الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 101
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} الآيةُ هَذِهِ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ مِنَ الآيَةِ الَّتي قَبْلَها: {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}, فَإِنَّ زَمَنَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ هُوَ يَوْمُ الْبَعْثِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا جَاءَ يَوْمُ يَبْعَثُونَ، وَلَكِنْ عُدِلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ، وَذَلِكَ تَصْوِيرًا لِحَالَةِ يَوْمِ الْبَعْثِ.
وقِيلَ المُرادُ هوَ النَّفخَةُ الأُولَى حَيْثُ يَمُوتُ الخَلْقُ جَمِيعًا. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ الهُّ تعالى عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ ـ تَعالى: "فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ"، قَالَ: حِينَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَلَا، يَبْقَى حَيٌّ إِلَّا اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ الهُِ عنهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعالى: "فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ"، قَالَ: فِي النَّفْخَةِ الأُولَى.
لكنَّ الأَرْجَحَ عِنْدَنا أَنَّ المَقْصُودَ هوَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ لِقَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ" فإِنَّ المُرَادَ بالآيَةِ، نَفْيُ ما تَعَارَفُوا عَلَيْهِ فِي الحَيَاةِ الدُنْيا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِلَوَازِمِ رَابِطَةِ النَّسَبِ والقَرَابَةِ مِنْ وُجوبِ المناصَرَةِ والمساعدةِ والشَّفاعَةِ والمعونةِ وَغَيرِها ممَّا يكونُ بينَ الأنْسِباءِ عادةً فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا لشِدَّةِ هَوْلِ المَوقِفِ، ومِثْلُ هَذا التساؤُلِ لا يكونُ بَيْنَ الأَمْوَاتِ، وإِذًا فإنَّ المُرادَ هُوَ النَّفخةُ الثانيةُ حيْثُ يبعَثُ النَّاسُ، وَيَخْرجونَ مِنْ قُبُورِهِمْ، ويرونَ ما يرَوْنَ مِنْ أَهوالٍ، فيَذْهَلُ بعضُهُمْ عَنْ أَنْ يَسْأَلِ نَسيبَهُ وقريبَهُ النَّصْرَ والمَعُونَةَ لأَنَّ جِمِيعَهَمْ يكونونَ في أَشَدِّ الحاجَةِ لِذَلِكَ، فمَنْ ينصُرُ مَن؟ ومَنْ يعينُ مَنْ؟، كما لو أَنَّ نارًا أَحاطَتْ بجماعَةٍ منَ الأَقْرِبَاءِ وأَخَذَتْ في الْتِهامَ أَجْسادِهِم. فهَلْ يَطْلُبُ أَحَدُهُمْ مَعونةَ أَخيهِ وهما يُلْتَهَمُانِ مَعًا؟. وَالهُخ أَعْلَمُ.
وَالصُّورُ: هُوَ الْبُوقُ العَظِيمُ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ المَلاكُ المُكَلَّفُ بِذلكَ يوْمَ القيامَةِ، وَاسْمُهُ إِسْرافيلُ ـ علَيْهِ السَّلامُ، وذَلِكَ عِنْدَمَا يأْمُرُهُ اللهُ ـ تَعَالَى، بِالنَّفخِ فيهِ لِيَخْرُجَ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ وَيَنْفُرونَ إِلَى رَبِّهِمُ العظيمِ رَبِ النَّاسِ والعالَمِينَ أَجْمَعِينِ. فالمقصودُ هُنَا النَّفخَةُ الثَّانِيَةَ كَمَا قالَ ـ تَعَالى، في الآيَةِ: 68، مِنْ سُورَةِ الزُّمَرِ: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}. وَقدْ أُسْنِدَ فعلُ النَّفْخِ إِلَى مَجْهُولٍ لِأَنَّ الْمُرادَ هوَ الاعْتِنَاءُ بِحَدَثِ النَّفْخِ لَا بِالنَّافِخِ، والتَّنَبُّهُ لِمَا يكونُ بعْدِ هَذِهِ النَّفخةِ مِنْ أُمُورٍ عِظامٍ وأحْداثٍ جِسَامٍ، حَيْثُ يكونُ عندها الحِسابُ عَلَى ما قدَّمَ المَرْءُ في حياتِهِ الأُولَى ثمَّ يُجْزَى الجزاءَ الأوفى، أعاننا الهُُ على أَهوالِ هَذا الموقفِ الصَّعبِ والحَدَثِ الجَلَلِ، الذي تَشِيبُ لهُ الولدانُ وتَذْهَلُ كلُّ مُرضِعةٍ عمَّا أَرْضَعَتْ، وتضَعُ كلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمَلَهَا وترى النّاسُ سُكارى وما هُمْ بِسُكارى ولكنَّ عَذابَ الهِم شديدٌ، كَمَا تقدَّمَ بيانُهُ في تفسيرِ سورةِ الحجِّ.
