قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(84)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} اسْتِئْنَافُ للاسْتِدْلَالِ عَلَى وجودِ الإِلَهِ الخالقِ والمالِكِ لِما فِي السَّماواتِ والأَرْضِ، وَإِثْبَاتٌ لِوَحْدَانِيَّتِهِ ـ تَعَالَى، فَالْكَلَامُ عنا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ في الآيةِ: 80، السَّابِقَةِ: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}.
فَلَقَدْ كانَ المُشْرِكُونَ العَرَبُ مُضِطَرِبِي العَقِيدَةِ، فهم لَا يُنكِرُون وُجُودَ اللهِ، وَلَا يُنْكِرُون أَنَّهُ خالقُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ ومَا فِيهَا، وَمَالِكُها وَمُدَبِّرُ أَمْرِهَا، وَلَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ فقد كَانُوا يُشْرِكُونَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى في العِبَادَةِ، لِتُقَرِّبَهم إِلَى اللهِ زُلْفَى. ويَعتَقدونَ أَنَّ المَلائِكَةَ هَنَّ بَنَاتُ اللهِ ـ تَعَالى، فأَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ الكَريمَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ، أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنِ واحدَةٍ مِنَ الْمُسَلَّمَاتِ اَلَّتِي يُقِرُّونَ بِهَا، كَمُلْكِيَّتِهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى: لِلأَرْضِ وَمَنْ فَيهَا، مُذَكِّرًا لَهُمْ بأمْرٍ يَعْلَمُونَهُ، ويؤمنونَ بِهِ، لِأَنَّ مَالِكَ الشيْءِ هوَ الأَوَلَى بطاعَتِهِ وعبادتِهِ. قَالَ الكَلْبِيُّ: لَمَّا كَذَّبُوهُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتَاهُ جِبْريلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْ لِأَهْلِ مَكَّةَ: مَنْ خَالِقُ الأَرْضِ ومالِكُها ومَنْ فيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟. ذَكَرَهُ المَاوَرْدِيُّ في تفسيرِهِ: (4/62).
وَالِاسْتِفْهَامُ هنا تَقْرِيرِيٌّ، أَيْ أَجِيبُوا عَنْ هَذَا، فإنَّهُ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا أَنْ يُجَيبُوا: إِنَّهَا للهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ. وَالْمُرادُ مِنْ هَذا السُّؤالِ: إِثْبَاتُ لَازِمِ جَوَابِهِمْ، وَهُوَ انْفِرَادُهُ ـ جَلَّ وَعَلَا، بِالْوَحْدَانِيَّةِ.
قولُهُ تَعَالَى: {قُلْ} فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَوْلُهُ: {لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} لِمَنِ: اللَّامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ خَبَرٍ مُقَدَّمٍ وُجُوبًا. وَ "مَن" اسْمُ اسْتِفْهَامٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، وقدْ حُرِّكَ بالكَسْرِ لِتَلَاقِي السَّاكنَيْنِ. و "الْأَرْضُ" مَرْفوعٌ بالابْتِدَاءِ مُؤَخَّرٌ. وَ "وَمَنْ" الواوُ: للعَطْفِ، و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنِيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى "الأَرْضُ". و "فِيهَا" في: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِلَةٍ للاسْمِ المَوصُولِ "مَنْ"، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْميَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قُلْ".
قوْلُهُ: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إِنْ: حَرْفُ شَرْطٍ جازمٌ. و "كُنْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ، مبنِيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ التَّاءُ، في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهَا فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، والتاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ اسْمُ "كانَ"، والميمُ: علامَةُ الجَمعِ المُذَكَّرِ. وَجَوابُ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ مَحْذوفٌ، والتَّقْديرُ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، فَأَخْبِرُوني بِخَالِقِهِمَا، وَفي هَذا تَلْويحٌ بِغَبَاوَتِهِمْ.
قولُهُ: {تَعْلَمُونَ} فِعْلٌ مُضَارِعٌ، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الَّناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بِالْفاعِليَّةِ. والجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، خَبَرُ "كَانَ".