اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
(75)
قَولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا} إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، حَيْثُ لَمْ يَقُلْ: هُوَ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا ...، لِأَنَّ اسْمَ الْجَلَالَةِ أَصْلُهُ الْـ "إِلَهُ"، أَيِ الْإِلَهُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، فَإنَّ اشْتِقَاقَهُ هَذا مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ مُسَمَّاهُ جَامِعٌ لِكُلِّ الصِّفَاتِ الْعُلَى تَقْرِيرًا لِلْقُوَّةِ الْكَامِلَةِ المُطْلَقَةِ وَالْعِزَّةِ الْقَاهِرَةِ.
وَقد قُدِّمَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَهُوَ اسْمُ الْجَلَالَةِ "اللهُ" عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ "يَصْطَفِي" لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، أَيِ: اللهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَصْطَفِي ويختارُ ولسْتمْ أَنْتُمْ الذينَ تَصْطَفُونَ وتختارونَ مَنْ تُريدونَ أَنْ يُرْسِلَهُ إليكم وتفرضونَهُ عليْهِ وَتَنْسِبُونَه إِلَيْهِ.
وقد تَقَدَّمَ فَيمَا سَبَقَ مِنْ آياتٍ مُبَارَكَاتٍ أَنَّ المُشْرِكِينَ كَذَّبوا سَيِّدَنا رَسولَ اللهِ ـ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأَكْثَرُوا مُجادَلَتَهُ بالباطِلِ، وكانَ مِنْ دَوَاعِي تَكذِيبِهِم لِرِسَالَتِهِ أَنَّهم كانَوا يَسْتَهْجِنُونَ أَنْ يُتَّخِذَ اللهُ رُسُلًا مِنَ البَشَرِ، بَلْ يَرَوْنَهُ أَمْرًا مُسْتحيلًا، كَمَا قَالَ تَعَالى في الآيَةِ: 8، مِنْ سُورَةِ الأَنْعَام: {وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}، أَيْ: يُصْحَبُهُ تَأْيِيدًا لَهُ وَتَصْديقًا لِنُبُوَّتِهِ. وقَالَ مِنْ سُورَةِ يُونُس ـ علَيْهِ السَّلامُ: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} الآيةَ: 2، وَقالَ مِنْ سُورَةِ الإِسْراءِ: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا} الآيةَ: 94، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِم في الآيةِ الَّتي تَلِيهَا فَقَالَ: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} الآيَةَ: 95، منْ سُورَةِ الإِسْرَاءِ. وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الفُرْقَانِ: {وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا} الآيَةَ: 21. وَقالَ في الآيَةِ: 2، مِنْ سُورَةِ (ق): {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ}. إِلَى غَيْرِهَا مِنْ آيات.
ولَمَّا كَذَّبَ كفَّارُ قُرَيشٍ سيِدنا محمَّدًا ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وَجَادَلُوهُ فَأَكْثَرُوا الجَدَالَ، وَكانُوا إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُ ربِّهم: {يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا} الآيةَ: 72، السَّابقةَ. أَعْقَبَ الرَّدَّ عَلَيْهِم وَإِبْطالَ أَقْوَالِهِمُ السَّابِقَةِ بِبَيَانِ أَنَّ لَهُ ـ سُبْحانَهُ، أَنْ يَصْطَفِي مَنْ شاءَ مِنْ خَلقِهِ لِيُرسِلَهُ إِلَى عبادِه. فَقَدْ يَخْتَارُ مَلَاكًا، وَقَدْ يَخْتَارُ بَشَرًا، وَلَكِنْ إِذَا اخْتَارَهُ مِنَ المَلَائِكَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَشَكَّلَ هَذَا المَلَاكُ بِصُورَةِ البَشًرِ لِيَسْتَطِيعَ المُرْسَلُ إِلَيْهِمْ رُؤْيَتَهُ وَسَمَاعَ صوتِهِ والأَخْذَ عَنْهُ، كَمَا قَالَ مِنْ سُورَةِ الأَنْعَام: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} الآيةَ: 9. كَيَوْم نَزَلَ جِبْريلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَلَى رَسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِصُورَةِ رَجُلٍ يَلْبَسُ ثِيابًا بَيْضَاءَ، وَرَسُولُ اللهِ فِي جَمْعٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ: مَا الإِيمانُ؟ وَ: مَا الإِسْلامُ" وَ: مَا الإحْسانُ؟ وَالنَّبِيُّ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، يُجيبُهُ، وَلَمَّا غادَرَ، قَالَ النبيُّ لِأَصْحَابِهِ: أَتَدْرُونَ مَنِ السَّائلُ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: هَذَا جِبْريلُ أَتَاكُمْ يُعلِّمكُمْ أُمُورَ دِينِكم، والحديثُ مَشْهورٌ مِنْ روايةِ أَمِيرِ المُؤْمِنينَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.
قَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ} قَدَّرَهُ بعضُهُم: وَمِنَ النَّاسِ رُسُلًا. وَلَا حَاجَةَ لهذا التقديرِ، لأَنَّهُ مُقَدَّرُ بـ: يَصْطَفِي اللهُ مِنَ المَلَائِكَةِ وَمِنَ النَّاسِ رُسَلًا.
فإنَّ للهِ أَنْ يَخْتَارَ مَنْ شَاءَ مِنْ المَلَائكةِ أَوْ مِنَ النَّاسِ رَسولًا لَهُ إِلَى خَلْقِهِ، وَلَيْسَ لأَحَدٍ منْ خلْقِهِ أَنْ يَعتَرِضَ عَلَى اخْتِيَارِهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، بَلْ عَلَيْهِمُ السَّمْعُ والطَّاعَةُ، أَيَفْرُضُ المَخْلُوقُ عَلَى خالِقِهِ وَالْعَبْدُ عَلَى سَيِّدِهِ مَنْ يُحَمِّلُهُ رِسالَتَهُ إِلَيْهِ بِرِسَالَتِهِ؟!. إِنَّهُ مُنْتَهَى الشَّطَطِ، وَالغُرُورِ والصَّلَفِ، وَالوَقاحَةِ وَالعِصْيَانِ لرَبِّ العالمينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، المَلِكِ الدَّيانِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا باللهِ العليِّ العظم.
وَالمُصْطَفُونَ مِنَ النَّاسِ هُمُ الأَنبياءُ والمُرْسَلونَ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الإمامِ السُّدِّيِّ إِسْمَاعِيْلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّه قَالَ فِي الْآيَةِ: الَّذِينَ "يَصْطَفِي" مِنَ النَّاسِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ.
وَللاصْطِفاءِ وُجُوهٌ، فَقَدْ أَخْرَجَ في الآيةِ الإمَامُ أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَاكِمُ النَّيسابوريُّ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى مُوسَى بِالْكَلَامِ، وَإِبْرَاهِيمَ بالخُلَّةِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِم أَيْضًا وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مالكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ صَفِيُّ اللهِ.
وَأَخْرَجَ الإمامُ الْبَغَوِيّ فِي مُعْجَمَهِ، والباوَرْدِيُّ، وَابْنُ قَانِعٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ الصَّحابيِّ الجَليلِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أَوْفَى ـ رَضِي اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّه قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: ((أَيْنَ فُلَانٌ، أَيْنَ فُلَانٌ))؟. فَلَمْ يَزَلْ يَتَفَقَّدُهُمْ وَيَبْعَثُ إِلَيْهِم حَتَّى اجْتَمَعُوا عِنْدَهُ فَقَالَ: إِنِّي مُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثٍ فاحْفَظُوهُ، وَعُوهُ، وَحَدثُوا بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ خَلْقًا، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: "اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ" خَلْقًا يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وَإِنِّي مُصْطَفٍ مِنْكُمْ مَنْ أُحِبُّ أَنْ أَصْطَفِيَهُ، وَمُؤَاخٍ بَيْنَكُمْ كَمَا آخَى اللهُ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ، قُمْ يَا أَبَا بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ. فَقَامَ، فَجَثَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ لَكَ عِنْدِي يَدَا، إِنَّ اللهَ يَجْزِيكَ بهَا، فَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُكَ خَلِيلًا، فَأَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ قَمِيصِي مِنْ جَسَدِي ـ وَحَرَّكَ قَمِيصَهُ بِيَدِهِ.
