الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 104
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} أَيْ: تَحْرِقُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ، أَي وُجُهَ المُشْركينَ، الذينَ تحدَّثتْ عنهُمُ الآياتُ السابقةُ، ووُصِفوا في الآيةِ التي قبلَ هَذِهِ الآيَةَ بأَنَّ موازينُهُمْ قدْ خَفَّتْ مِنْ الحَسَنَاتِ فلم يقبلِ الهُّ أَعْمالَمْ الصالحَةَ لأنَّهُمْ لمْ يعملوها ابتغاءَ مَرْضاتِهِ وطَلبًا لمثوبتِهِ فهُمْ لمْ يؤمنوا بِهِ أصلًا.
وَاللَّفْحُ: هُوَ شِدَّةُ إِصَابَةِ النَّارِ الشَّيْءَ، وَهُوَ أَشَدُّ مِنَ النَّفْخِ. يُقالُ لَفَحَتْهُ النَّارُ، أَوْالرِّيحُ السَّمُومُ بِحَرِّهَا: إذا أَحْرَقَتْهُ. واللَّفْحُ عَكْسُ النَّفحِ قَالَ الأَصْمَعِيُّ: مَا كَانَ مِنَ الرِّيَاحِ لَفْحٌ فَهُوَ حَرٌّ، وَمَا كانَ مِنَ الرِّيَاحِ نَفْحٌ فَهُوَ بَردٌ. ولَفَحْتُهُ بالسَّيْفِ لَفْحَةً، إِذَا ضَرَبْتُهُ بِهِ ضَرْبَةً خَفِيفَةً. ذَلِكَ لأنَّ ما يلقاهُ أهلُ النَّارِ مِنْ عَذابٍ في جوفها هُوَ أَقْسَى مِنْ ذَلِكَ وأَشَدُّ بما لا يُقاسُ. والعِياذُ بالهِِ تعالى.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والضِّيَاءُ المَقدِسِيُّ فِي (صِفَةُ النَّارِ) مِنْ حديثِ أَبي الدَّرْدَاءِ ـ رَضِيَ الهُِ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارً"، قَالَ: تَلْفَحُهُمْ لَفْحَةً فَتَسِيلُ لُحُومُهُمْ عَلَى أَعْصَابِهِمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَط، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي "الْحِلْيَةِ" عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ الهُْ عنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَّا سِيقَ إِلَيْهَا أَهْلُهَا تَلَقَّتْهُمْ بِعُنُقٍ فَلَفَحَتْهُمْ لَفْحَةً، فَلَمْ تَدَعْ لَحْمًا عَلَى عَظْمٍ إِلَّا أَلْقَتْهُ عَلَى العُرْقُوبِ)). حِلْيَةُ الأولياءِ وصِفةُ الأصفياءِ لأبي نُعيمٍ: (4/363).
وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي "الْحِلْيَةِ" عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ الهَُ عنْهُ، فِي قَوْله "تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارً"، قَالَ: لَفَحَتْهُمْ لَفْحَةً فَمَا أَبْقَتْ لَحْمًا عَلَى عَظْمٍ إِلَّا أَلْقَتْهُ عَلَى أَعْقَابِهِمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبُي الهُذَيْلِ، حُصَيْنُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ ـ رَضِيَ الهُا عنْهُ، مِثْلَ ذَلِكَ.
قولُهُ: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} كَلْحُ النَّارِ: إِحْرَاقُهَا لَهُم، وَالكُلُوحُ: هُوَ تَشْميرُ الشَّفَةِ العُلْيَا، وَاسْتِرْخَاءُ الشَّفةِ السُّفْلى. وَالْكَالِحُ: الَّذِي بِهِ الْكُلُوحُ وَهُوَ تَقَلُّصُ الشَّفَتَيْنِ وَظُهُورُ الْأَسْنَانِ مِنْ أَثَرِ تَقَطُّبِ أَعْصَابِ الْوَجْهِ عِنْدَ شدَّة الْأَلَم.
فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ أَبي الدُّنْيَا فِي (صِفَةُ النَّارِ)، وَأَبُو يَعلَى، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: "وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ" ((تَشْوِيهِ النَّارُ فَتَقَلَّصُ شَفَتُهُ الْعُلْيَا حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ، وَتَسْتَرْخِي شَفَتُهُ السُّفْلَى حَتَّى تَضْرِبَ سُرَّتَهُ)). أَخرجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ ـ مُسْتدركِهِ: (3/88، رقم: 11854)، والنصُّ لهُ. والتِّرْمِذِيُّ في سُنَنِهِ: (4/708، رقم: 2587). وقال: حَسَنٌ صحيحٌ. وأَبُو يَعْلَى في مُسندِهِ: (2/516، رقم 1367). والحاكم النَّيسابوريُّ: (2/428، رقم: 3490) وصحَّحَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ مُغِيثِ بْنِ سُمَيٍّ، الأَوزاعِيِّ، أَبي أَيُّوبٍ ـ رَضِيَ الهُّ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: إِذَا جِيءَ بِالرَّجُلِ إِلَى النَّارِ، قِيلَ: انْتَظِرْ حَتَّى تَنْفَحَكَ، فَيُؤْتَى بِكَأْسٍ مِنْ سُمِّ الأَفَاعي، وَالأَسَاوِدِ، إِذَا أَدْنَاهَا مِنْ فِيهِ نَثَرَتِ اللَّحْمَ عَلى حِدَةٍ والعَظْمَ عَلَى حِدَةٍ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَهَنَّادٍ، وَابْنِ جَريرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَابْنِ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ الهُّ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ"، قَالَ: كُلُوحَ الرَّأْسِ النَّضِيجِ، بَدَتْ أَسْنَانُهُمْ، وَتَقَلَّصَتْ شِفَاهُهُمْ.
وَقِيلَ: الكُلُوْحُ هُوُ: تَقْطِيبُ الوَجْهِ وَبُسُورُهُ. وَمِنْهُ كُلوحُ الأَسَدِ أَيْ: تَكْشِيرُهُ عَنْ أَنْيَابِهِ. فَقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ الهُه عنْهُما، فِي قَوْلهِ ـ تَعَالَى: "كَالِحُونَ" قَالَ: عَابِسُونَ.
وَيُقالُ: دَهْرٌ كالِحٌ، وَبَرْدٌ كالِحٌ، أَيْ: شَديدٌ. وَكَلَحَ الرَّجُلُ يَكْلَحُ كُلُوحًا وَكِلاحًا.
قولُهُ تَعَالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} تَلْفَحُ: فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ. و "وُجوهَهُمُ" مفعولُهُ مَنْصُوبٌّ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والميمُ: لتذْكيرِ الجَمعِ. و "النَّارُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. والجملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في محلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ ضميرِ المُشرِكينَ الذينَ خَفَّتْ مَوازينُهم، وهوَ واوُ الجماعةِ في قولِهِ {خالدونَ} منَ الجملةِ التي قبلَها، ويَجوزُ أَنْ تكونَ خَبَرًا ثانِيًا لِـ {أُولئكَ}في محلِّ الرَّفعِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} الواوُ: حاليَّةٌ، و "هُمْ" ضميرٌ مُنفصِلٌ، مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابتِداءِ، وَ "فيها" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بالخبَرِ خالدونَ، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحَرْفِ الجَرٍّ. و "كالحونَ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ، مرفوعٌ، وعلامةُ الرَّفعِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ. وهَذِهِ الجملةُ الاسْمِيَّةُ في محلِّ النَّصْبِ عَلَى الحالِ مِنْ ضميرِ المُشْركينَ الذينَ خَفَّتْ مَوازينُهُمْ، وهوَ واوُ الجماعَةِ في "وُجُوهَهُمُ".