وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(52)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الرَّسُوْلُ: هو الذي يَنْزِلُ عَليْهْ جِبْريلِ عِيَانَا بالوَحيِ مِنْ ربِّه، وَيُحاوِرُهُ شِفَاهًا. أَمَّا النَّبِيُّ فَتَكونُ نُبُوَّتُهُ إِلْهَامًا أَوْ مَنَامًا، وَكُلُّ رَسُولٍ نَبْيٌّ، وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولٌ.
وَالرَّسُولُ مَنْ بُعِثَ بِشَريعَةٍ مُجَدِّدَةٍ مُنَظِّمةٍ لِشُؤُونِ المُجْتَمَعِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَعَلَاقَتَهُمْ بِرَبِّهم، لِيَدْعُو إِلَيْهَا النَّاسَ، وأَنْزِلَ عَلَيْهِ كتابٌ بِذلكَ مِنْ رَبِّهِ ـ تباركَ وتَعَالى. والنَّبِيُّ مَنْ بُعِثَ لِتَقْريرِ شَرْعٍ سَابِقٍ مِنْ شرائعِ المُرْسَلينَ، ولمْ يُنَزَّلْ عَلَيْهِ كتابٌ بشريعةٍ خاصَّةٍ بهِ مِنْ ربِّ العالمينَ، كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائيلَ الَّذينَ كانُوا بَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، فالرَّسُولُ هوَ المُبْتَدِئُ بِوَضْعِ الشَّرَائعِ وَالأَحْكَامِ، وَالنَّبِيُّ هُوَ الَّذي يَحْفَظُ شَريعَةَ اللهِ، كما قالَ الجاحِظُ.
وَالنَّبِيُّ أَعَمُّ مِنَ الرَّسُولِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ سُئِلَ عَنِ الأَنْبِيَاءِ: ((مِئَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا))، قِيلَ فَكَمِ الرُّسُلُ مِنْهُمْ؟ قَالَ: ((ثَلاثُمِئَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، جَمًّا غَفِيرًا)). فقد أَخرجَ الإمامُ أَحْمَدُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الغِفاريِّ ـ رضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَلَسْتُ، فَقَالَ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ صَلَّيْتَ؟))، قُلْتُ: لَا. قَالَ: ((قُمْ فَصَلِّ))، قَالَ فَقُمْتُ فَصَلَّيْتُ، ثُمَّ جَلَسْتُ، فَقَالَ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ، تَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ)). قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلِلْإِنْسِ شَيَاطِينُ؟ قَالَ: ((نَعَمْ)). قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: ((خَيْرٌ مَوْضُوعٌ، مَنْ شَاءَ أَقَلَّ وَمَنْ شَاءَ أَكْثَرَ)). قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا الصَّوْمُ؟ قَالَ: ((فَرْضٌ مُجْزِئٌ، وَعِنْدَ اللهِ مَزِيدٌ)). قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَالصَّدَقَةُ؟ قَالَ: ((أَضْعَافٌ مُضَاعَفَةٌ)). قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَيُّهَا أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((جَهْدٌ مُقِلٍّ، أَوْ سِرٌّ إِلَى فَقِيرٍ)). قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ أَوَّلُ؟ ((قَالَ آدَمُ)). قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، وَنَبِيٌّ كَانَ؟ قَالَ: ((نَعَمْ، نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ)). قَالَ: قُلْتُ، يَا رَسُولَ اللهِ، كَمِ الْمُرْسَلُونَ؟ قَالَ: ((ثَلَاثُ مِئَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا)) وَقَالَ مَرَّةً: ((خَمْسَةَ عَشَرَ)). قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، آدَمُ أَنَبِيٌّ كَانَ؟ قَالَ: ((نَعَمْ نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ)). قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ: ((آيَةُ الْكُرْسِيِّ)): {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. المُسْنَدُ: (5/265، رقم: 22644)، وأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ: (1/340، رقم: 3423)، وَالنَّسَائِيُّ: (8/275)، وَفِي "الكَبْرَى": (7891). ثَمَّ إِنَّ النُّبُوَّةَ خاصَّةٌ بالبَشَرِ، وأَمَّا الرِّسالةُ فتَعُمُّ المَلَائِكَةَ وَالبَشَرَ، لقولِهِ ـ تَعَالَى في الآيةِ: 75، مِنْ هذِهِ السُّورةِ المُباركةِ: {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}. وَالرَّسُولُ أَعْلَى رُتْبةً مِنَ النَّبِيِّ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: النَّبِيُّ وَحْدَهُ: الَّذِي يُكَلَّمُ وَيُنَزَّلُ عَلَيْهِ وَلَا يُرْسَلُ.