قولُهُ: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} هوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ وُجودِ المُغيثِ وَالنَّصِيرِ، في ذَلِكَ الْيَوْمِ الخَطِيرِ والشَّرِّ المُسْتَطيرِ، فَإِنَّ مَعْنَى نَفْيِ الْأَنْسَابِ هَنَا هُوَ نَفْيُ آثَارِهَا مِنْ لَوَازِمِ الْقَرَابَةِ عِنْدَهُمْ، كَالنُّصْرَةِ، والنَّجْدَةِ، وَالشَّفَاعَةِ، فَقَدِ انْتَفَتْ كُلُّ آثارِ ذَلِكَ النَّسَبُ الَّذي كَانَ يَرْبِطُ بَيْنَهُمْ حِينَ نَفْخِ المَلَاكِ إِسْرافيلَ فِي الصَّورِ.
وَالأَنْسابُ: جَمْعُ نَسَبٍ وَهُوَ القَرَابَةُ مِنْ جِهَةِ الوِلادَةِ، وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنِ التَّوَاصُلِ، وَهُوَ فِي الأَصْلِ مَصْدَرٌ. ومنهُ قوْل الشَّاعِرُ أَنَسِ بِنِ العَبَّاسِ بْنِ مِرْداسٍ السُّلَمِيُّ، (على البَّحرِ السَّريعِ):
لا نَسَبَ اليَوْمَ وَلَا خُلَّةً ..................... اتَّسَعَ الخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ
وَالنُّسْبَةُ ـ بِالْكَسْرِ وَالضَّمِّ، وَالنَّسَبُ: هوَ ما كانَ في الآباءِ خَاصَّةً. وَهُوَ أَنْ تَذْكُرَ الرَّجُلَ فَتَقُولَ: هُوَ فُلانُ بْنُ فُلانٍ، أَوْ تَنْسُبَهُ إِلَى قَبِيلَةٍ، أَوْ بَلَدِ، أَوْ صِنَاعَةٍ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: وَيكونُ مِنْ قِبَلِ الأُمِّ وَالأَبِ. وقيلَ: النِّسْبَةُ ـ بالكَسْرِ: مَصْدَرُ الأَنتسابِ، كَ "سِدْرةٍ" وَالجَمْعُ نِسَبٌ كَ "سِدَرٍ". والنُّسْبَةُ ـ بالضَّمِ كَ "غُرفةٍ" والجَمْعٌ "غُرَفٌ". والنُّسْبَةُ ـ بالضَّمّ: الاسْمُ. واسْتَنْسَبَ الرَّجُلُ كانْتَسَبَ: ذَكَرَ نَسَبَهُ. والنَّسِيبُ كالمَنْسُوبِ: المُنَاسِبُ والجَمْعُ نُسَباءُ وأَنْسِبَاءُ. وَرَجُلٌ نَسِيبٌ: ذُو حَسَبٍ وَنَسَبٍ، تَقولُ: فُلَانٌ نَسِيبيِ، وَهُمْ أَنْسبِائي. وَنَسَبَ الشَيْءَ يَنْسُبُه ـ بالضَّمِّ، نَسْبًا بفَتْحٍ فَسُكونٍ، وَنِسْبَةً بكَسْرٍ فسُكونٍ: عَزَاهُ. وَنَسَبَهُ يَنْسِبُهُ ـ بالكَسْرِ، نَسَبًا ـ مُحَرَّكَةً. وَنَسَبْتُ فُلانًا أَنْسُبُهُ بالضَّمّ نَسْبًا: إِذا رَفْعْتَ في نَسَبِهِ إِلى جَدِّهِ الأَكْبَرِ. ونَاسَبَ فلانًا: شَرِكَهُ في نَسَبِهِ.
وَنَسَبَ الشَّاعِرُ بِالْمَرْأَةِ يَنْسِبُ وَيَنْسُبُ: شَبَّبَ بهَا فِي الشِّعْرِ وتَغزَّلَ وذَكَرَهَا في شِعْرِهِ وَوَصَفَهَا بالجَمَال والصِّبَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أوصافِ الأُثى المُحَبَّبَةِ، سَوَاءً أكانَ حَقًّا أَوْ باطِلًا. وَالنَّسِيبُ: الغَزَلُ في الشِّعْرِ وقدْ سُمِّيَ ذلكَ تَشبيبًا لِأَنَّهُ في الغالِبِ يَكونُ في زَمَنِ الشَّبَابِ، أَوْ لأَنَّهُ يَشْمَلُ ذِكْرَ الشَّبَابِ، وسمِّيَ الغَزَلَ لِمَا فِيهِ مِنَ المُغازَلَةِ وَالمُنَادَمَةِ. وَيُقَالُ هَذَا الشِّعْرُ، أوِ الشَّاعِرُ أَنْسَبُ إِذَا كانَ أَرَقَّ تَشْبِيبًا وَنَسِيبًا. وشِعْرٌ مَنْسُوبٌ: أَيْ فِيهِ نَسِيبٌ وتَغَزُّلٌ، وَيُجْمَعُ عَلى مَنَاسِيب، قالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ:
هَلْ فِي التَّعَلُّلِ مِنْ أَسَمَاءَ مِنْ حُوبِ .. أَمْ في السَّلامِ وَإِهْدَاءِ المَنَاسِيبِ
والنَّسَّابُ العالِمُ بالنَّسَبِ ويُجْمَعُ عَلى: نَسّابُينَ، وأَدْخَلُوا الهاءَ فِيهِ فقالوا: نَسَّابَةً مُبَالَغَةً في المَدْحِ.
وقدْ كانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ وأَرضاهُ، رَجُلًا نَسَّابَةً، إِذْ كانَ يَحْفَظُ أَنْسابَ العَرَبِ.
قولُهُ: {وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} أَيْ: لَا يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا نَجْدةً أَوْ مَعُونَةً، كَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ المَعَارِجِ: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} الآيَةَ: 10.
وَأَمَّا إِثْبَاتُ التَّسَاؤُلِ يَوْمَئِذٍ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سورةِ الصَّافَّاتِ: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ * قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ * قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ * بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ * فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ} الآياتِ: (27 ـ 33) فَذَلِك بَعُدَ يَأْسُهُمْ مِنْ وُجُودِ نَصِيرٍ أَوْ شَفِيعٍ. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَعندَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَابْنِ أَبي حَاتِمٍ: أَنَّ رَجُلًا (هُوَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ الْخَارِجِيُّ) قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ ـ ـ رَضِيَ الهُْ عنْهُما: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ، قَالَ: "فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ" وَقَالَ: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ} الآيةَ: 27، مِنْ سُورَةِ الصَّافَّاتِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ الهُذ عنْهُما: أَمَّا قَوْلُهُ: "فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ"، فَهُوَ فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ، فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الْآخِرَةِ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ الهُّ تَعَالى عَنْهُما، أَنَّهُ سُئِلَ عَن الْآيَتَيْنِ فَقَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ: "وَلَا يتساءلونَ" فَهَذَا فِي النَّفْخَةِ الأُولَى حِينَ لَا يَبْقَى عَلَى الأَرْضِ شَيْءٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} الْآيَةَ: 27، مِنْ سورةِ الصّافَاتِ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الْجَنَّةَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا فِي ذَلِكَ رَأْيٌ، مُستَفيدينِ مِنِ اضطِّرابِ النَّقْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ الهَُ عَنْهُمَا، فإِنْ صَحَّ النَّقْلُ عَنْهُ ـ رَضِيَ الهَُ عنْهُ، فَإِنَّ القاصِرَ فَهْمُنَا. والهُُ أَعْلَمُ بمُرادِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يكونَ المَعْنَى: لا يَسْأَلُ أحَدَهُمُ الآخَرَ هُنَاكَ عَنْ حَسَبِهِ وَلَا عَنْ نَسَبِهِ، كَمَا كانُوا يَفْعَلُونَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وذلكَ لِعِظَمِ المَوْقِفِ وَشِدَّةِ الهَوْلِ، وَقَدْ رَأَوا مَا أَذْهَلَهُمْ عَنْ أَنفُسِهِمْ، فَكيْفَ لَا يَذْهَلونَ عَمَّنْ حِوْلَهُم.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ المَعْنَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَسْأَلُ هُنَالِكَ أَحَدًا شيْئًا البَتَّةَ. فَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ الهَُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي الْآيَةِ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَسْأَلُ أَحَدًا بِنَسَبِهِ وَلَا بِقَرَابَتِهِ شَيْئًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ الهَُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي الْآيَةِ: لَا يَسْأَلُ أَحَدٌ يَوْمئِذٍ بِنَسَب شَيْئًا، وَلَا يَنْتَمِي إِلَيْهِ بِرَحِمٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ الهُِ تَعَالى عَنْهُ، أنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللهُ الْأَوَّلِّينَ وَالآخِرينَ ـ وَفِي لفظ: يُؤْخَذُ بِيَدِ العَبْدِ، أَوِ الْأَمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الأَوَّلِّينَ والآخِرينَ، ثُمَّ يُنَادي مُنَادٍ: إِلَّا إِنَّ هَذَا فَلَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَمَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ قِبَلَهُ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقِّهِ ـ وَفِي لَفْظٍ: مَنْ كَانَ لَهُ مَظْلَمَةٌ فَلْيَجِئْ فَلْيَأْخُذْ حَقَّهُ، فَيَفْرَحُ ـ وَاللهِ، الْمَرْءُ أَنْ يَكونَ لَهُ الْحَقُّ عَلَى وَالِدِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا. وَمْصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ: "فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ الهُِ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ أَبْغَضُ إِلَى الإِنْسانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَنْ يَرَى مَنْ يَعْرِفُهُ، مَخَافَةَ أَنْ يَدُورَ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ ثُمَّ قَرَأَ قولَهُ ـ تَعَالى، مِنْ سُورَةِ عَبَسَ: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} الْآيَةَ: 34.
إِذًا فإِنَّ كلَّ نَسَبٍ بينَ البَشَرِ يَنْقَطِعُ يومَ القيامَةِ وكلَّ قرابةٍ ورابطَةٍ إِلَّا نَسَبَ سَيِّدِنَا رَسُولِ الهَِ ـ صلَّى الهُن عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فإنَّهُ يبقى مُتَّصِلًا وَلَا يَنْقَطِعُ، جاءَ ذلِكَ فيما أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ, وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أُهَيْبٍ الزُّهْرِيِّ ـ رَضِيَ الهُي تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ الْأَنْسَابَ تَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرَ نَسَبِي وَسَبَبِي وَصِهْرِيْ)). وكَذلكَ الحديثُ الَّذي أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالضِّيَاءُ المَقدِسِيُّ فِي المُخْتَارَةِ عَنْ أميرِ المُؤمنينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ الهُُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا سَبَبِي وَنَسَبِيَ)). وَمِثْلُهُ مَا أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ الهُْ عنْهُما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ نَسَبٍ وَصِهْرٍ يَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا نَسَبِي وَصِهْرِي)).
قوْلُهُ تَعَالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} الفاءُ: لِلِاسْتِئْنَافِ. وَ "إذا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، خافضٌ لِشَرْطِهِ مُتَعَلِّقٌ بِجَوَابِهِ. و "نُفِخَ" فِعْلٌ مَاضٍ مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ، (مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ). وَ "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّائِبِ عَنْ فَاعِلِهِ. وَ "الصُّورِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ لِـ "إِذَا" عَلَى كَوْنِهَا فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا.
قولُهُ: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوَابِ "إِذَا" الشَّرْطِيَّةِ. وَ "لَا" نَافِيَةٌ للجِنْسِ تَعْمَلُ "إِنَّ". و "أَنْسَابَ" مبنيٌّ على الفتْحِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُهَا. و "بَيْنَهُمْ" بَيْنَ: مَنْصوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفِ خَبَرِ "لَا"؛ والتقديرُ: فَلَا أَنْسَابَ كائِنَةٌ بَيْنَهُمْ، وَهوَ مُضَافٌ، وَيَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِـ "أَنْسَابَ"، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذوفٍ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِـ "أَنْسابَ". والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ: لتذْكيرِ الجَمْعِ. وَ "يَوْمَئِذٍ" يَوْمَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانِيَّةِ، وَهُوَ مُضافٌ. "إِذٍ" ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمانِ مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ الظَّرْفُ المَذْكُورُ قَبْلَهُ، أَوْ الأَوَّلُ: صِفَةٌ لِأَنْسَابِ، وَالثاني: خَبَرٌ لِـ "لا" النافيةِ للجِنْسِ؛ أَيْ: فَلَا أَنْسَابَ كَائِنَةٌ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، نَافِعَةٌ يَوْمَئِذٍ. وهوَ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ. وَالتَّنْوينُ عِوَضٌ مِنَ الجُمْلَةِ المَحْذوفَةِ؛ والتَّقْديرُ: يَوْمَ إِذْ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ. وَجُمْلَةُ "لَا" جَوَابُ "إِذَا"، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. وَجُمْلَةُ "إذا" جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَيسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرَابِ.
قَولُهُ: {وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} الواوُ: للعَطْفِ، وَ "لَا" نافيةٌ مُهْمَلَةٌ فلا عملَ لَهَا، وَ "يَتَسَاءَلُونَ". فِعْلٌ مُضَارِعٌ، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بِالفاعِليَّةِ، وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ معطوفةٌ على الجُمْلَةِ قبلَها على كَوْنِها جوابَ "إِذَا" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {فِي الصُّورِ} بِضَمِّ الصَّادِ وَسُكونِ الواوِ. وَقرَأَ ابْنُ عبَّاسٍ، والحَسَنُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا "بالصُّوَرِ" بِفَتْحِ الوَاوِ جَمْعَ صُورَةٍ. وقرَأَ أَبُو رَزِينٍ في الشَّاذِّ "الصِّوَرِ" بِكَسْرِ الصَّادِ وفَتْحِ الوَاوِ، وهَذَا عَكْسُ "لُحًى" بِضَمِّ اللَّامِ جَمْعَ "لِحْيَةٍ" بِكَسْرِهَا.