المَوْسُوعَةُ القُرْآنِيَّةُ
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسيرـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ النُور
(24)
سُورَةُ النُّورِ مَدَنِيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، أَنَّهُ قَالَ: أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ مثله عَنِ ابْنِ الزبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
أَمَّا عَدَدُ آياتِها فَهُوَ أَرْبَعٌ وَسِتُّونَ آيةً، وَعدَدُ كلماتِها أَلْفٌ وثَلاثمِئةٍ وَسِتّ عَشَرَةَ كَلِمَةً، وأمَّا أَحْرُفُها فَخَمْسَةُ آلافٍ وَتِسْعُمِئَةٍ وثمانونَ حَرْفًا.
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِها بهذا الاسْمِ أَنَّ فِيهَا آيَةَ: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}. الآيةَ: 35. وَهَذِهِ هي تَسْمِيَتُهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ آخَرُ. فقد وَرَدَ ذِكْرُها بهذا الاسْمِ في الكثيرِ مِنَ الأحاديثِ الشِّريفةِ والآثارِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ النَّيْسابوريُّ، وَرَوَى الْحَاكِم فِيمَا خَرَّجَهُ مِنَ الزِّيَادَة على الصَّحِيحَيْنِ بِرِوَايَة شُعَيْب بن إِسْحَق، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عُرْوَةَ ابْنِ الزُّبيرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإيمانِ عَنْ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنها، مَرْفُوعًا، أَنَّ رَسولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، قالَ: ((لَا تُنْزِلُوهُنَّ الْغُرَفَ وَلَا تُعْلِمُوهُنَّ الْكِتَابَةَ)) يَعْنِي النِّسَاءَ، ((وَعَلِمُوهُنَّ الْغَزَلَ وَسُورَةَ النُّورِ)).
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، مُرْفوعًا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((عَلِّمُوا رِجَالَكُمْ سُورَةَ الْمَائِدَةِ، وَعَلِّمُوا نِسَاءَكُمْ سُورَةَ النُّورِ). ورَواهُ ابْنُ المُنذِرِ أَيضًا عَن سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنْهُ، مُرْسَلًا.
وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْنَا أَميرُ المُؤمنينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، أَنْ تَعَلَّمُوا سُورَةَ النِّسَاءِ، وَالْأَحْزَابِ، وَالنُّورِ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ أَبي وَائِلٍ قَالَ: حَجَجْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي وَابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، عَلَى الحِجْنِ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ سُورَةَ النُّورِ وَيُفَسِّرُها. فَقَالَ صَاحِبي: سُبْحَانَ اللهِ؟ مَاذَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ هَذَا الرَّجُلِ لَو سَمِعتُ هَذَا التَّرْكَ لَأَسْلَمْتُ.
وَهِيَ سورةٌ مُحْكَمَةٌ كُلُّها عندَ ابْنِ عَطِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، غَيْرُ مَنْسُوخٍ مِنْها أَيٌّ مِنْ أَحْكامِهَا، فقد قال فِي تَفْسِيرِهِ: (وَهِيَ مُحْكَمَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَرَكَهَا النَّاسُ).
وقال ابْنُ حَزْمٍ، محمَّدُ أَبُو عَبْدِ اللهِ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: جُمْلَةُ مَا في سُورَةِ النُّورِ مِنَ المَنْسُوخِ سَبْعُ آياتٍ:
ـ أُولاهُنَّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} الآيَةَ: (4) نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} الآية: (5).
ـ الآيَةُ الثانيَةُ: قوْلُهُ تَعَالَى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الآيةُ: (3). وَهَذِهِ الآيَةُ مِنْ أَعاجِيبِ آياتِ القُرْآنِ؛ لِأَنَّ لَفْظها لَفْظ الخَبَرِ، وَمَعَنَاهَا: النَّهْيُ، وَتَقْديرُ الكَلامِ: ـ واللهُ أَعْلَمُ، لَا تَنْكِحًوا زانيةً ولا مشركةً، ناسخها قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} الآية (32) النور.
