَنَحْنُ نَقُولُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ فِي سُكُوتِهِ حَتَّى مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَهُوَ رَاضٍ بِهِ لَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَيْضًا: مَتَى أَمْكَنَهُ نَفْيُهُ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ تَمَكُّنِهِ مِنَ الْحَاكِمِ فَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَعْتَبِرُ مُدَّةً. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ ـ صاحبا أبي حنيفةَ: يُعْتَبَرُ فِيهِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، مُدَّةُ النِّفَاسِ. قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: وَالدَّلِيلُ لِقَوْلِنَا هُوَ أَنَّ نَفْيَ وَلَدِهِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، وَاسْتِلْحَاقَ وَلَدٍ لَيْسَ مِنْهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُوَسَّعَ عَلَيْهِ لِكَيْ يَنْظُرَ فِيهِ وَيُفَكِّرَ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ نَفْيُهُ أولا. وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْحَدَّ ثَلَاثَةً لِأَنَّهُ أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ وَآخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ، وَقَدْ جُعِلَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ يُخْتَبَرُ بِهَا حَالُ الْمُصَرَّاةِ "المصراة: (هِيَ النَّاقَةُ، أَوِ البَقَرَةُ، أَوِ الشَّاةُ، تُصَرُّ أَخْلَافُهَا، وَلَا تُحْلَبُ أَيَّامًا، حَتَّى يَجْتَمِعَ اللَّبَنُ في ضَرْعِهَا، فإِذَا حَلَبَهَا المُشْتِرِي اسْتَغْزَرَها. وَمِنْهُ الحديثُ الشَّريفُ: ((مَنِ اشْتَرَى مُصْرَاةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ)). أَيْ خَيْرُ الأَمْرَيْنِ لَهُ، إِمَّا إِمْسَاكُ المَبيعِ أَوْ رَدُّهُ. وفي روايةٍ: ((مَنِ اشْتَرَى مُصَرَّاةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ لَا سَمْرَاءَ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ: (6/595 (22114) و: (14/188 (36173). وأَحمدُ: (2/386 (8994) و (2/406 (9255)، و: (2/430 (9555)، و: (2/469 (10060)، و: (2/481 (10244)، والتِّرمِذي: (1251).
فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُنَا. وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَلَيْسَ اعْتِبَارُهُمْ بِأَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ مُدَّةِ الْوِلَادَةِ وَالرَّضَاعِ، إِذْ لَا شَاهِدَ لَهُمْ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا نَحْنُ شَاهِدًا فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ مُدَّةِ الْمُصَرَّاةِ.
قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ إِذَا قَالَتِ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ يَا زَانِيَهْ ـ بِالْهَاءِ، وَكَذَلِكَ الْأَجْنَبِيُّ لِأَجْنَبِيٍّ، فَلَسْتُ أَعْرِفُ فِيهِ نَصًّا لِأَصْحَابِنَا، وَلَكِنَّهُ عِنْدِي يَكُونُ قَذْفًا وَعَلَى قَائِلِهِ الْحَدُّ، وَقَدْ زَادَ حَرْفًا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفة، وأبو يوسف: لَا يَكُونُ قَذْفًا. وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانٍ أَنَّهُ قَذْفٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ فِي الرَّجُلِ قَذْفًا هُوَ أَنَّ الْخِطَابَ إِذَا فُهِمَ مِنْهُ مَعْنَاهُ ثَبَتَ حُكْمُهُ، سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظٍ أَعْجَمِيٍّ أَوْ عَرَبِيٍّ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ لِلْمَرْأَةِ زَنَيْتَ (بِفَتْحِ التَّاءِ) كَانَ قَذْفًا، لِأَنَّ مَعْنَاهُ يُفْهَمُ مِنْهُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُخَاطَبَ الْمُؤَنَّثُ بِخِطَابِ الْمُذَكَّرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ يوسُف: {وَقالَ نِسْوَةٌ} الآيةَ: 30، صَلَحَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ يَا زَانٍ لِلْمُؤَنَّثِ قَذْفًا. وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَنَّثَ فِعْلُ الْمُذَكَّرِ إِذَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لِخِطَابِهِ بِالْمُؤَنَّثِ حُكْمٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
واخْتَلَفُوا فِي الزَّوْجِ إِذَا أَبَى مِنْ الِالْتِعَانِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ ـ تَعَالَى، جَعَلَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ الْحَدَّ وَعَلَى الزَّوْجِ اللِّعَانَ، فَلَمَّا لَمْ يَنْتَقِلِ اللِّعَانُ إِلَى الْأَجْنَبِيِّ لَمْ يَنْتَقِلِ الْحَدُّ إِلَى الزَّوْجِ وَيُسْجَنُ أَبَدًا حَتَّى يُلَاعِنَ لِأَنَّ الْحُدُودَ لَا تُؤَخَّرُ قِيَاسًا. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنْ لَمْ يَلْتَعِنِ الزَّوْجُ حُدَّ، لِأَنَّ اللِّعَانَ لَهُ بَرَاءَةٌ كَالشُّهُودِ لِلْأَجْنَبِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ الْأَجْنَبِيُّ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ حُدَّ، فَكَذَلِكَ الزَّوْجُ إِنْ لَمْ يَلْتَعِنْ. وَفِي حَدِيثِ الْعَجْلَانِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا، لِقَوْلِهِ: إِنْ سَكَتُّ سَكَتُّ عَلَى غَيْظٍ وَإِنْ قَتَلْتُ قُتِلَتُ وَإِنْ نَطَقْتُ، جُلِدْتُ.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ مَعَ شُهُودِهِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُلَاعِنُ كَانَ لَهُ شُهُودٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، لِأَنَّ الشُّهُودَ لَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ فِي غَيْرِ دَرْءِ الْحَدِّ، وَأَمَّا رَفْعُ الْفِرَاشِ وَنَفْيُ الْوَلَدِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ اللِّعَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إِنَّمَا جُعِلَ اللِّعَانُ لِلزَّوْجِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شُهُودٌ غَيْرَ نَفْسِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ}.
أَمَّا الْبُدَاءَةُ فِي اللِّعَانِ فبِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ الزَّوْجُ، وَفَائِدَتُهُ دَرْءُ الْحَدِّ عَنْهُ وَنَفْيُ النَّسَبِ مِنْهُ، لِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ: ((الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ)). وَلَوْ بُدِئَ بِالْمَرْأَةِ قَبْلَهُ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ عَكْسُ مَا رَتَّبَهُ اللَّهُ ـ تباركَ وتَعَالَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يجزى. وهَذَا باطِلٌ، لِأَنَّهُ خِلَافُ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يَرُدُّهُ إِلَيْهِ وَلَا مَعْنًى يَقْوَى بِهِ، بَلِ الْمَعْنَى لَنَا، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَدَأَتْ بِاللِّعَانِ فَتَنْفِي مَا لَمْ يَثْبُتْ وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ.
وَكَيْفِيَّةُ اللِّعَانِ أَنْ يَقُولَ الْحَاكِمُ لِلْمُلَاعِنِ: قُلْ أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَرَأَيْتُهَا تَزْنِي وَرَأَيْتُ فَرْجَ الزَّانِي فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَمَا وَطِئْتُهَا بَعْدَ رُؤْيَتِي. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: لَقَدْ زَنَتْ وَمَا وَطِئْتُهَا بَعْدَ زِنَاهَا. يُرَدِّدُ مَا شَاءَ مِنْ هَذَيْنَ اللَّفْظَيْنِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَإِنْ نكل عن هذه الايمان أوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا حُدَّ. وَإِذَا نَفَى حَمْلًا قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدِ اسْتَبْرَأْتُهَا وَمَا وَطِئْتُهَا بَعْدُ، وَمَا هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ، فَيَحْلِفُ بِذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَيَقُولُ فِي كُلِّ يَمِينٍ مِنْهَا: وَإِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِي قَوْلِي هَذَا عَلَيْهَا. ثُمَّ يَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: عَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَإِنْ شَاءَ قَالَ: إِنْ كُنْتُ كَاذِبًا فِيمَا ذَكَرْتُ عَنْهَا. فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ وَانْتَفَى عَنْهُ الْوَلَدُ. فَإِذَا فَرَغَ الرَّجُلُ مِنَ الْتِعَانِهِ قَامَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَهُ فَحَلَفَتْ بِاللَّهِ أَرْبَعَةَ أَيْمَانٍ، تَقُولُ فِيهَا: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ، أَوْ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا ادَّعَاهُ عَلَيَّ وَذَكَرَ عَنِّي. وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا قَالَتْ: وَإِنَّ حَمْلِي هَذَا مِنْهُ. ثُمَّ تَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: وَعَلَيَّ غَضَبُ اللَّهِ إِنْ كَانَ صَادِقًا، أَوْ إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ. وَمَنْ أَوْجَبَ اللِّعَانَ بِالْقَذْفِ يَقُولُ فِي كُلِّ شَهَادَةٍ مِنَ الْأَرْبَعِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ فُلانَةَ مِنَ الزِّنَى. وَيَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: عَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ كاذِبًا فِيما رَمَيْتُها بِهِ مِنَ الزِّنَى. وَتَقُولُ هِيَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ فِيمَا رَمَاني بِهِ مِنَ الزِّنَى. وَتَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: عَلَيَّ غَضَبُ اللَّهِ إِنْ كانَ صَادِقًا فِيما رَمَاني بِهِ مِنَ الزِّنَى. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقُولُ الْمُلَاعِنُ أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجِي فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ، وَيُشِيرُ إِلَيْهَا إِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً، يَقُولُ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يُوعِظُهُ الْإِمَامُ وَيُذَكِّرُهُ اللَّهَ ـ تَعَالَى، وَيَقُولُ: إِنِّي أَخَافُ إِنْ لَمْ تَكُنْ صَدَقْتَ أَنْ تَبُوءَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ، فَإِنْ رَآهُ يُرِيدُ أَنْ يَمْضِيَ عَلَى ذَلِكَ أَمَرَ مَنْ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فِيهِ، وَيَقُولُ: إِنَّ قَوْلَكَ وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ مُوجِبًا، فَإِنْ أَبَى تَرَكَهُ يَقُولُ ذَلِكَ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيَّ إِنْ كُنْتُ مِنَ الكاذبينَ فيما رَمَيْتُ بِهِ فُلانَة مِنَ الزِّنى. احْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَ رَجُلًا حَيْثُ أَمَرَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ عِنْدَ الْخَامِسَةِ، يَقُولُ: إِنَّها مُوجِبَةٌ.
واخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ مَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِرَجُلٍ سَمَّاهُ، هَلْ يُحَدُّ أَمْ لَا، فَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ اللِّعَانُ لِزَوْجَتِهِ، وَحُدَّ لِلْمَرْمِيِّ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ قَاذِفٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ضَرُورَةٌ إِلَى قَذْفِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، لَمْ يَجْعَلْ عَلَى مَنْ رَمَى زوجتَهُ بالزِّنَى إِلَّا حَدًّا وَاحِدًا بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ}، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ ذَكَرَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ، وَقَدْ رَمَى الْعَجْلَانِيُّ زَوْجَتَهُ بِشُرَيْكٍ، وكذلك هِلالُ ابْنُ أُمَيَّةَ، فَلَمْ يُحَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ لَنَا، لِأَنَّ اللَّهَ ـ تَعَالَى، وَضَعَ الْحَدَّ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ وَالزَّوْجَةِ مُطْلَقَيْنِ، ثُمَّ خُصَّ حَدُّ الزَّوْجَةِ بِالْخَلَاصِ بِاللِّعَانِ وَبَقِيَ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى مُطْلَقِ الْآيَةِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَحُدَّ الْعَجْلَانِيُّ لِشَرِيكٍ وَلَا هِلَالٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَطْلُبْهُ، وَحَدُّ الْقَذْفِ لَا يُقِيمُهُ الْإِمَامُ إِلَّا بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ إِجْمَاعًا مِنَّا وَمِنْهُ.
