وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(54)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، والكَلْبِيُّ، وَغَيْرُهُما ـ رَضِيَ اللهُ عنهم. المُرْادُ بِـ "الَّذينَ أُوتُوا العِلْمَ" المُؤْمِنُونُ، الَّذينَ أُوتُوا التَّوْحِيدَ وَالقُرْآنَ. وَقِيلَ: أَهْلُ الْكِتَابِ. وَ "أَنَّهُ" أَيْ: أَنَّ الَّذِي أُحْكِمَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ هُوَ الحَقُّ.
قولُهُ: {فَيُؤْمِنُوا بِهِ} فَيُؤْمِنُوا: أَيْ فَيُصَدِّقُوا بِمَا أَحْكَمَ اللهُ ـ تَعَالَى، ومَا نَسَخَ. قَالَهُ السُّدِّيُّ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ. وَمعنى الإيمانِ عنْدَ أَهلِ العربيَّةِ: التَّصْديقُ.
قولُهُ: {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} الْإِخْبَاتُ: الِاطْمِئْنَانُ وَالْخُشُوعُ، والرِّقَّةُ وَالخَشْيَةُ وخُضُوعُ القَلْبِ لِمَوْلَاهُ، وَطُولُ الصَّمْتِ وَالتَّفَكُّرِ في آلاءَ اللهِ وآياتِهِ في مخلوقاتِهِ، وَهُوَ مِنْ نَتَائِجِ الإِيمانِ باللهِ ـ جَلَّ وعَلَا، فَصِدْقُ الإيمانِ يُورِثُ الإخْبَاتَ فِي القَلْبِ. وَقالَ الكَلْبِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ" أَي: تَرِقُّ قُلُوبُهُمْ للقُرْآنِ.
والإِخباتُ في اللغَةِ: مِنَ الخَبْتِ، وهوَ المُطْمئِنُّ المُتَّسِعُ مِنْ بُطُونِ الأَرْضِ، وجَمْعُهُ: أَخْبَاتٌ وَخُبوتٌ. وَقِيلَ: مَا اطْمَأَنَّ مِنَ الأَرْضِ وَغَمُضَ، فإِذا خَرَجْتَ مِنْهُ أَفضَيتَ إِلى اتِّساعٍ. وَقِيلَ: هُوَ الوَادِي الوَطِيءُ العَمِيقُ. وَأَخْبَتَ لرَبِّهِ خضَعَ وَخَشَعَ وتَوَاضَعَ واطْمأَنَّ إلَيْهِ، وَ "لَهُ" فإنَّ العَرَبَ تَجْعَلُ "إِلى" في مَوْضِعِ الَّلامِ. وَخَبَتَ ذِكْرُ فلانٍ: خَفِيَ. وَالخَبِيتُ: الشَّيْءُ الحَقِيرُ الرَّدِيءُ.
قولُهُ: {وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أَيْ: إِنَّ هَذَا الإِيمانَ وَالتَّصْديقَ وَالإِخْبَاتَ إِنَّمَا هُوَ بِهِدَايَةِ اللهِ ـ تَعَالَى، وَلُطْفِهِ. فَالْمُرَادُ بِالْهُدَى فِي الْآيَةِ عِنَايَةُ اللهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، بِعبادِهِ وَتَيْسِيرُهُ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللهَ هَدَى الْجَميعَ بِدَعْوَتِهِ لَهُمْ وَإِرْشَادِهمْ إِلى طَريقِ الحَقِّ، فَمِنْهُمْ مَنِ اهْتَدَى فآمَنَ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَلَّ فَكَفَرَ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ} الواوُ: حَرْفٌ للعَطْفِ، وَاللَّامُ: هِيَ لامُ "كَيْ"، حَرْفُ جَرٍّ للتَّعْليلِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، في الآيَةِ: 52، السَّابقةِ مِنْ هَذِهِ لسُّورةِ المُباركةِ: {فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ}، وَ "يَعْلَمَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصوبٌ بـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ بَعْدَ لامِ "كَيْ". وَ "الَّذينَ" اسمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتْحِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. والجُملَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ، مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ قولِهِ: "لِيَجْعَلَ" عَطْفَ الجُمْلَةِ التعْليليَّةِ عَلَى الجُمْلةِ التعليليَّةِ.
قولُهُ: {أُوتُوا الْعِلْمَ} أُوتُوا: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ، مبنيٌّ على الضَّمِّ المُقدَّرِ عَلَى الوَاوِ المُحْذوفَةِ لِتَوَالِي الأَمْثَالِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالنِّيَابَةِ عَنْ فَاعِلِهِ، والأَلِفُ فارقةٌ، و "الْعِلْمَ" مَنْصوبٌ على كونِهِ مفعولُهُ الثَّانِي، أَمَّا الأَوَّلُ فهوَ فقدْ نابَ عنِ الفاعِلِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الَّذينَ" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قَوْلُهُ: {أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أَنَّهُ: حَرْفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، للتَّوْكِيدِ، والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ، اسْمُ "إنَّ"، وَهَذَا الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى تَمْكِينِ الشَّيْطَانِ، والمعنى: لِيَعْلَمَ المُؤْمِنُونِ أَنَّ تَمْكِينَ الشَّيْطَانِ هُوَ الحَقُّ، وَإِلَى هذا المعنى ذَهَبَ أَبو القاسِمِ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيجوزُ أَيْضًا أَنْ يَعودَ هَذا الضَّميرُ عَلَى القُرْآنِ الكريمِ. وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فَهُوَ فِي قُوَّةِ المَنْطُوقِ، وَهو ما نَحَا ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَيْهِ. وَ "الحقُّ" خَبَرُها مَرْفوعٌ بِها. وَ "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِحالٍ مِنَ خَبَرِ "إِنَّ"، وَ "ربِّكَ" اسْمٌ مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مِنِ اسْمِها وَخَبَرِهَا فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ سَادٍّ مَسَدَّ مَفْعُولِ "يَعْلَمَ"؛ أَيْ: كَوْنَهُ الحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ.
قولُهُ: {فَيُؤْمِنُوا بِهِ} فَيُؤْمِنُوا: الفاءُ: عَاطِفَةٌ. وَ "يُؤْمِنُوا"، فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ بعدَ لامِ "كيْ" عَطْفًا عَلَى "لِيَعْلَمَ"، وعَلامَةُ نَصْبِهِ حَذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والألِفُ للتَّفْريقِ. و "بِهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُؤْمِنُوا"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحَرْفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "لِيَعْلَمُوا".
قولُهُ: {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} فَتُخْبِتَ: الفَاءُ: عَاطِفَةٌ. و "تُخْبِتَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَعْطُوفٌ عَلَى "يُؤْمِنُوا"، مَنْصُوبٌ مِثْلُهُ. و "لَهُ" اللَّامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُخْبِتَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "قُلُوبُهُمْ" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ علامةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ. والجملةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ في محلِّ النَّصْبِ عَلى عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "فَيُؤْمِنُوا".
قولُهُ: {وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ} الوَاوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، أَوْ اعتراضِيَّةٌ، وَ "إِنَّ" حرفٌ ناصِبُ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتَّوكيدِ، وَلَفْظُ الجَلالةِ "اللهَ" اسْمُها مَنْصُوبٌ بِهَا. وَ "لَهَادِ" اللَّامُ المُزَحْلَقةُ (حَرْفُ ابْتِدَاءٍ)، وَ "هَادٍ" خَبَرُ "إنَّ" مَرْفُوعٌ بِهَا، وَعَلَامَةُ رَفْعِهِ ضَمَّةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى الياءِ المَحْذُوفَةِ، للتَّخَلُّصِ مِنِ الْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ؛ لِأَنَهُ اسْمٌ مَنْقُوصٌ، وَقَدْ حُذِفَتْ خَطًّا تَبَعًا لِلَّفْظِ. و "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنِيٌّ على الفتْحِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ لاسْمِ الفَاعِلِ "هادٍ"، وَيَجُوزُ فِيهِ الإِضَافَةُ أَيْضًا، فنقولُ: "هادِ" مُضافٌ، وَ "الذينَ" مُضافٌ إليْهِ وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ أَوْ مُعتَرِضَةٌ وفي الحالَتَيْنِ لَا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قوَلُهُ: {آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} آمَنُوا: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لِاتِّصالِهِ بِوَاوِ الجَمَاعَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والألِفُ للتفريقِ. و "إِلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "آمَنُوا"، و "صِرَاطٍ" مجرورٌ بحَرْفِ الجَرِّ. و "مُسْتَقِيمٍ" صِفَةٌ لِـ "صِرَاطٍ" مجرورةٌ مِثْلُهُ. وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الذينَ" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قَرَأَ العَامَّةُ: {لَهَادِيْ الَّذينَ} بِالْإِضافةِ تَخْفِيفًا. وَقَرَأَ ابْنُ أَبي عَبْلَةَ وَأَبُو حَيَوَةَ "لَهَادٍ" بِتَنْوينِ الصِّفَةِ وَإِعْمَالِهَا فِي المَوْصُولِ. وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ "لَهادِ" بِدُونِ يَاءٍ بَعْدَ الدَّالِ، وَذلكَ اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الْوَصْلِ، وهذا عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ. وَيُثْبِتُ يَعْقُوبُ الْيَاءَ في الوَقْفِ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ القُرَّاءِ.