ـ الآيةُ الثالثةُ: قولُهُ تَعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} الآية: (6)، نَسَخَهَا بِالآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعَدَهَا، وَهُمَا قَوْلُهُ: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} الآية: (7)، و {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} الآيةُ: (9).
ـ الآيةُ الرّابعةُ: قولُهُ تَعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} الآية: (27)، نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} الآيَةَ: (29).
ـ الآيةُ الخامِسَةُ: قولُهُ تَعَالَى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الآيَةَ: (31)، نُسِخَ بَعْضُها بِقَوْلِهِ تَعَالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} الآيَة: (60).
ـ الآيَةُ السادسةُ: قولُهُ تَعَالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} الآيةَ: (54). نَسَخَتْها آيةُ السَّيْفِ، وهي قولُهُ تعالى مِنْ سورةِ الزُّخْرُفِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الْآيَةَ: (41)، وقيلَ غيرُ ذلكَ فإنَّهُنَ أربعُ آياتٍ في كِتَابِ اللهِ أُمِرَ المُؤمِنُونَ فيها بِقِتَالِ المُشْركينَ. يُرْوَى عَنْ أميرِ المُؤمنينَ سيِّدِنا عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وكرَّمَ وجهَهُ، أَنَّهُ قَالَ: سُيُوفُ اللهِ أَرْبَعَةٌ: وَاحِدٌ عَلى المُشْركينَ، قالَ تَعَالَى: {فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ..}، وَثانٍ عَلَى الكافرينَ، قالَ تَعَالى: {قاتِلُوا الَّذينَ لَا يُؤْمِنُونَ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ..}، وَثَالِثٌ عَلى المُنَافِقِينَ، قالَ تَعَالى: {يَا أَيًّهَا النَّبيُّ جاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقينَ..}، ورَابعٌ عَلى البُغَاةِ، قالَ تَعَالى: {فَقاتِلوا الَّتي تَبْغِي حَتَّى تَفيىءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ}.
ـ الآيةُ السابعةُ: قوْلُهُ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية: (58)، نَسَخَهَا بِالآيَةِ الَّتي تَليها، وَهِيَ قولُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} الآيَةَ: (59).
وَوَجْهُ اتِّصال هذه الآيةِ الكريمةِ بِما قَبْلَهَا: أَنَّهُ قَالَ في السُّورَةِ السابقةِ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ}، فَذَكَرَ هُنَا أَحْكَامَ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ فَرْجَهُ ومَا يَتَّصِلُ بِذلِكَ مِنَ القَذْفِ، وأَمَرَ بِغَضِّ البَصَرِ إِذْ هُوَ دَاعِيَةُ الزِّنَا، وأَمَرَ مَنْ لَّمْ يَقْدِرْ عَلَى النِّكاحِ بِالاسْتِعْفافِ، ونَهَى عَنْ إِكْراهِ الفَتَيَاتِ عَلَى الزِّنَا.بإعاقةِ زواجِهِنَّ.
وفي السُّورَةِ فُصُولٌ عَديدَةٌ في التَّشْريعِ وَالتَّأْديبِ: حَيْثُ تَتَضَمَّنُ تَشْريعاتٍ تخُصُّ الزِّنا وَقَذْفَ المُحْصَناتِ.
وفيها إِشارَةٌ إِلَى حادِثَةِ الإِفْكِ التي اتُّهمتْ فيها أُمُّ المُؤْمِنينَ السَّيِّدةُ عائِشَةُ الصِّدِّيقةُ بنتُ الصِّدِّيقِ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُما وأرضاهُما، بالزِّنا.
وفيها تَعْلِيماتٌ في آدابِ دُخُولِ البُيُوتِ. وأَمْرُ النِّساءِ بالحجابِ والاحْتِشَامِ في اللِّباسِ والتَّزَيُّنِ والابتعادِ عنْ أَسْبَابِ الإِغْراءِ والإغواءِ.
كما فيها تَنْديدٌ بِمَواقِفِ مَرْضَى القُلُوبِ في الاحتِكامِ إِلى النَّبِيِّ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، وبالاسْتِخْفافِ بِمَجالَسَتِهِ وَدَعْوَتِهِ، وَإِنْذارٌ لَهُمْ.