الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 42
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ} أَيْ: ثمَّ
خلَقنا مِنْ بعْدِ هلاكِهِمْ أُمَمًا كَقَوْمُ لُوْطٍ وَشُعَيْبٍ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، وغيرُهم.
وقيلَ: المُرادُ هُمُ الْأُمَمُ الَّذِينَ لَمْ تُرْسَلْ إِلَيْهِمْ رُسُلٌ، بَلْ بَقُوا عَلَى شَرِيعَةِ نُوحٍ، أَوْ شَرِيعَةِ هُودٍ، أَوْ شَرِيعَةِ صَالِحٍ، أَوْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِشَرْعٍ البتَّةَ لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذِكْرِ الْأُمَمِ هُنَا دُونَ ذِكْرِ الرُّسُلِ، ثُمَّ ذِكْرُ الرُّسُلِ عَقِبَ ذَلكَ يُشيرُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الأُمَمَ إِمَّا لَمْ تَأْتِها رُسُلٌ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ تَرْكَهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَأَهَّلُوا لِقَبُولِ شَرَائِعَ، وإمَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى شَرَائِعَ سَابِقَةٍ مما أَنْزَلَهُ اللهُ ـ تَعَالَى.
وَهَذَا يَعْني أَنَّ الحَديثَ في الآياتِ التَّالِيَةِ سَيَكونُ عَنْ رِسَالَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَأُمَمٍّ مُخْتَلِفَةٍ، قَدْ تَكونَ مُتَعَاصِرَةً، كَمَا تَعَاصَرَ إِبْرَاهِيُمُ وَلُوطٌ، وَمُوسَى وَشُعَيْبٌ ـ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، وقدْ تكونُ مَتَتَابِعَةً يَأْتي بعضُها بعدَ بعضٍ. فَقَامُوا مَقَامَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ فِي عِمَارَةِ الدُّنْيَا وَبَلَّغَهُمْ حَدَّ التَّكْلِيفِ، وأَرْسَلَ مِنْ لَدُنْهِ رِسالاتٍ معَ مُرْسلينَ، لِيَهْدُوهم إِلَى السَّبِيلِ القَويمِ، وَيُرْشِدوهُمْ إِلى الصِّراطِ المُستَقِيمِ الَّذي ارْتَضَاهُ لَهُمْ رَبُّ العالَمِينَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُمَا: يُرِيدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. والعلمُ عِنْدَ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ.
فإِنَّهُ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، مَا أَخْلَى الأَرضَ مِنْ أُمَمٍ خلَقَهَا، وَمُكَلَّفِينَ أَنْشَأَهُمْ، وَإِنَّ كُلَّ جِيلٍ أُمَّةٌ، وَإِنَّ لكُلِّ أُمَّةٍ مِيقَاتُها الَّذي تَجِيءُ فِيهِ، فَتَعْقُبُ مَنْ سَبَقَهَا مِنَ الأُمَمِ، فَالدُّنْيا لَا تَقِفُ عِنْدَ أُمَّةٍ قَضَى اللهُ بِزَوَالِهَا بِسَببِ كفرها وتكْذيبِها، إِلَى أَنْ يَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كانَ مَفْعُولًا، فيهْلِكَ الأرضَ وما عَلَيْها ثُمَّ يُحْيِي اللهُ الموتى وَيَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ للحِسابِ والجَزاءِ.
قولُهُ تَعَالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ} ثُمَّ: حَرْفٌ للعَطْفِ والتَّراخٍي. و "أَنْشَأْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ متحَرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نفسَهَ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ المفعولِ بِهِ "قُرُونًا"؛ لِأَنَّهُ صِفَةُ نَكِرَةٍ قُدِّمَتْ عَلَيْها. و "بَعْدِهِمْ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ علامةُ تَذْكيرِ الجَمعِ. و "قُرُونًا" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. و "آخَرِينَ" صِفَةٌ لـ "قرونًا" منصوبةٌ مِثْلَها، وعلامةُ نَصْبِها الياءُ لأنَّهُ مُلْحقٌ بِجَمْعِ المُذكَّرِ السَّالمِ، والنونُ عِوَضٌ منَ التنوينِ في الاسْمِ المُفْردِ. وَالْجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} مِنَ الآيَةِ الَّتي قبلَها عَلَى كَوْنِها مَعْطوفةً عَلى جُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفةٍ لَيسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرابِ.