الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 96
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} قالَ الإمامُ الثَّعلبيُّ في تفسيرِهِ: المَعْنَى: ادْفَعْ بالخِلَّةِ الَّتي هِيَ أَحْسَنُ ـ وَهِيَ الصَّبْر والصَّفْحُ، أَذَاهُمْ وَجَفَاهُمْ. تَفْسيرُ الإمامِ الثَّعْلَبِيِّ (الكَشْفُ والبَيَانُ عَنْ تَفْسيرِ القُرْآنِ): (3/64 أ).
والمعنى: ادْفعْ أَذى المُشركينَ وتَكذيبهُمْ لَكَ يا رَسولَ الهَل ـ صلَّى الهُـ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، بالصَّفْحِ عَنْهُمْ تَارَةً، وبِالإعْرَاضِ عَمَّا يَفْتَرُونَهُ عَلَيْكَ أُخْرَى بحسَبِ ما تَرَاهُ مُنَاسِبًا. فَقَدْ ذَكَرَ الإمامُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ المُرَادَ بِـ "السَّيِّئَةَ" هوَ أَذَى المُشْرِكِينَ إِيَّاهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ (الجامعُ للعلومِ والحِكَمِ): (18/51). كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يَتَّبِعَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ مِنْ ربِّهُ، وَأنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ، فَقَالَ فِي الآيةِ: 106، مِنْ سُورَةِ الأنْعَامِ: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الأَعْرَافِ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} الآيةَ: 199، وَأَمَرهَ في سورةِ الحِجْرِ أَنْ يُواصِلَ تَبْلِيغِ رِسالَتِهِ وأَنْ يُعِرِضَ عَنْ المُشْركينَ فقالَ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} الآيَةَ: 94.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ الهَُ عَنْهُ، أَنَّهُ قال: "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ" يَقُولُ: أَعْرِضْ عَنْ أَذَاهُمْ إِيَّاكَ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: (18/51)، وَالثَّعْلَبِيُّ: (3/64 أ). وَهَذَا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِقِتَالِهِمْ. وَانْظُرْ أَيْضًا: "النَّاسِخُ وَالمَنْسُوخُ" لِهِبَةِ اللهِ ابْنِ سَلَامَةَ: (ص: 67)، و "النَّاسِخُ والمَنْسُوخُ" لِابْنِ حَزْمٍ: (ص: 46)، و "نَاسِخُ القُرْآنِ العَزيزِ وَمَنْسُوخُهُ" لابْنِ البَارزيِّ: (ص: 42). فإنَّ الآيةَ عندَهم مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ القِتَالِ مِنْ سورةِ التَّوْبَةِ. لكِنَّ الصَّوابَ بحسبِ ما نقَلَهُ ابْنُ الجوزيِّ عَنْ بَعْضِ العلماءِ المُحَقِّقِينَ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الآياتِ الَّتي أَمَرَ الهُم فيها المُؤمنينَ بِقِتَالِ الكافرينَ، وانْظُرْ "نَاسِخُ القُرْآنِ وَمَنْسُوخُهُ" لابْنِ الجوزيِّ (ص: 467). فإِنَّهُ قَالَ: لَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى القَوْلِ بِالنَّسْخِ، لِأَنَّ المُدَارَاةَ مُحْمُودَةٌ مَا لَمْ تَضُرَّ بِالدِّينِ، وَلَمْ تُؤَدِّ إِلَى إِبْطالِ حَقٍّ وَإِثْبَاتِ باطِلٍ.
وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: (3/254): قالَ تَعَالَى مُرْشَدًا لَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى التِّرْيَاقِ النَّافِعِ فِي مُخَالَطَةِ النَّاسِ، وَهُوَ الإِحْسَانُ إِلَى مَنْ يُسِيءُ إِلَيْهِ لِيَسْتَجْلِبَ خَاطِرَهُ، فَتَعُودُ عَدَاوَتُهُ صَدَاقَةً وَبُغْضُهُ مَحَبَّةً .. .
وَهَذَا كَمَا قَالَ ـ تَعَالى، في الآيةِ: 34، مِنْ سُورَةِ فُصِّلَتْ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} .
وقدْ ذَكَرَ مِثْلَ هَذا كُلٌّ مِنَ الشَّيْخِ أَبي حيَّانَ الأنْدَلُسِيُّ في تَفْسيرِهِ: "البَحْرُ المُحِيطُ": (6/422)، وَالعلامةُ الشَّنقيطِيُّ في تَفْسِيرِهِ: "أَضْواءُ البَيَانِ": (5/818).
وَذَكَرَ الإمامُ الماوَرْدِيُّ في تَفْسِيرِهِ "النُّكَتُ وَالعُيُونُ": (4/66)، أَنَّ أَهْلَ المَعَاني قالُوا في معنى الآيَةِ: إِذَا ذَكروا المُنْكَرَ فَاذْكُرْ أَنْتَ الحُجَّةَ فِي فَسَادِهِ، والمَوْعِظَةَ الَّتي تَصْرِفُ عَنْهُ إِلى ضِدِّهِ مِنَ الحَقِّ بِتَلَطُّفٍ فِي الدُّعاءِ إِلَيْهِ وَالْحَثِ عَلَيْه.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ عَطَاءٍ ـ رَضِيَ الهَُ عَنْهُ، أَنَّهُ قال: "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ": بِالسَّلَامِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ الهُِ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ في الآيةِ: "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ": نِعْمَتْ ـ وَاللهِ، الجُرْعَةُ تَتَجَرَّعُهَا وَأَنْتَ مَظْلُومٌ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَغْلِبَ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ فَلْيفْعَلْ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ الهُّ عَنْهُ، أَنَّهُ قال: "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ": قَوْلُ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ، يَقُولُ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَأَنَا أَسْأَلُ اللهُ أَنْ يَغْفِرَ لَكَ، وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأَنَا أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي.
وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ المُفردِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ الهَُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي قرَابَةٌ أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونَ، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إليَّ، وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ وَأَحْلُمُ عَنْهُم. قَالَ ـ صلَّى الهُّ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((لَئِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُ كَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَلَ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ـ تَعَالَى، ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ)).
قولُهُ: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} وَعِيدٌ للمُشْركينَ بِالعُقُوبَةِ الشديدةِ عَلَى ما يَفْتَرونَهُ على رَسُولِهِ، وما يُلْصِقونَهُ بِهِ مِنْ صِفَاتٍ غيرِ مَوجودةٍ فيهِ، وغيرِ لائِقَةٍ بمقامِهِ ـ علَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. أَيْ: أَنَّ الهَه ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى، هوَ أَعلمُ بِمَا يَصْفُونَ بِهِ رَسُولَهَ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى الهَُ تَعَالَى عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، أَوْ أعلمُ بِوَصْفِهِمْ إيَّاهُ، وأَنَّهُ ـ عَلَيْهِ صَلواتُ الهِل وسَلامُهُ، عَلى خِلَافِ مَا يَصِفونَهُ بِهِ. وفي ذلكَ تَسْلِيَةٌ لِقَلْبِهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عمَّا يُلَاقِيهِ مِنْ أذى المُشْركينَ، وَإِرْشَادٌ لَهُ إِلَى أنْ يُفَوِّضَ أَمْرِهِ إلى رَبِّهِ ـ تَعَالى، وموْلاهُ.
قوْلُهُ تَعَالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي} ادْفَعْ: فِعْلُ أَمْرٍ مبنِيٌّ عَلى السُّكونِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يعودُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ رَسولِ الهِِ ـ صلَّى الهُِ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. و "بِالَّتِي" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقُ بـ "ادْفَعْ"، و "الَّتي" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} هِيَ: ضميرٌ منفَصِلٌ مَبنيٌّ على الفتْحِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. وأَحْسَنُ خَبَرُهُ مَرفوعٌ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ صَلِةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الَّتي" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. و "السَّيِّئَةَ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصوبٌ للفعلِ: "ادْفعْ".
قولُهُ: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِما} نَحْنُ: ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَرْفوعٌ بالابْتِدَاءِ، و "أعلمُ" خَبَرُهُ مَرفوعٌ. و "بِمَا" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ "أَعْلَمُ"، و "مَا" موصولةٌ مَبْنِيَّةٌ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَخَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {يَصِفُونَ} فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ، لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الَّناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بِالْفاعِلِيَّةِ، وَالْجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةٌ لِـ "مَا" الْمَوْصُولَةِ فَلَيْسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإعرابِ، والعائدُ مَحْذوفٌ، والتَّقديرُ: بِمَا يَصِفُونَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ "مَا" مَصْدَرِيَّةً؛ فيكونُ التقديرُ: نحنُ أعلمُ بِوَصْفِهِمْ لَكَ، وسُوءِ ذِكْرِهِمْ.