وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ } : " إذ " ظرفُ زمانٍ ماضٍ ، يُخَلِّص المضارعَ للمضيِّ وبُني لشَبَهِه بالحرفِ في الوَضْع والافتقار ، وتليه الجملُ مطلقاً، فإذا كانتِ الجملةُ فعليةً قَبُحَ تقديمُ الاسمِ وتأخيرُ الفعلِ نحو: إذ زيدٍ قام وقد تُحْذَفُ الجملةُ المضافُ هو إليها للعلمِ ويُعَوَّض منها تنوينٌ كقولِهِ تعالى : { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } ، وليس كسرتُه والحالةُ هذه كسرةَ إعرابٍ ولا تنوينُه تنوينَ صرفٍ ، بل الكسرُ لالتقاءِ الساكنين والتنوينُ للعوضِ بدليلِ وجودِ الكسر ولا إضافةَ قال :
نَهَيْتُكَ عن طِلابِكَ أمَّ عمروٍ ...................... بعاقبةٍ وأنتَ إذٍ صَحيحُ
و{ قَالَ رَبُّكَ } جملةٌ فعليةٌ في محلِّ خَفْضٍ بإضافةِ الظرفِ إليها .
واعلم أنَّ « إذ » فيه تسعةُ أوجه ، أحسنُها أنه منصوبٌ بـ { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا } أي : قالوا ذلك القولَ وقتَ قولِ اللهِ تعالى لهم : إني جاعلٌ في الأرضِ خليفةً ، وهذا أسهلُ الأوجهِ . الثاني: أنه منصوبٌ بـ " اذكُرْ " مقدراً وقد تقدَّم أنه لاَ يَتَصَرَّفُ فلا يقع مفعولاً . الثالث : أنه منصوبٌ بـ "خَلَقَكم" المتقدمِ في قولِه : { اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ } والواو زائدةٌ . وهذا ليس بشيء لطولِ الفصلِ . الرابعُ : أنه منصوبٌ بـ " قال " بعده . وهو فاسدٌ لأن المضافَ إليه لا يعمل في المضاف . الخامس : أنه زائدٌ . السادس: أنه بمعنى قد. السابع أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: ابتداءُ خَلْقِكم وقتُ قولِ ربِّك . الثامن: أنه منصوبٌ بفعلٍ لائق ، تقديرُه : ابتدأ خلقُكم وقتَ قولِه ذلكَ ، وهذان ضعيفان لأن وقتَ ابتداءِ الخلق ليس وقتَ القول ، وأيضاً فإنه لاَ يَتَصرَّف . التاسع : أنه منصوبٌ بـ " أحياكم " مقدَّراً ، وهذا مردودٌ باختلافِ الوقتين أيضاً .
و" للملائكة " متعلِّقٌ بـ " قال " واللامُ للتبليغ . وملائكةٌ جمع مَلَك . واختُلِف في " مَلَك " على ستة أقوال ، وذلك أنهم اختلفوا في ميمِه ، هل هي أصليةٌ أو زائدةٌ؟ والقائلون بأصالتها اختلفوا ، فقال بعضهم : مَلَك ووزنه فَعَل من المُلْك، وشذَّ جمعُه على فعائِلة فالشذوذ في جَمْعِه فقط . وقال بعضهم: بل أصلُهُ مَلأّك ، والهمزةُ فيه زائدةٌ كشَمْأَل ثم نُقِلَت حركةُ الهمزة إلى اللام وحُذِفَت الهمزةُ تخفيفاً ، والجمعُ جاء على أصلِ الزيادةِ فهذان قَوْلان عند هؤلاء . والقائلون بزيادتها اختلفوا أيضاً ، فمنهم مَنْ قال : هو مشتقٌّ من " أَلَك " أي : أرسل ففاؤُه همزةٌ وعينه لام ، ويدلُّ عليه قول الشاعر :
أَبْلِغْ أبا دَخْتَنُوسَ مَأْلُكَةً ................. غيرَ الذي قد يُقال مِلْكَذِبِ
وقال آخر :
وغلامٌ أَرْسَلَتْه أمُّه .............................. بِأَلوكٍ فَبَذَلْنَا ما سَأَلْ
وقال آخر :
أَبْلِغِ النُّعْمانَ عني مَألُكا ................ أنَّه قد طالَ حَبْسي وانتظاري
فأصل مَلَكَ : مَأْلَك ، ثم قُلِبت العينُ إلى موضع الفاء ، والفاءُ إلى موضع العين فصارَ مَلأَكاً على وزنَ مَعْفَل ، ثم نُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ إلى اللامِ وحُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً ، فيكونُ وزنُ مَلَكَ : مَعَلاً بحَذْفِ الفاء . ومنهم مَنْ قال : هو مشتقٌّ من لأَك أي أرسل أيضاً ، ففاؤُه لامٌ وعينُه همزةٌ ثم نُقِلَت حركةُ الهمزةِ وحُذِفَت كما تقدَّم ، ويَدُلُّ على ذلك أنه قد نُطِقَ بهذا الأصلِ قال الشاعر :
فَلَسْتُ لإِنْسِيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ ........... تَنَزَّلَ من جَوِّ السماء يَصُوبُ
ثم جاء الجمعُ على الأصلِ فَرُدَّتِ الهمزةُ على كِلا القَوْلينِ ، فوزن ملائِكَة على هذا القول : مفاعِلَة ، وعلى القولِ الذي قبلَه : معافِلَة بالقلب . وقيل : هو مشتقٌّ من : لاكَه يَلُوكه أي : أداره يُديره، لأنَّ المَلَكُ يُديرُ الرسالةَ في فيه ، فأصل مَلَك : مَلْوَك ، فنُقِلَتْ حركةُ الواوِ إلى اللامِ الساكنةِ قبلها ، فتحَرَّك حرفُ العلة وانفتح ما قبلَه فَقُلب ألفاً فصارَ ملاكاً مثل مَقَام ، ثم حُذِفَت الألفُ تخفيفاً فوزنُه مَفَل بحذفِ العينِ ، وأصلُ ملائكة ملاوِكة فقُلبت الواوُ همزةً ، ولكنَّ شرطَ قلبِ الواوِ والياءِ همزةً بعد ألفِ مفاعل أن تكونَ زائدةً نحو عجائز ورسائل ، على أنه قد جاء ذلك في الأصليّ قليلاً قالوا : مصائِب ومنائِر ، قُُرئ شاذاً : " معائِش " بالهمز ، فهذه خمسةُ أقوال . والسادس : قال النضر بن شميل : " لا اشتقاقَ للملك عند العرب " .
والهاء في ملائكة لتأنيث الجَمْع نحو : صَلادِمة . وقيل للمبالغة كعلاَّمة ونسَّابة ، وليس بشيء ، وقد تُحْذَفُ هذه الهاء شذوذاً ، قال الشاعر : أبا خالدٍ صَلَّتْ عليكَ الملائِكُ ...
{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً } هذه الجملة معمولُ القولِ ، فهي في محلِّ نصبٍ به ، وكُسِرت " إنَّ » هنا لوقوعِها بعد القولِ المجرَّدِ من معنى الظن محكيةً به ، فإن كان بمعنى الظنِ جَرى فيها وجهان : الفتحُ والكسرُ .
و" إنَّ " على ثلاثةِ أقسامٍ : قسمٍ يجب فيه كَسْرُها ، وقسمٍ يجبُ فيه فَتْحُها وقسمٍ يجوز فيه وجهان ، والضابطَ الكلي في ذلك أنَّ كلَّ موضعٍ سَدَّ مَسَدَّها المصدرُ وَجَبَ فيه فتحُها نحو : بلغني أنك قائمٌ ، وكلَّ موضعٍ لم يَسُدَّ مسدَّها وَجَبَ فيه كَسْرُها كوقوعِها بعد القولِ ومبتدأةً وصلةً وحالاً ، وكلَّ موضعٍ جازَ أن يَسُدَّ مسدَّها جاز الوجهان كوقوعِها بعد فاءِ الجزاء ، وإذا الفجائية .
و" جاعلٌ » فيه قولان ، أحدُهما أنه بمعنى خالق ، فيكونُ " خليفةً "
مفعولاً به و" في الأرض " فيه حينئذ قولان ، أحدُهما وهو الواضح أنه متعلقٌ بجاعلٌ . الثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من النكرةِ بعدَه . فيكونُ "خليفةً" " هو المفعولَ الأولَ و" في الأرض " هو الثانيَ قُدِّم عليه ، ويتعلَّقُ بمحذوف على ما تقرَّر . و" خليفة " يجوز أن يكون بمعنى فاعل أي : يَخْلُفُكم أو يَخْلُف مَنْ كان قبلَه من الجنِّ ، وهذا أصحُّ لدخولِ تاءِ التأنيث عليه وقيل: بمعنى مفعول أي: يَخْلُف كلُّ جيلٍ مَنْ تقدَّمَه، وليس دخولُ التاءِ حينئذٍ قياساً. إلا أن يُقال: إنَّ " خليفةً " جَرى مجرى الجوامدِ كالنطيحة والذبيحة . وإنما وُحِّد " خليفة " وإن كانَ المرادُ الجمعَ لأنه أريدَ به آدمُ وذريتُه ، ولكن استَغْنى بذكره كما يُسْتَغْنى بذكرِ أبي القبيلة نحو: مُضَر ورَبِيعة ، وقيل: المعنى على الجنس . وقرئ: " خليقةً " بالقاف .