وَإِذَا فَرَغَ الْمُتَلَاعِنَانِ مِنْ تَلَاعُنِهِمَا جَمِيعًا تَفَرَّقَا وَخَرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى بَابٍ مِنَ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ غَيْرِ الْبَابِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ صَاحِبُهُ، وَلَوْ خَرَجَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ لِعَانَهُمَا. وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ اللِّعَانُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ تُجْمَعُ فِيهِ الْجُمُعَةُ بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِنَ الْحُكَّامِ. وَقَدِ اسْتَحَبَّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ اللِّعَانُ فِي الْجَامِعِ بَعْدَ الْعَصْرِ. وَتَلْتَعِنُ النَّصْرَانِيَّةُ مِنْ زَوْجِهَا الْمُسْلِمِ في المَوْضِعِ الَّذي تُعَظِّمُهُ مِنْ كَنيسَتِهَا بِمِثْلِ مَا تَلْتَعِنُ بِهِ الْمُسْلِمَةُ. قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: وَبِتَمَامِ اللِّعَانِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا وَلَا يَتَوَارَثَانِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ مُرَاجَعَتُهَا أَبَدًا لَا قَبْلَ زَوْجٍ وَلَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَزُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وأَبو يُوسُف ومحمَّدُ ابْنُ الْحَسَنِ: لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنَ اللِّعَانِ حَتَّى يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: فَرَقَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، فَأَضَافَ الْفُرْقَةَ إِلَيْهِ، وَلِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ: ((لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا)). وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا أَكْمَلَ الزَّوْجُ الشَّهَادَةَ وَالِالْتِعَانَ فَقَدْ زَالَ فِرَاشُ امْرَأَتِهِ، التَعَنَتْ أَوْ لَمْ تَلْتَعِنْ. قَالَ: وَأَمَّا الْتِعَانُ الْمَرْأَةِ فَإِنَّمَا هُوَ لِدَرْءِ الْحَدِّ عَنْهَا لَا غَيْرَ، وَلَيْسَ لِالْتِعَانِهَا فِي زَوَالِ الْفِرَاشِ مَعْنًى. وَلَمَّا كان لِعَانُ الزَّوْجِ يَنْفي الْوَلَدَ وَيُسْقِطُ الْحَدَّ رُفِعَ الْفِرَاشُ. وَكَانَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ لَا يَرَى التَّلَاعُنَ يَنْقُصُ شَيْئًا مِنْ عِصْمَةِ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى يُطَلِّقَ. وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، عَلَى أَنَّ الْبَتِّيَّ قَدِ اسْتَحَبَّ لِلْمُلَاعِنِ أَنْ يُطَلِّقَ بَعْدَ اللِّعَانِ، وَلَمْ يَسْتَحْسِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ عِنْدَهُ قَدْ أَحْدَثَ حُكْمًا. وَبِقَوْلِ عُثْمَانَ قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ فِيمَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ، وَحَكَاهُ اللَّخْمِيُّ عَنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ. وَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ أَنَّ نَفْسَ تَمَامِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ. وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ـ تَعَالَى، إِذَا لَاعَنَ أَوْ لَاعَنَتْ يَجِبُ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ، وَبِقَوْلِ عُوَيْمِرٍ: كَذَبْتَ عَلَيْهَا إِنْ أَمْسَكْتَهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، قَالَ: وَلَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ لِمَ قُلْتَ هَذَا، وَأَنْتَ لَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ بِاللِّعَانِ قَدْ طُلِّقَتْ. وَالْحُجَّةُ لِمَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ وَمَنْ وَافَقَهُ قَوْلُهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ: ((لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا)). وَهَذَا إِعْلَامٌ مِنْهُ أَنَّ تَمَامَ اللِّعانِ رَفْعُ سَبيلِهِ عَلَيْها وَلَيْسَ تَفْرِيقُهُ بَيْنَهُمَا بِاسْتِئْنَافِ حُكْمٍ، وَإِنَّمَا كَانَ تَنْفِيذًا لِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ ـ تَعَالَى، بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُبَاعَدَةِ، وَهُوَ مَعْنَى اللِّعَانِ فِي اللُّغَةِ.
وذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لَا يَتَنَاكَحَانِ أَبَدًا، فَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ جُلِدَ الْحَدَّ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ، وَلَمْ تَرْجِعْ إِلَيْهِ أَبَدًا. وَعَلَى هَذَا السُّنَّةُ الَّتِي لَا شَكَّ فِيهَا وَلَا اخْتِلَافَ. وَذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ الْمُلَاعِنَ إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ لَمْ يُحَدَّ، وَقَالَ: قَدْ تَفَرَّقَا بِلَعْنَةٍ مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ جُلِدَ الْحَدَّ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ، وَكَانَ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ إِنْ شَاءَ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، وَقَالُوا: يَعُودُ النِّكَاحُ حَلَالًا كَمَا لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ، لأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَحُجَّةُ الْجَمَاعَةِ قَوْلُهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ السَّلَامُ: ((لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا))، وَلَمْ يَقُلْ إِلَّا أَنْ تُكْذِبَ نَفْسَكَ. وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: فَمَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُمَا إِذَا تَلَاعَنَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَرَوَاهُ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا افْتَرَقَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا)). وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبي طالبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَا: مَضَتِ السُّنَّةُ أَلَّا يَجْتَمِعَ المتلاعنان أَبَدًا.