قوْلُهُ: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} تَمَنَّى الشَّيْءَ: أَحَبَّهُ وَاشْتَهَاهُ وَحَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ. ونُقِلَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، أَنَّ "تَمَنَّى" هنا مَعْنَاها "قَرَأَ". أخرجَهُ الإمامُ البُخَارِيُّ في "صَحِيحِهِ": (8/438)، تَعْلِيقًا، في رِوايَةِ عَطَاءٍ عَنْهُ أَنَّهُ قال: (إِلَّا إِذَا قَرَأَ). ورواهُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسيرِهِ (جامعُ العُلومِ والحِكَمِ): (17/190).
قوْلُهُ: {أَلْقَى الشيطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أَيْ: أَلْقى فِي تَشَهِّيهِ مَا يُوجِبُ اشْتِغَالَهُ بِالدُّنْيا، لِقَولِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ: ((وَإِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً)). وفي روايةٍ: أَكْثَرَ مِنْ سَبْعينَ مَرَّةً" وفي روايةِ مُسْلِمٍ: "مِئْةَ مَرَّةٍ".
قَالَ الكَلْبِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا حَدَّثَ نَفْسَهُ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي نَفْسِهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ، وَمُجاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: إِذَا قَرَأَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قِراءَتِهِ، فَتَمَنَّى بِمَعْنَى: قَرَأَ، وَتَلَا، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ بِنِ ثابتٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي أَميرِ المُؤمنينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ آخِرَ لَيْلِهِ ................. تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ
أَيْ عَلَى مَهلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ................... وَآخِرَهُ لَاقَى حِمَامَ المَقَادِرِ
فَمَعْنَى تَمَنَّى فِي الْبَيْتَيْنِ قَرَأَ وَتَلَا، وهوَ قَوْلُ أَبي إِسْحَاقٍ الزَّجَّاجِ والكِسائيِّ، والمُرَادُ قِرَاءَةً عَارِيَةً عَنْ مَعْرِفَةِ المَعْنَى وَتَدَبُّرِهِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ: إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حَدِيثِهِ، وَكَوْنُ تَمَنَّى بِمَعْنَى: قَرَأَ وَتَلَا، هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ تَمَنَّى فِي الْآيَةِ مِنَ التَّمَنِّي الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ تَمَنِّيهِ إِسْلَامَ أُمَّتِهِ وَطَاعَتَهُمْ للهِ وَلِرُسُلِهِ، وَمَفْعُولُ أَلْقَى مَحْذُوفٌ فَعَلَى أَنْ تَمَنَّى بِمَعْنَى: أَحَبَّ إِيمَانَ أُمَّتِهِ وَعَلَّقَ أَمَلَهُ بِذَلِكَ، فَمَفْعُولُ أَلْقَى يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْوَسَاوِسِ.
وقدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسيرِ فِيمَا قَرَأَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالَ بَعْضُهم: أَنَّه أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ فَقَرَأَهُ سَاهِيًا. وَرُوِيَ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِي اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ: إِنَّمَا قَالَ: هِيَ كَالْغَرَانِيقِ العُلَا ـ يَعْنِي المَلَائِكَةَ، وَأَنَّ شَفَاعَتَهُمْ لَتُرْتَجَى، أَيْ: فِي قَوْلِكُمْ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ: أَنَّهُ كانَ نَاعِسًا، فَأَلْقاَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ، فَقَرَأَهُ فِي نُعَاسِهِ.
وقالَ آخَرونِ: بِأَنَّ بَعْضَ المُنَافِقِينَ تَلَاهُ عَنْ إِغْوَاءٍ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَخُيِّلَ للنَّاسِ أَنَّهُ مِنْ تِلَاوَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَكَاهُ ابْنُ عِيسَى، رحِمَهُ اللهُ ـ تَعَالَى.
