أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ
(70)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} هُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ تَقْرِيرِيٌّ، أَيْ: إِنَّكَ تَعْلَمُ ذَلِكَ، وَفِيهِ زِيادَةُ تَأْكيدٍ عَلَى قولِهِ ـ تَعَالى: {اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} مِنَ الآيةِ التي قبلَها، وتَأْيِيدٌ لَهُ، لِمَزيدٍ مِنْ التَسْلِيَةِ وَإِدْخالِ الطُمَأْنِينَةِ عَلى قَلْبِ عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ ورُسُولِهِ سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وَقُلوبِ المُؤمِنِينَ بِهِ مَعَهُ بِأَنَّ اللهَ ـ سُبحانَهُ وَتَعَالى، يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ في السَّماءِ والأَرضِ، ولا يَخْفَى علَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٍ، ومَنْ كانَ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ، وَقَادِرًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، ولا يَرْضَى بأَنْ يكونَ ضِمْنَ مُلْكِهِ وتَحْتَ سُلْطانِهِ مِنَ الظُّلْمِ شَيْءٌ، أَحْرَى بِأَنّْ تَطْمَئنَّ لَهُ نَفْسُ المَظْلومِ بِأَنَّهُ ناصِرُها، ومُحَقِّقُ العَدالةِ لَهَا، إِذا مَا لَاقَتْ مِنَ الظُّلْمِ والجَوْرِ أَيَّ شَيْءٍ. فَلَا يَضِقْ صَدْرُكَ يا رَسُولَ اللهِ مِمَّا تُلَاقِيهِ مِنْهُمْ، فإِنَّ ربَّكَ مُؤيِّدُكَ وناصِرُكَ وحافظُكَ.
قولُهُ: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} هَذِهِ الجُملةُ الكريمةُ بيانٌ للَّتي قَبْلَهَا، أَيْ: يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عِلْمًا مُفَصَّلًا لَا يَخْتَلِفُ ولا يَتَغِيَّرُ ولا يُنْسى ولا يُمْحَى، لِأَنَّهُ مُثَبَّتٌ في كتابٍ، ومِنْ شَأْنِ الْكِتَابِ أَنْ لَا تَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ ولا تَطْرَأَ عَلَيْهِ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ، وَمَا كَانَ مُدَوَّنًا في كِتَابٍ فهوَ أَجْدَرُ بألَّا يُضَيَّعَ مِنْ شَيْءٌ، وَالْكِتَابُ هُوَ مَا بِهِ حِفْظُ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ: وقدَ جاءَ ذلكَ إِمَّا عَلَى تَشْبِيهِ كَمَالِ الْحِفْظِ بِالْكِتَابَةِ، وَإِمَّا عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَجَائِزٌ أَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِذَلِكَ كِتَابًا لَائِقًا بِكلِّ تِلْكَ الأعمالِ والأَحْداثِ والْمُغَيَّبَاتِ.
قولُهُ: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} صُدِّرتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ بِـ "إنَّ" المؤَكِّدَةِ تَأْكيدًا لِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَائِدٌ إِلَى مَضْمُونِ الِاسْتِفْهَامِ مِنَ الْكِنَايَةِ فَتَأْوِيلُهُ بِالْمَذْكُورِ آنِفًا مِنْ إِحاطةِ عِلْمِهِ ـ تَعَالَى، بِكُلِّ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وإثْباتِ كُلِّ تلكَ المعلوماتِ والوَقائعِ في كتابٍ للتوثيقِ والحِفظِ.
وَلِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ مَا تَقَدَّمَ، ولِلدَّلَالَةِ عَلَى إِمْكَانِ تَحَقُّقِهِ فِي جَانِبِ عِلْمِ اللهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَقَدْ قُدِّمَ الجَارُّ والمَجرورُ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ الَّذي هُوَ قَوْلُهُ "يَسِيرٌ"، فهوَ أَمْرٌ في قبضَتِهِ ـ عزَّ وجَلَّ، وَمُكْنَتِهِ، ولا يَعْسُرُ عليْهِ في شَيْءٍ أَبَدًا، لِأَنَّ أَمْرَهُ إِذَا أَرادَ شَيْئًا فإنَّما يقولُ لِهِ "كُنْ فيكونُ".
أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: خَلَقَ اللهُ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ لِمَسِيرَةِ مِئَةِ عَامٍ، وَقَالَ للقَلَمِ ـ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ وَهُوَ عَلَى الْعَرْشِ: اكْتُبْ. قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟. قَالَ: عِلْمِي فِي خَلْقِي إِلَى يَوْم تَقُومُ السَّاعَةُ. فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فِي عِلْمِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ"، يَعْنِي مَا فِي السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعِ، "إِن ذَلِكَ" الْعِلْمَ "فِي كِتَابٍ" يَعْنِي فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَكْتُوبٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِينَ، "إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسيرٌ" يَعْنِي هَيِّنٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ أَنسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: سَيَفْتَحُ اللهُ عَلَى أُمَّتِي بَابًا مِنَ الْقَدَرِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، لَا يَسُدُّهُ شَيْءٌ، وَيَكْفِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَقُولُوا: "أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ".
وَأَخْرَجَ اللِّالْكَائيُّ فِي "السُّنَّةِ" مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ سُلَيْمَان بْنَ جَعْفَرٍ الْقُرَشِيِّ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ مُرْسَلًا.
قولُهُ تَعَالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ} أَلَمْ: الهَمْزَةُ: لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْريرِيِّ. و "لَمْ" حرفُ جَزْمٍ ونَسْخٍ وقلْبٍ. و "تَعْلَمْ" فعلٌ مُضارعٌ مَجْزُومٌ بِهِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فِيْهِ وُجُوبًا تقديرُهُ (أَنتَ) يَعُودُ عَلى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {أَنَّ اللهَ} أَنَّ: حرفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعْلِ للتوكيدِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ، وخبرُهُ جُملةُ "يعلَمُ"، وَجُمْلَةُ "أَنَّ" واسْمُها وخبرُها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ سَادٍّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "تَعْلَم".
قوْلُهُ: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} يَعْلَمُ: فعلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، و "مَا" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ، أَوْ هيَ نَكِرةٌ مَوْصوفةٌ. وَ "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِلَةٍ لِـ "مَا" أَوْ بِصِفَةٍ لَهَا إِنْ كانتْ نَكِرَةً مَوْصوفةً. و "السَّمَاءِ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ، و "الْأَرْضِ" مَعْطوفٌ عَلَى السَّمَاءِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ "أَنَّ" في محلِّ الرَّفعِ.
قولُهُ: {إِنَّ ذَلِكَ في كتابٍ} إِنَّ: حرفٌ نَاصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَّوْكيدِ. و "ذلكَ" اسْمُ الإشارةِ "ذا" مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسمُ "إِنَّ"، واللامُ للبُعْدِ، والكافُ للخطابِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "إنَّ"، و " و "كِتَابٍ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا، لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} إِنَّ: حرفٌ نَاصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَّوْكيدِ. و "ذلكَ" اسْمُ الإشارةِ "ذا" مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسمُ "إِنَّ"، واللامُ للبُعْدِ، والكافُ للخطابِ. و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَسِيرٌ"، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "يَسِيرٌ" خَبَرُ "إِنَّ" مَرْفوعٌ بِها، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا أَيْضًا لا محَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.