و" خليفةً " منصوبٌ بـ " جاعل " كما تقدَّم ، لأنَّه اسمُ فاعل . واسمُ الفاعل يعملُ عَمَل فعلِه مطلقاً إن كان فيه الألفُ واللام ، وبشرطِ الحالِ أو الاستقبال والاعتماد إذا لم يكونا فيه ، ويجوز إضافتُه لمعمولِه تخفيفاً ما لَم يُفْصل بينهما كهذه الآية .
{ قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ } قد تقدَّم أنّ " قالوا " عامل في " إذ قال ربُّك " وأنه المختارُ ، والهمزةُ في " أتجعل " للاستفهامِ ، وقيل للتعجب ، وقيل : للتقرير كقوله :
ألستُمْ خيرَ مَنْ ركب المَطايا .................... وأنْدى العالمينَ بطونَ راحِ
و" فيها " الأولى ، متعلقةٌ بـ " تَجْعَل " إن قيل: إنها بمعنى الخَلْق ، و"مَنْ يُفْسِدُ " مفعولٌ به ، وإنْ قيل إنَّها بمعنى التصيير فيكون " فيها " مفعولاً ثانياً قُدِّم على الأولِ وهو " مَنْ يفسد " و" مَنْ " تحتملُ أن تكونَ موصولةً أو نكرةً موصوفةً ، فعلى الأولِ لا مَحَلَّ للجملةِ بعدها من الإِعراب ، وعلى الثاني محلُّها النصب و" فيها " الثانيةُ مُتَعلقةٌ بـ " يُفْسِدُ " . و" يَسْفِكُ " عطفٌ على " يُفْسِدُ " بالاعتبارين .
والجمهورُ على رَفْعِهِ ، وقُرئ منصوباً على جوابِ الاستفهام بعدَ الواو التي تقتضي الجمع بإضمار " أَنْ " كما في قول الشاعر :
أَتَبيتُ رَيَّانَ الجفونِ من الكَرى ................. وأبيتَ منك بليلةِ المَلْسُوعِ
فقد نصب الفعل أبيت ـ الثاني بأن مضمرة والتقدير: وأن أبيت ، وقيل بل هو منصوبٌ بواو الصَرْف « وهذه عبارةُ الكوفيين ، ومعنى واوِ الصرفِ أن الفعلَ كان يقتضي إعراباً فصَرَفَتْه الواوُ عنه إلى النصب .
والمشهورُ " يَسْفِك " بكسر الفاء ، وقُرئ بضمِّها ، وقرئ أيضاً بضمِّ حرفِ المضارعةِ من أَسْفك وقُرئ أيضاً مشدَّداً للتكثير .
في هذه الآيات الكريمة عطف ـ سبحانه ـ قصة خلق آدم أبي البشر على قصة خلق الأنفس وخلق السماوات والأرض انتقالا في الاستدلال على أن الله واحد ، وجمعاً بين تعدد الأدلة وبين مختلف الحوادث وأصلها ، حتى يكون التدليل أجمع ، والإِيمان بالله أقوى وأثبت .
والمعنى : واذكر يا محمد وقت أن قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة .
والملائكة ، هم جند من خلق الله ، ركز الله فيهم العقل والفهم ، وفطرهم على الطاعة ، وأقدرهم على التشكيل بأشكال مختلفة ، وعلى الأعمال العظيمة الشاقة ، ووصفهم في القرآن بأوصاف كثيرة منها أنهم {يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ومنها : أنهم رسل الله أرسلهم بأمره " ومنهم رسل الوحي إلى من اصطفاهم من خلقه ، و( الخليفة ) من يخلف غيره وينوب منابه ، فهو فعيل بمعنى فاعل ،
والتاء فيه للمبالغة ، والمراد به آدم - عليه السلام - لأنه كان خليفة من الله في الأرض ، وكذلك سائر الأنبياء استخلفهم الله - تعالى - في عمارة الأرض ، وسياسة الناس ، وتكميل نفوسهم ، وإجراء أحكامه عليهم ، وتنفيذ أوامره فيهم . وقيل : آدم وذريته ، لأنه يخلف بعضهم بعضاً في عمارة الأرض، واستغنى بذكره عن ذكر ذريته لكونه الأصل .
وخطاب الله لملائكته بأنه سيجعل في الأرض خليفة ، ليس المقصود منه المشورة ، وإنما خاطبهم بذلك من أجل ما ترتب عليه من سؤالهم عن وجه الحكمة من هذه الخلافة ، وما أجيبوا به من بعد ، أو من أجل تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم وإن كان هو - سبحانه - بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة . أو الحكمة تعظيم شأن المجهول ، وإظهار فضله ، بأن بشر بوجود سكان ملكوته ، ونوه بعظيم شأن المجعول بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده ، ولقبه بالخليفة
ثم حكى ـ سبحانه ـ إجابة الملائكة فقال: { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } .
الفساد : الخروج عن الاعتدال والاستقامة ويضاده الصلاح . يقال فسد الشيء فساداً وفسوداً وأفسده غيره .
والسفك: الصب والإِهراق ، يقال: سفكت الدم والدمع سفكاً ـ من باب ضرب ـ صببته . والفاعل سافك وسفّاك ، والمراد به حصول التقاتل بين أفراد بني الإِنسان ظلماً وعدواناً .
والتسبيح : مشتق من السبح وهو المر السريع في الماء أو في الهواء ، فالمسبّح مسرع في تنزيه الله وتبرئته من السوء .
والتقديس: التطهير والتعظيم ووصفه بما يليق به من صفات الكمال . فيكون التسبيح نفى ما لا يليق ، والتقديس إثبات ما يليق ، وقدم التسبيح على التقديس من باب تقديم التخلية على التحلية .
والمعنى: أتجعل في الأرض يا إلهنا من يفسد فيها ويريق الدماء والحال أننا نحن ننزهك عما لا يليق بعظمتك ، تنزيهاً متلبساً بحمدك والثناء عليك ، ونطهر ذكرك عما لا يليق بك تعظيماً لك وتمجيداً .
وقولهم: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا . . . إلخ } إنما صدر منهم على وجه استطلاع الحكمة في خلق نوع من الكائنات يصدر منه الإِفساد في الأرض وسفك الدماء . وقطعهم بحكمة الله في كل ما يفعل لا ينافي تعجبهم من بعض أفعاله ، لأن التعجب يصدر عن خفاء سبب الفعل ، فمن تعجب من فعل شيء وأحب الاطلاع على الحكمة الباعثة على فعله لا يعد منكرا .
والملائكة لا يعلمون الغيب ، فلابد أن يكونوا قد علموا ماذا سيكون من الفساد في الأرض وسفك الدماء بوجه من الوجوه التي يطلع الله بها على غيبه بعض المصطفين الأخبار من خلقه .
قال الإِمام ابن كثير في توضيح هذا المعنى : قوله ـ تعالى ـ { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء } أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية ، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمأ مسنون ، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم . ويردعهم عن المحارم والمآثم . . وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه البعض . . وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، يقولون يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ، ويسفك الدماء فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، ولا يصدر منا شيء من ذلك فهلا وقع الاقتصار علينا؟
وقد رد الله ـ تعالى ـ على الملائكة بقوله : { قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
أي : إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم ، فإني سأجعل فيهم الأنبياء ، وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والمحبون له - تعالى - المتعبون رسله ..
فالجملة الكريمة إرشاد لهم إلى الأمر الذي من شأنه أن يقف بهم عند حدود الأدب اللائق بمقام الخالق ـ عز وجل ـ وتنبيه إلى أنه ـ تعالى ـ عالم بما لا يحيط به علم أحد من خلقه ، فله أن يفعل ما يشاء ويأمر بما يشاء .
وليس من أدب المؤمنين بأنه العليم الحكيم أن يسألوه حين يأمرهم بشيء ، أو يعلمهم بأنه سيفعل شيئاً ، عن حكمة ما أمر به أو ما سيفعله ، بل شأنهم أن يتجهوا إلى استطلاع حكمة الأفعال والأوامر من أنفسهم ، فإذا أدركوها فقد ظفروا بأمنيتهم ، وإن وقفت عقولهم دونها ، ففي تسليمهم لقدر الله ، وامتثالهم لأوامره الكفاية في القيام بحق التكليف والفوز برضا الله ، الذي هو الغاية من الإِيمان به والإِقبال على طاعته .
قال بعض العلماء : " وفي هذه الآية الكريمة تسلية للنبي صلى الله عليه
وسلم عن تكذيب بعض الناس له ، لأنه إذا كان الملأ الأعلى قد مثلوا على أنهم يختصمون ويطلبون البيان والبرهان فيما لا يعلمون ، فأجدر بالناس أن يكونوا معذورين - وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين ، أي : فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين ، وترشد المسترشدين ، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين .