الموسوعة القرآني
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 70
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} جِنَّةٌ: أَيْ جُنُونٌ، وَالجُنُونُ هُوَ الْخَلَلُ الْعَقْلِيُّ الَّذِي يُصِيبُ الْإِنْسَانَ، فقد كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ ما يقولُهُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، سبَبُهُ مَسٌّ مِنَ الْجِنِّ.
وَيُطْلَقُ "الْجِنَّةُ" عَلَى الْجِنِّ وَهِيَ مَخْلُوقَاتٌ مُسْتَتِرَةٌ عَنْ أَبْصَارِنَا لِأَنَّ "الجَنَّ" معناهُ السَّتْرُ والإخفاءُ، قالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الأَنْعَامِ: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} الآيةَ: 76، أَيْ: فلمَّا أَظلمَ الليلُ عليْهِ فَسَتَرَ عنْهُ الأَشْياءَ وأَخْفَاهَا عَنْهُ، رأى كوكبًا وسَطَ هَذِهِ الظُّلمةِ. ومِنْهُ، سُمِّيَتِ المخلوقاتُ المُسْتَتِرَةُ عنَّا فلا تراها أبْصارُنا "جانٌّ" وَ "جِنٌّ" وَجِنَّةٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الصَّافاتِ: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} الآيَةَ: 158. وَكَقَوْلِهِ ـ تباركَ وتعالى، فِي الآيةِ: 6، مِنْ سُورَةِ النَّاسِ: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}.
وَمَنْ أَصابَهُ مَسٌّ مِنْ هَذِهِ المَخلوقاتِ أُطْلِقِ عَلَى الدَّاءِ اللَّاحِقِ بِهِ جَرَّاءَ إِصَابَةِ الْجِنِّ اسْمُ الجنونِ وَعلى صَاحِبُهُ "مَجْنُون"، لأنَّهُ فقدَ إدراكَهُ للأُمُورِ والتَّمْيِيزَ بيْنَ الأشياءِ، فكأنَّما أخفيَتْ حقائقُها عَنْهُ فلم يعد يدركُها، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا بِدَلِيلِ بَاءِ الْمُلَابَسَةِ في "بِهِ". فيكونُ مَعْنَى هَذِهِ الجُملةِ: أَلَعَلَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ رَسُولَهُمُ مُحمَّدًا ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، الَّذِي يَعْرِفُونَهُ قَدْ أُصِيبَ بِالجُنُونِ وَلِذَلِكَ فَقَدِ انْقَلَبَ صِدْقُهُ كَذِبًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنهُما: يُريدُ: وَأَيُّ جُنُونٍ يَرَوْنَ بِهِ؟.
قولُهُ: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} أَيْ: بَلْ جَاءَهُمْ بالتَّنْزيلِ الَّذي هُوَ الحَقُّ. قالَ ابْنُ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهٌ عَنْهُما: يَعْنِي القُرْآنَ. وَقَالَ مُقاتِلٌ: يَعْنِي بهِ التَّوْحِيدَ. تَفْسِيرُ مُقَاتِلِ ابْنِ سُلَيْمانَ: " (2/32 أ).
قولُهُ: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} أَيْ: وَأَكْثَرُهُمْ كَارِهُونَ للقُرْآنِ، أَوْ كارهوَ للتَّوْحِيدِ، بِحَسَبَ مَا وَرَدَ عَنْ الإِمامَيْنِ الجَلِيلَيْنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُقاتلٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما.
قولُهُ تَعَالى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} أَمْ: حَرْفُ عَطْفٍ بِمَعْنَى "بَل" الإضْرَابِيَّةِ، وَهَمْزُةُ الاسْتِفْهَامِ التَّقْريرِيِّ؛ أَيْ: بَلْ أَيَقُولُونَ. و "يَقُولُونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الَّناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ {لَمْ يَدَّبَّرُوا} لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {بِهِ جِنَّةٌ} بِهِ: الباءُ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "جِنَّةٌ" مَرْفوعٌ بالابْتِدَاءِ مُؤخَّرٌ، وهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْميَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "يَقُولُونَ".
قولُهُ: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} بَلْ: حَرْفٌ للإِضْرَابِ الإبْطَالِيِّ. و "جَاءَهُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ على الفَتْحِ وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازًا تقديرُهُ (هوَ) عائدٌ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الْمَفْعُولِيَّةِ. و "بِالْحَقِّ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ فَاعِلِ ضميرِ الفاعِلِ في "جَاءَ"؛ أَيْ: بَلْ جَاءَهُمْ رَسُولُنا مُحَمَّدٌ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، حَالَ كَوْنِهِ مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ. وَ "الحَقِّ" مَجْرُورٌ بِحِرْفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطوفَةُ عَلَى جُمْلَةِ "يَقُولُونَ" عَلَى كَوْنِها لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} الواوُ: حالِيَّةٌ، و "أكثرهم" مَرْفوعٍ بالابْتِدَاءِ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ، والميمُ: للجَمْعِ المُذَكَّر. و "لِلْحَقِّ" اللَّامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ "كَارِهُونَ"، وَ "الحقِّ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "كَارِهُونَ" خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رَفْعِهِ الواوُ لأَنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، عَلى الحَالِ مِنْ ضَمِيرِ المَفْعُولِ بِهِ فِي قولِهِ: "جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ".