ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
(74)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} الآيَةَ: 91. وَالْقَدْرُ: الْعَظَمَةُ، أَيْ: مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ إِذْ أَشْرَكُوا مَعَهُ أَضْعَفَ مَخْلُوقَاتِهِ وَأَحْقَرَها وَمَنْ لا يَسْتَطِيعُ ذَبَّ الذُّبابِ عَنْ وجْهِهِ وَطَرْدَهُ، ولا الدِّفاعَ عَنْ نَفْسِهِ البتَّةَ، وَهُوَ سُبْحانَهُ، القادِرُ القَاهِرُ الْغَالِبُ ذو الْقُوَّةِ المَتِينُ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ الحُسْنَى، وجَلَّتْ صِفاتُهُ العُلَى.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مَا قدرُوا الله حق قدره} قَالَ: حِين يعْبدُونَ مَعَ الله مَا لَا يَنْتَصِفُ مِنَ الذُّبَابِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمانِ، عَنْ طَارقِ بْنِ شِهَابٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ سَلْمَان: دَخَلَ رَجُلٌ الْجَنَّةَ فِي ذُبَابٍ، وَدَخَلَ رَجُلٌ النَّارَ فِي ذُبَابٍ.
قَالُوا: وَمَا الذُّبَابُ فَرَأَى ذُبَابًا عَلى ثَوْبِ إِنْسَانٍ فَقَالَ: هَذَا الذُّبَابُ.
قَالُوا: وَكَيفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: مَرَّ رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ عَلَى قَوْمٍ يَعْكِفونَ عَلَى صَنَمٍ لَّهُمْ، لَا يُجَاوِزهُ أَحَدٌ، حَتَّى يُقَرِّبَ لَهُ شَيْئًا، فَقَالُوا لَهُمَا: قَرِّبَا لِصَنَمِنَا قُرْبَانًا. قالا: لَا نُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا. قَالُوا: قَرِّبَا مَا شِئْتُمَا وَلَوْ ذُبَابًا. فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا تَرَى؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لَا أُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا. فَقُتِلَ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ.
فَمَرَّ الآخَرُ: بِيَدِهِ عَلى وَجْهِهِ فَأَخَذَ ذُبَابًا فَأَلْقَاهُ عَلَى الصَّنَمِ فَخَلُوا سَبيلَهُ فَدَخَلَ النَّارَ.
قَوْلُهُ: {إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} الْقَوِيُّ: هُوَ الْقادِرُ عَلَى كُلِّ مُرَادٍ لَهُ، وَالْعَزِيزُ: هُوَ الْغَالِبِ لِكُلِّ مُعَانِدٍ لَهُ. وهمَا مِنْ أَسْمَائِهِ ـ تَعَالَى، الحُسْنَى.
والجُملةُ تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ التي قَبْلَهَا، فَإِنَّهم مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ لَمَّا أَشْرَكُوا مَعَ اللهِ فِي الْعِبَادَةِ مَا هُوَ ذَلِيلٌ ضَعِيفٌ مَهِينٍ، وَهُوَ ـ سُبحانَهُ، القَوِيُّ العَزِيزُ، فَكَيْفَ يُشَارِكُهُ الضَّعِيفُ الذَّلِيلُ المَهينُ.
وَفي الْعُدُولِ عَنْ الخِطَابِ إلى الْغَيْبَةِ، الْتِفَاتٌ للتَّعْرِيضِ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلْمُخَاطَبَةِ تَوْبِيخًا لَّهُمْ، وَفِي قَوْلِهِ: "إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" تَهْدِيدٌ لَهُمْ بِأَنَّ اللهَ ـ تَعَالى، سَوْفَ يَنْتَقِمُ مِنْهُمْ عَلَى وَقَاحَتِهِمْ، وَسُوءِ أَدَبِهِمْ مَعَ رَبِّهِمْ وَمَوْلاهُمْ وَخالِقِهِمْ ـ جلَّ وَعَلَا.
وَقدْ أَكِّدَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الكريمةُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ المُزحلقةِ لِتَنْزِيلِ عِلْمِهِمْ بِـ "إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" َالَّذي لا يُخْتَلَفُ فِيهِ اثنانِ مَنْزِلَةَ الْإِنْكَارِ لَهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعملوا بموجْبِ ما عَلِموا حِينَ أَشْرَكُوا مَعَ الْقَوِيِّ الْعَزِيزِ ضُعَفَاءَ أَذِلَّةً مَهِينِينَ.
قولُهُ تَعَالى: {ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} مَا: نَافِيَةٌ. و "قَدَرُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" مَنْصُوبٌ على المَفْعُوليَّةِ. وَ "حَقَّ" مَنْصُوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ، مُضافٌ. و "قَدْرِهِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ أَيضًا. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} إِنَّ: حرفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتَّوكيدِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. و "لَقَوِيٌّ" اللَّامُ هي المُزحلقةُ للتوكيدِ (حَرْفُ ابْتِدَاءٍ)، وَ "قَوِيٌّ" خَبَرُ "إِنَّ" الأَوَّلُ مرفوعٌ بِهَا. و "عَزِيزٌ" خَبَرُها الثاني وهوَ مرفوعٌ بها أيضًا، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلهَا لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.