وفي هَذِهِ الرِّواياتِ جميعِها ضَعفٌ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ، بِهَذا عَمْدًا لِأَنَّهُ كُفْرٌ، وَقَدْ بُعِثَ قَدِحًا في الأَصْنَامِ، ناهِيًا عَنِ اعْتِقادِ أُلوهتِها وَعِبَادَتِها، دَاعِيًا النَّاسَ للكُفْرِ بِهَا، سَاعِيًا في تَحْطِيمِهَا، لَا مَادِحًا لَهَا مُشيدًا بِهَا، ولا يَصِحُّ أَنْ يَكونَ قَدْ أَجْرَى الشَّيِطَانُ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ جَبْرًا بِحَيْثُ لَا يَقْدِرِ عَلَى الامْتِنَاعِ مِنْ ذِلِكَ، لأَنَّهُ مِمْتَنِعٌ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَكيفَ وَقَدْ قَالَ اللهُ ـ تَعَالَى، في الآيَةِ: 65، مِنْ سُورَةِ الإِسْراءِ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}، وَرَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَيِّدُ عِبادِ اللهِ ـ تَعَالَى وعَزَّ، وَهَذَا ثابِتٌ في القرآنِ الكريمِ بقولِهِ ـ عَزَّ وجَلَّ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ الإِسْرَاءِ: {سُبحانَ الَّذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}، وبقولِهِ ـ عَلَيْهِ صلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ: ((أَنا سيِّدُ ولَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ)). أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ في مُسْتَدْركِهِ وصحَّحَهُ: (3/134، برقم: 4627)، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصاريِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ. وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يكونَ جَرَى ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ سَهْوًا، ولا غَفْلَةً مِنْهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ، لِأَنَّ ذلكَ كَانَ مِنْهُ فِي حَالِ تَبْلِيغِهِ وَحْيَ رَبِّهِ، وَلَوَ جَازَ لَبَطَلَ الاعْتِمَادُ عَلَى قَوْلِهِ مُطْلَقًا.
وإِذًا فَقَدْ كانَ الإلقاءُ عَلَى المَعْنَى المَفْهُومِ مِنْ قَوْلِكَ: أَلْقَيْتُ فِي حَديثِ فَلانٍ. إِذَا أَدْخَلْتَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ مِمَّا قدْ يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ، أَوْ إِذا نَسَبْتَ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ مُتَعَلِّلًا بِأَنَّ حَديثَهُ ذاكَ يُؤَدِّي إِلَيْهِ. وَذَلِكَ هوَ مِنْ عَمَلِ المُعَاجِزِينَ الَّذينَ يُنَصِّبُونَ أَنْفُسَهُمْ لِمُحَارَبَةِ الحَقَّ، فإِنَّهم يَتْبَعُونَ الشُّبْهَةَ، وَيَسْعَوْنَ وَرَاءَ الرّْيبَةِ، فالإِلْقَاءُ بِهَذَا المَعْنَى هوَ دَأْبُهُمْ، وَنِسْبَتُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ مُثِيرٌ للشُّبُهَاتِ بِوَسَاوِسِهِ، مُفْسِدٌ للقلوبِ بِدَسَائِسِهِ. وَيَكونُ المَعْنَى: وَمَا أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا حَدَّثَ قَوْمَهُ عَنْ رَبِّهِ، أَوْ تَلَا عليهِمْ وَحْيًا أُوحِيَ إِلَيْهِ فيهِ هُدًى لَّهُمْ، قَامَ فِي وَجْهِهِ مُشَاغِبُونَ، يَحَوِّلُونَ مَا يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ عَنِ المُرَادِ مِنْهُ، وَيَتَقَوَّلُونَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَيَنْشُرونَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ، لِيَصْرفوهُمْ عَنْهُ. أَيْ إِذَا قَرَأَ عَلَى النَّاسِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ لِيَهْتَدُوا بِهِ، أَلَقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، أَيْ: فِي قِرَاءَتِهِ، أَيْ: وَسْوَسَ لَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ مَا يُنَاقِضُهُ وَيُنَافِيهِ بِوَسْوَسَتِهِ لِلنَّاسِ التَّكْذِيبَ وَالْإِعْرَاضَ عَنِ التَّدَبُّرِ. فَشِبْهُ تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ بِوَسْوَسَتِهِ لِلْكَافِرِينَ عَدَمُ الامْتِثَالِ لأَمْرِ النَّبِيِّ بِإِلْقَاءِ شَيْء فِي شَيْءٍ لِخَلْطِهِ وَإِفْسَادِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ النَّبِيَّ إِذَا تَمَنَّى هُدَى قَوْمِهِ، أَوْ حَرَصَ عَلَى ذَلِك، فَلَقِيَ مِنْهُم ما لقيَ مِنَ الْعِنَادَ والتَّكْذِيبِ، وَتَمَنَّى حُصُولَ هِدَايتِهُمْ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ، أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي نَفْسِهِ خَاطِرًا مِنَ المَلَلِ منهم، الْيَأْسِ والقُنُوطِ مَنْ هُدَاهُمْ، لَعَلَّهُ أَنْ يُقْصِرَ عَنْ حِرْصِهِ عَلَى هِدايَتِهِمْ، أَوْ أَنْ يُضْجِرَهُ منهم، وَهِيَ خَوَاطِرُ قد تَتَسَرَّبُ للنَّفْسِ لإيصالِها إلى اليَأْسِ، وَلَكِنَّ الْعِصْمَةَ تَعْتَرِضُهَا فَتَنْفِيها، وَلَا يَلْبَثُ ذَلِكَ الْخَاطِرُ أَنْ يَتَلاشِى، وَيَرْسَخَ فِي نَفْسِ الرَّسُلِ مَا كُلِّفوا بِهِ مِنَ الدَّأْبِ والمُثابرةِ عَلَى الدَّعْوَةِ للحقِّ، وَالْحِرْصِ عَلَى الرُّشْدِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ قريبًا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سورةِ الْأَنْعَام: {وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ} الآيةَ: 35.
قولُهُ: {فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} أَيْ: فَيَرْفَعُهُ، وَيُبْطِلُهُ، وَيَذْهَبُ بِهِ، فَيُحِقُّ الحَقَّ وَيُبْطِلُ البَاطِلَ. وَمَا زَالَ الأَنْبِيَاءُ ـ عليْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَصْبِرُونَ عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا، وَيُجَاهِدُونَ فِي سبيلِ الحَقِّ، غيرَ مُلْتَفِتينَ إِلَى أباطيلِ المُعاجِزينَ وَالْمُسْتَهْزِئِينَ إِلَى أَنْ يُظْهِرَ اللهُ نُورَهُ، وَيُحِقَّ الحَّقَّ، وَيَنْصُرَهم عَلى الباطِلِ والمُبْطِلينَ.
قولُهُ: {ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ} ثُمَّ: لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، لِأَنَّ إِحْكَامَ الْآيَاتِ وَتَقْرِيرَهَا أَهَمُّ مِنْ نَسْخِ مَا يلقِي الشَّيْطَان إِذْ بِالْإِحْكَامِ يَتَّضِحُ الْهُدَى وَيَزْدَادُ مَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ نَسْخًا. فَالنَّسْخُ: الْإِزَالَةُ، وَالْإِحْكَامُ: التَّثْبِيتُ. وَفِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ حَذْفُ مُضَافٍ، أَيْ ينْسَخ آثَار مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ، وَيُحْكِمُ آثَارَ آيَاتِهِ. أَيْ: ثُمَّ يُثْبِتُ اللهُ آيَاتِهِ الدلَّةَ علَيْهِ، الدّاعِيَةَ إِلَيْهِ وَيُقَرِّرُهَا، وَيُثَبِّتُ القائمينَ بها العامِلِينَ عَلَيْها.
وَهَذِهِ سُنَّةُ اللهِ ـ تباركَ وَتَعالى، فِي خَلْقِهِ لِيَمِيزَ الخَبيثَ مِنَ الطَّيِّبِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبي صَالِحٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنْ ذَكَرَ آلِهَتَنَا بِخَيْرٍ ذَكَرْنَا آلِهَتَهُ بِخَيْرٍ فَـ "أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَتِهِ": {أَفَرَأَيْتُم اللَّاتَ وَالعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} الآيَةَ: 19، مِنْ سُورَةِ النَّجْمِ: إِنَّهُنَّ لَفِي الغَرَانِيقِ العُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ ـ تَعَالَى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أمْنِيتِهِ"، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: إِنَّ أُمْنِيَتَهُ أَنْ يُسْلِمَ قَوْمُهُ.