اللِّعَانُ يَفْتَقِرُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: عَدَدُ الأَلْفَاظِ ـ وَهُوَ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ. والمَكانُ ـ وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ أَشْرَفَ الْبِقَاعِ بِالْبُلْدَانِ، إِنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَعِنْدَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَعِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَإِنْ كَانَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَعِنْدَ الصَّخْرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ فَفِي مَسَاجِدِهَا، وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ بُعِثَ بِهِمَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَعْتَقِدَانِ تَعْظِيمَهُ، إِنْ كَانَا يَهُودِيَّيْنِ فَالْكَنِيسَةُ، وَإِنْ كَانَا مَجُوسِيَّيْنِ فَفِي بَيْتِ النَّارِ، وَإِنْ كَانَا لَا دِينَ لَهُمَا مِثْلُ الْوَثَنِيِّينَ فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ بَيْنَهُمَا فِي مَجْلِسِ حكمه. والوقت ـ وَذَلِكَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ. وَجَمْعُ النَّاسِ ـ وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ فَصَاعِدًا، فَاللَّفْظُ، وَجَمْعُ النَّاسِ هُمَا مَشْرُوطَانِ، وَالزَّمَانُ وَالْمَكَانُ مُسْتَحَبَّانِ.
ومَنْ قَالَ: إِنَّ الْفِرَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِتَمَامِ الْتِعَانِهِمَا، فَعَلَيْهِ لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ تَمَامِهِ وَرِثَهُ الْآخَرُ. وَمَنْ قَالَ: لَا يَقَعُ إِلَّا بِتَفْرِيقِ الْإِمَامِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَتَمَامِ اللِّعَانِ وَرِثَهُ الْآخَرُ. وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ أَنْ تَلْتَعِنَ الْمَرْأَةُ لَمْ يَتَوَارَثَا.
قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: تَفْرِيقُ اللِّعَانِ عِنْدَنَا لَيْسَ بِفَسْخٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ المُدَوَّنَةِ: فإِنَّ اللِّعانَ حُكْمٌ تَفْريقُهُ حُكْمُ تَفْرِيقِ الطَّلَاقِ، وَيُعْطَى لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ. وَفِي مُخْتَصَرِ ابْنِ الْجَلَّابِ قالَ: لَا شيْءَ لَهَا، وَهَذَا بناءً عَلَى أَنَّ تَفْرِيقَ اللِّعَانِ فَسْخٌ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَالْخَامِسَةَ} الواوُ: للعَطْفِ، وَ "الْخَامِسَةَ": بِالْنَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ عَطْفًا عَلى {أَرْبَعَ} مِنَ الآيةِ قبلَها؛ أَيْ: وَتَشْهَدُ الخَامِسَةَ. وَبِالرَّفْعِ مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ جُمْلَةُ "أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا". وجملةُ: "الخامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عليها .." في مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ {شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ}.
قولُهُ: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} أَنَّ: حَرْفٌ ناصِبٌ، نَاسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ، مَصْدَرِيٌّ. و "غَضَبَ" اسمُها منصوبٌ بِها، وَهُوَ مُضافٌ، ولفظُ الجَلالةِ "اللَّهِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "عَلَيْهَا" على: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بخَبَرِ "أَنَّ"، وَ "أنَّ" مَعَ اسْمِها وخَبَرِها في تأويلِ مَصْدَرٍ مجْرورٍ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ؛ متعلّقٍ بالفِعْلِ المُقَدَّرِ "تَشْهَدُ". والتقديْرُ: وَتَشْهَدُ الخامِسَةَ عَلَى كَوْنِ "غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا". أَوْ في مَحَلِّ نَصْبٍ بَدَلًا مِنَ "الخامِسَةَ".
قولُهُ: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} إِنْ: حَرْفُ شَرْطٍ. و "كَانَ" فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الفَتْحِ في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "أَنْ" الشَّرْطِيَّةِ، على كوْنِهِ فعلَ شَرطِ "إن"، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذوفٌ، دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، والتقديرُ: إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقينَ، فَعَلَيَّ غَضَبُ اللهِ. وَاسْمُ "كان" ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيها جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى الزَّوْجِ المُلاعِنِ. وَ "مِنَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بخَبَرِهَا المُقدَّرِ. و "الصَّادِقِينَ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جَمْعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ. وجملةُ "إِنْ" الشَّرطِيَّةُ مِنْ فعلِ شَرْطِها وجوابها جملةٌ اسْتِئْنافيَّةٌ لا محلّ لها مِنَ الإعرابِ.