فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ الآية: 26
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} هوَ اسْتِئْنَافٌ للإجابةِ عَلَى سُؤَالٍ مُتَرَتِّبٍ عَلَى تَكْذيبِ المَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ لَهُ واتَّهامِهِمْ إِيَّاهُ بالجُنُونِ، وكأنَّ سائلًا قالَ: فَمَا كانَ جوابُ نوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لهُمْ، فَقِيلَ: لَمَّا أَصَرُّوا عَلى الكُفْرِ بِرِبِّهِمْ وتَكْذِيبِ نَبِيِّهِمِ، وامتدَّتْ فترةُ صَبْرِهُ عَلَيْهِمْ، حَيْثَ رُوِيَ أَنَّهُ لَبِثَ فيهِمْ تِسْعَمِئَةٍ وَخَمْسِينَ عَامًا يَنتظِرُ أَنْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ، فَيَرْجِعُوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمْ وأَتَاهُ الإِخْبَارُ مِنَ اللهِ ـ تَعَالَى، بأَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ منهم أَحَدٌ غيْرُ مَنْ آمَنَ، قالَ ـ تَعَالَى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُون} الآيَةَ: 36، مِنْ سورةِ هُودٍ، فَيَئِسَ مِنْ إِيمَانِهِمْ وَدَعَا عَلَيْهِمْ بِالَهَلَاكِ حتَّى لا يَتَمَادَوْا فِي غِوَايَتِهِمْ وضَلالِهِم أَكْثَرَ فقالَ: "رَبِّ انْصُرْنِي" كما قالَ في الآيَةِ: 10، مِنْ سُورةِ القَمَرِ: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}، وَكَمَا قَالَ منْ سُورَةِ نُوحٍ: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} الآيتانِ: (26 و 27). وَ "بِمَا كَذَّبُونِ" أَيْ: بِسَبَبِ تَكْذِيبِهْمْ إِيَّايَ.
أَمَّا سيُّدُنا محمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ ـ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَكْمَلُ الصَّلاةِ وَأَتَمُّ التَّسْليمِ، فَلَمْ يدْعُ عَلَى قوْمِهِ بَالْهلاكِ، حينَ سلَّطوا عليْهِ صبيانَهُم وسُفَهاءهم فرمَوْهُ بالحجارةِ حتَّى سالَ الدَّمُ مِنْ كَعْبيْهِ، وجاءَهُ جِبْريلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَمَعَهُ المَلَكُ المُوكَّلُ بالجبالِ، وقالَ: (هذا) بَلْ رَجا اللهَ ـ إنْ كانَ قَضَى بِعَدَمِ إِيمانِهم، أَنْ يُخْرِجَ مَنْ أَصْلَابِهِم مَنْ يؤمِنُ باللهِ فَقَالَ فَقدْ أخْرجَ الأَئِمَّةُ عَنْ أُمِّ المُؤمنينَ السَّيِّدةَ عَائِشَةَ الصِّدِّيقةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّها قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟، قَالَ: ((لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ (مِنْ بتي ثَقِيف وكانَ مِنْ أَكَابِر أَهْل الطَّائِفِ) فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ، إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ (جَبَل صَغِيرٌ مُنْقَطِع مِنْ جَبَل كَبِيرٍ عَلَى بُعْدِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْ مَكَّة، وَيُقَال لَهُ: قَرْنُ الْمَنَازِل أَيْضًا، وهو مِيقَات أَهْل نَجْدٍ) فَرَفَعْتُ رَأسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ، فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ (هما جَبَلُ أَبُي قُبَيْسٍ وَالَّذِي يُقَابِلهُ، وَهُوَ الْجَبَل الْأَحْمَرُ الَّذِي يُشْرِف عَلَى قُعَيْقِعَان، وسُمِّيَا بالأَخْشَبَيْنِ، لِصَلَابَتِهِمَا، وَغِلَظ حِجَارَتهمَا)، فَقَالَ لَهُ رَسُول اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ((بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. أَخرجَهُ أَحْمَدُ والشَّيخانِ في الصَّحيحيْنِ: (البُخَارِي (3/1180، رقم: 3059)، ومُسْلِمٌ: (3/1420، رقم: 1795)، والنَّسائيُ في الكُبرى، والبيْهَقِيُّ في الأسماءُ والصِّفات، وابْنُ حِبَّانَ، وابنُ خُزيمةَ في التوحيد، والطَّبرانيُّ في الأَوْسَطِ، وأَبُو عُوانةَ في مُسْتَخْرَجَهِ، والبزَّارُ في مُسْنَدِه، والبغَويُّ في شَرْحِ السُّنَّةِ.
وَالْتِجاؤُهُ ـ عَليْهِ السَّلامُ، إِلَى اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ، ودُعَاؤُهُ رَبَّهُ، وطَلَبُ النَّصْرِ مِنْهُ، يَقْتَضِي أَنَّهُ عَدَّ فِعْلَهُمْ مَعَهُ اعْتِدَاءً عَلَيْهِ بِوَصْفِهِ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّ العالَمِينَ.
وَالنَّصْرُ: هوَ إِعانةُ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ لِتَغْلِيبِهِ عَلَى الْمُعْتَدِي ـ وأخَذِ الحقِّ منهُ، فَقَدْ سَأَلَ نُوحٌ النَّصْرَ مِنَ اللهِ بعدَ أَنْ أعْلَمَهُ بأَنَّ لَا رَجَاءَ فِي إِيمَانِ قَوْمِهِ إِلَّا مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ هُودٍ، فَلَا رَجَاءَ فِي أَنْ يَكُونَ نَصْرُهُ بِرُجُوعِهِمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَتَصْدِيقِهِ وَاتِّبَاعِ مِلَّتِهِ، ولذلكَ فَقد سَأَلَ نوحٌ حِينَذَاكَ نَصْرًا خَاصًّا، وَهُوَ اسْتِئْصَالُ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا، كَمَا جَاءَ فِي الآيتين: (26 و 27)، مِنْ سُورَةِ نُوحٍ وقدْ تقدَّمَ ذِكْرُهُما أعلاهُ.
وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُقاتِلُ بْنُ سُلَيْمانَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، المَعْنَى: انْصُرْني بِتَحْقِيقِ قَوْلِي فِي العَذَابِ، أَنَّهُ نَازِلٌ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنْ لَمْ يُطِعْنِي، وَلَمْ يَسْمَعْ رِسَالَتِي. "تَفْسيرُ مُقاتِل: (2/30).
قولُهُ تعالى: {قَالَ} فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلى الفَتْحِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو)، يَعُودُ عَلى نبيِّ اللهِ نُوحٍ ـ عَليْهِ السَّلامُ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيَانِيًّا لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {رَبِّ} مَنْصوبٌ عَلَى النِّداءِ، وَعَلَامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقدَّرَةٌ عَلَى ما قبلِ ياءِ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفةِ تَخْفيفًا، لانْشِغالِ المَحَلِّ بِالْحَرَكةِ المُنَاسِبةِ لِلياءِ، وَهوَ مُضَافٌ، وَيَاءُ المُتَكَلِّمِ المَحذوفَةُ للتَّخْفيفِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، وُجُمْلَةُ النِّدَاءِ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، مَقُولُ القولِ لِـ "قالَ".
قولُهُ: {انْصُرْنِي بما} انْصُرْنِي: فِعْلُ طلبٍ مبنيٌّ على السكونِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيِهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ)، يعودُ على "رَبِّ" والنُّونُ للوِقَايَةِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعوليَّة. و "بِمَا" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ للسَّبَبِيَّةِ أَوِ لِلْبَدَلِ، وَ "ما" مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: بِسَبَبِ تَكْذيبِهِمْ إِيَّايَ، أَوْ بَدَلَ تَكْذِيبِهِمْ إيَّايَ، وَجُوِّزَ أَنْ تَكونَ آلِيَّةً وَ "مَا" مَوْصُولَةً، أَيْ: انْصُرْنِي بالَّذي كَذَّبوني بِهِ، وَهُوَ العَذَابُ الَّذي وَعَدْتُهُمْ إِيَّاهُ لَمَّا قُلْتُ لَهُم: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} الآيةَ: 59، مِنْ سُورةِ الأَعْرَافِ، فَانْصُرْني بِإِنْجازِ ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى مَا فٍي حَذْفِ مِثْلِ هَذَا العَائِدِ مِنَ الكَلَامِ. و "مَا" مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قَالَ".
قولُهُ: {كَذَّبُون} فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في محَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والنٌّونُ للوِقايَةِ، وَياءُ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفةُ، اجْتِزَاءً عَنْهَا بِكَسْرَةِ نونِ الوِقايَةِ، فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةٌ لِـ "ما" المَصْدَرِيَّةِ. و "ما" مَعَ صِلَتِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجُرورٍ بِالبَاءِ السَّبَبِيَّةِ، الجَارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِـ "انْصُرْنِي" وَالتَّقْديرُ: انْصُرْني بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّايَ.
قرَأَ الجُمْهورُ: {رَبِّ} بكَسْرِ الرَّاءِ. وَقرَأَ عِكْرِمَةُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: "قَالَ رَبُّ" بِضَمِّها.