ثُمَّ قَالَ: اُدْنُ يَا عُمَرُ، فَدَنَا، ثُمَّ قَالَ: اُدْنُ يَا عُمَرُ، فَدَنَا عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، ثُمَّ قَالَ: كُنْتَ شَدِيدَ الشَّغَبِ عَلَيْنَا أَبَا حَفْصٍ، فَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعِزَّ الدِّينَ بِكَ، أَوْ بِأَبي جَهْلٍ، فَفَعَلَ اللهُ ذَلِكَ لَكَ، وَكُنْتَ أَحَبَّهُمَا إِلَيَّ، فَأَنْتَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. ثُمَّ تَنَحَّى وَآخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما.
ثُمَّ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّان ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فَقَالَ: اُدْنُ يَا عُثْمَانُ، اُدْنُ يَا عُثْمَانُ، فَلَمْ يَزَلْ يَدْنُو مِنْهُ حَتَّى أَلْصَقَ رُكْبَتَهُ بِرُكْبَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى عُثْمَانَ، فَإِذا أَزْرارُهُ مَحْلُولَةٌ، فَزَرَّهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: اِجْمَعْ عِطْفَيْ رِدَائِكَ عَلَى نَحْرِكَ، فَإِنَّ لَكَ شَأْنًا فِي أَهْلِ السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيم ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قالَ: أَنْتَ مِمَّنْ يَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا، فَأَقُولُ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكَ؟ فَتَقُولُ: فلَانٌ وفلانٌ. إِذْ هَتَفَ هاتفٌ مِنَ السَّمَاءِ: أَلَا إِنَّ
عُثْمَانَ أَمِيرٌ عَلَى كُلِّ خَاذِلٍ، وَذَلِكَ كَلَامُ جِبْرِيل.
ثُمَّ دَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنَ بْنَ عَوْفٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فَقَالَ: اُدْنُ يَا أَمِينَ اللهِ وَتُسَمَّى الْأَمينَ فِي السَّمَاءِ، يُسَلِّطُ اللهُ عَلَى مَالِكَ بِالْحَقِّ، أَمَا إِنَّ لَكَ عِنْدِي دَعْوَةٌ، وَقَدْ أَخَّرْتُها. قالَ أَخِرْها لِي يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: حَمَّلْتَنِي يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَمَانَةً، أَكْثَرَ اللهُ مَالَكَ. وَجَعَلَ يُحَرِّكُ يَدَهُ، ثُمَّ تَنَحَّى، وآخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما.
ثُمَّ دَخَلَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فَقَالَ: ادْنُوا مِنِّي، فَدَنَوَا مِنْهُ، فَقَالَ: أَنْتُمَا حَوَارِيَّ كَحَوَارِي عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ. ثُمَّ آخَى بَيْنَهُمَا.
ثُمَّ دَعَا سَعْدَ بْنَ أَبي وَقَّاصٍ، وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فَقَالَ: يَا عَمَّارُ تَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ. ثُمَّ آخَى بَيْنَهُمَا.
ثُمَّ دَعَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فَقَالَ: يَا سَلْمَانُ أَنْتَ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ، وَقَدْ آتَاكَ اللهُ الْعِلْمَ الأَوَّلَ وَالْعِلْمَ الآخِرَ، وَالْكِتَابَ الأَوَّلَ وَالْكِتَابَ الآخِرَ. ثُمَّ قَالَ ألَا أَنْشُدُكَ يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ؟ قَالَ: بلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: إِنْ تَنْقُدْهُمْ يَنْقُدوكَ، وَإِنْ تَتْرُكْهم لَا يَتْرُكوكَ، وَإِنْ تَهْرُبْ مِنْهُمْ يُدْرِكُوكَ، فأَقْرِضْهُمْ عِرْضَكَ لِيَوْمَ فَقْرِكَ. فآخَى بَيْنَهُمَا.
ثُمَّ نَظَرَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ: ابْشِرُوا وَقَرُّوا عَيْنًا، فَأَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ وَأَنْتُمْ فِي أَعْلَى الغُرَفِ.
ثُمَّ نَظَرَ إِلَى عَبْدِ اللهِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي يَهْدِي مِنَ الضَّلَالَةِ.
فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُول اللهِ، ذَهَبَ رُوحِي وَانْقَطَعَ ظَهْرِي حِينَ رَأَيْتُكَ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ بِأَصْحَابِكِ غَيْرِي، فَإِنْ كَانَ مِنْ سَخَطٍ عَلَيَّ فَلَكَ العُتْبَى وَالكَرَامَةُ. فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ وَمَا أَخَّرْتُكَ إِلَّا لِنَفْسِي فَأَنْتَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ هَرُونَ مِنْ مُوسَى، وَوَارِثِي. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَرِثُ مِنْكَ؟ قَالَ: مَا وَرَّثَتِ الْأَنْبِيَاءُ. قَالَ: وَمَا وَرَّثَتِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَكَ؟. قَالَ: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِمْ، وَأَنْتَ مَعِيَ فِي قَصْرِي فِي الْجَنَّةِ مَعَ فَاطِمَةَ ابْنَتِي، وَأَنْتَ أَخِي وَرَفِيقِي، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَذِهِ الْآيَةَ {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} الآيةَ: 47، مِنْ سُورَةِ الحِجْرِ، وَ: 44، الصَّافَّات، الأَخِلَّاءُ فِي اللهِ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} سَمِيعٌ: يَسْمَعُ كلَّ شيْءٍ، مهما عَلَا، أَوِ انْخَفَضَ مِنْ أيٍّ صدَرَ في أيَّ زمانٍ أوْ مكانٍ، و "بَصِيرٌ" فيُبْصِرُ كلَّ شيْءٍ مهما كَبَرَ أَوْ صَغُرَ، في كلِّ زمانٍ ومكانٍ وُجِدَ فيهِ. وهذا كِنَايَةٌ عَنْ عُمُومِ عِلْمِهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، بِالْأَشْيَاءِ جميعِها بِحَسَبِ القواعدِ الْمُتَعَارَفِ عليها فِي أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ لَا تَعْدُو المُبْصَرَاتِ وَ المَسْمُوعَاتِ.
قَولُهُ تَعَالَى: {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} لَفْظُ الجَلَالَةِ "اللهُ" مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ. و "يَصْطَفِي" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ مُقَدَّرةٌ على آخِرِهِ لِثِقَلِها على الياءِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "اللهُ" ـ تَعَالَى. وَ "مِنَ" حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ رُسُلًا؛ لِأَنَّهُ صِفَةُ نَكِرَةٍ قُدِّمَتْ عَلَيْهَا. ويجوزُ أَن يَّتَعَلَّقَ بـ "يَصْطَفِي". وَ "الْمَلَائِكَةِ" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "رُسُلًا" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ. وَ "وِمِنَ النَّاسِ" مَعْطُوفٌ عَلَى "مِنَ الْمَلَائِكَةِ"، وَحُذِفَ مِنَ الثَّاني، لِدَلَالَةِ الأَوَّلِ عَلَيْهِ؛ أَيْ: وَيَصْطَفِي مِنَ النَّاسِ رُسُلًا، وَجُمْلَةُ "يَصْطَفِي" في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَالْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَقْريرِ اصْطِفَائِهِ تَعَالَى الرُّسُلَ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} إِنَّ: حرفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ لِلتَّوْكِيدِ. وَلَفْظُ الجَلَالَةِ "اللهَ" اسْمُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وَ "سَمِيعٌ" خَبَرُهُ الأَوَّلُ مرفوعٌ بِهِ. وَ "بَصِيرٌ" خَبَرُهُ الثاني مَرْفوعٌ بِهِ أَيْضًا، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.