الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 118
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118).
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ} إِرْشَادٌ للمُؤمنينِ مِنَ اللهِ رَبِّ العالمينَ أَنْ يَدْعُوهُ بِهَذَا الدُّعَاءِ العَظيمِ، وَيَسْأَلوهُ المَغْفِرَةَ والرَّحْمَةَ، وَإِذَا أُطْلِقَ الغَفْرُ فَمَعْنَاهُ مَحْوُ الذُّنوبِ وَسَتْرُ العُيُوبِ عَنِ الخَلْقِ حتَّى لا يُفْتَضَحَ أَمْرُ المُذْنِبِ، وأَمَّا الرَّحْمَةُ فالمَعْنَى المُرادُ هُنا: أَنْ يُسَدِّدَ اللهُ خُطا عَبْدَهُ، وأنْ يُوَفِّقَهُ إلى ما يُرْضِيهِ عَنْهُ فِي جميعِ أَقَوالِهِ وأَفْعَالِهِ وأَحوالِهِ.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَةَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ ـ تَعَالَى، عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتي. قَالَ: قُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
قَوْلُهُ: {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} قَالَ: "خَيْرُ الرَّاحِمِينَ" فأَثْبَتَ هَذِهِ الصِّفةَ السَّاميةَ مِنْ صِفاتِهِ الكَريمةِ إلى المَخْلوقاتِ مَعَ أَنَّهُ ـ سُبْحَانَهُ، هُوَ مَصْدَرُ كلِّ رَحمةٍ، وَذَلِكَ عَلَى سبيلِ المَجازِ، فإنَّ اللهَ ـ تَعَالَى، خَلَقَ المَخلوقاتِ، وتجلَّى عَلَيْهَا بما شاءَ مِنْ جليلِ صِفَاتِهِ لِتَظْهَرَ مُجَسَّدَةً في الوُجُودِ وَيَلْمَسَهَا عبادُهُ ظاهرةً في مَخْلُوقَاتِهِ ويُحِسُّونَ بِهَا، فَيعرونَها، ثمَّ يَتَعَرَّفُونَ عَلَى مَصْدَرِها المُتَّصِفِ بِهَا حقيقةً، وبذلكَ يعرفونَ رَبَّهُم. وَقَدْ جَاءَ في الحديثِ الشَّريفِ، أَنَّ اللهَ قسَمَ رحمتَهُ مِئَةَ قسْمٍ، ووضَعَ قسْمًا منها في الدُّنيا فبِهِ تتراحم المخلوقاتُ جميعًا، وادَّخرَ تسعةً وتِسْعِينَ قِسْمًا لِعِبَادِهِ المُؤُمِنِينَ في الآخِرَةِ. قالَ الإمامُ الرازيُّ في تفسيرِهِ "الكبير" أَوْ "مَفَاتِيحُ الغَيْبِ": (7/114): رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((إِنَّ للهِ مِئَةَ جُزْءٍ مِنَ الرَّحْمَةِ، قَسَّمَ جُزْءًا وَاحِدًا مِنْهَا عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَجَمِيعِ الحَيَواناتِ، فِيهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَادَّخَرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)). وفي روايةٍ عنِ أبي هُريرةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنِ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَواتِ وَالْأَرْضَ مِئَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقُهَا طِبَاقُ السَّمَواتِ والأَرْضِ، فَقَسَمَ رَحْمَةً بَيْنَ جَميعِ الخَلَائِقِ، وَادَّخَرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً لِنَفْسِهِ، فَإِذَا كانَ يَوْمُ القِيَامَةِ، رَدَّ هَذِهِ الرَّحْمَةَ، فَصَارَتْ مِئَةَ رَحْمَةٍ يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ)). وجاءَ في مَشيخَةِ ابْنِ حَذْلَمَ: (ص: 20) عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ للهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، مِئَةَ رَحْمَةٍ، وَأَنَّهُ قَسَمَ وَاحِدَةً بَيْنَ أَهْلِ الدُّنْيَا فَوَسِعَتْهُمْ إِلَى آجَالِهِمْ، وَادَّخَرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً لأَوْلِيَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ثمَّ قالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حدَّثَنا أَحْمَدُ، قَالَ: حَدَّثَنا أَبُو زُرْعَةَ، قَالَ: حدَّثنا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، قَالَ: جدَّثَنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ خِلاسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, مِثْلَ ذَلِكَ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْ} الواوُ: للاسْتِئْنافِ. و "قُلْ" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ الظاهِرِ، وقدْ حُذِفتِ الواوُ مِنْ وَسَطِهِ لسكونِ آخِرِهِ مَنْعًا لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ
(أنتَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {رَبِّ} منصوبٌ على النِّداءِ مُضَافٌ إِلَى ياءِ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفَةِ، وعلامةُ نَصْبِهِ فتحةٌ مُقدَّرَةٌ على آخِرِهِ لانْشِغالِ المَحَلِّ بالحَرَكةِ المُناسِبَةِ للياء المُتَكَلِّمِ المَحْذوفةِ اسْتِعاضةً عَنْها بكَسْرَةِ الباءِ، وَجُمْلَةُ النِّدَاءِ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قُلْ".
قولُهُ: {اغْفِرْ وَارْحَمْ} اغْفِرْ: فِعْلُ دُعاءً وَرَجاءٍ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالى، والْجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بـ: "قُلْ" عَلى كَوْنِهَا جَوَابَ النِّدَاءِ. وَ "وَارْحَمْ" مَعْطوفٌ عَلَى "اغْفِرْ" ولَهُ مِثْلُ إِعْرابِهِ.
قولُهُ: {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} الواوُ: حاليَّةٌ، و "أَنْتَ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مبنيٌّ عَلَى الفتحِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، وَ "خيرُ" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ، وهوَ مُضافٌ. و "الراحمينَ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنُّونُ عَوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرًدِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحالِ مِنْ فَاعِلِ "ارْحَمْ"، والله أعلم
تَمَّتْ سورةُ "المؤمنون" وبِهَا تَمَّ النِّصْفُ الأول مِنَ الجِزءِ الثامنِ عَشَرَ، المُجلَّدُ الخَامِسُ والثلاثونَ والحمدُ لهِْ رَبِّ العالمينَ.