وَيكونُ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالمَرْسَلينَ ـ عليهِمُ الصَلاةُ والسَّلامُ، يَرْجُونَ اهْتِدَاءَ قَوْمِهِمْ، ويحاولونَ ذلكَ مَا اسْتَطَاعُوا، فَيُبَلِّغُونَهُمْ مَا يَنْزِلُ إِلَيْهِمْ مِنْ ربَّهِم، وَيَعِظُونَهُمْ، وَيُحَذِّرونَهمْ مِنْ عاقبةِ ما همْ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ والشِّرْكِ والمعصِيَةِ، وَكُلُّ ذلكَ بِالْمُجَادَلَةِ الْحَسَنَةِ والْحُجَّةِ والبُرهانِ، حَتَّى يَظُنُّوا أَنَّهم قدْ نَجَحوا في مَساعيهم، وأنَّهُ قدْ تحقَّقتْ أَمانِيهِمْ وَأَنَّ القومَ قدِ اقْتَرَبُوا مِنَ الْإِيمَانِ، فَيَأْتِي الشَّيْطَانُ فَلَا يَزَالُ يُوَسْوِسُ فِي نُفُوسِ الْكُفَّارِ فَيَنْكِصُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَتِلْكَ الْوَسَاوِسُ ضُرُوبٌ شَتَّى مِنْ تَذْكِيرِهِمْ بِحُبِّ آلِهَتِهِمْ، وَمِنْ تَخْوِيفِهِمْ بِسُوءِ عَاقِبَةِ نَبْذِ دِينِهِمْ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ الضَّلَالَاتِ الَّتِي حُكِيَتْ عَنْهُمْ فِي تَفَاصِيلِ الْقُرْآنِ، كما قالَ اللهُ تعالى مِنْ سورةِ الفُرقانِ حِكَايةً عَنْهُمْ: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا * إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} الآيتانِ: (41 و 42). فَيَتَمَسَّكُ أَهْلُ الضَّلَالَةِ بِدِينِهِمْ وَيَصُدُّونَ عَنْ دَعْوَةِ رُسُلِهِمْ، وَذَلِكَ هُوَ الصَّبْرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: {لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها}. وَكما قَالَ فيهم مِنْ سُورةِ (ص): {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ} الآيةَ: 6. وَكُلَّمَا أَفْسَدَ الشَّيْطَانُ دَعْوَةَ الرُّسُلِ أَمَرَ اللهُ رُسُلَهُ فَعَاوَدُوا الْإِرْشَادَ وَكَرَّرُوهُ وثابروا عَلَى ذلكَ وَثَبَتُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ سَبَبُ تَكَرُّرِ مَوَاعِظَ مُتَمَاثِلَةٍ فِي الْقُرْآنِ، فَبِتِلْكَ الْمُعَاوَدَةِ والمواظَبةِ والثَّباتِ يَنْسَخُ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ وَيُثْبِتُ آيَاتِهِ، والحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ أنْ هَدانا إلى هذا الدينِ القويم، والصِّراطِ المُسْتقيم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} الوَاوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "ما" نافيَةٌ. و "أَرْسَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نَا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التَّعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "مِنْ" حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "أَرْسَلْنا". وَ "قَبْلِكَ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، وَكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَ "مِنْ" حرفُ جَرٍّ زائدٌ، وَ "رَسُولٍ" مَجْرورٌ لَفْظًا بِحَرْفِ الجَرِّ الزّائدِ، مَنْصُوبٌ عَلَى المَفْعوليَّةِ بِهِ لِـ "أَرْسَلْنَا" مَحَلًّا. وَ "وَلَا نَبيٍّ" الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ، وَ مَعْطُوفٌ عَلَى "رَسُولٍ" ولهُ مثلُ إِعْرَابِهِ. وَالْجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} إِلَّا: أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مِنْ عُمومِ الأَوْقاتِ. و "إِذَا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، مُتضَمِّنٌ معنى الشَّرطِ، خافضٌ لِشَرْطِهِ مُتَعَلِّقٌ بِجَوَابِهِ. وقدْ ذَهَبَ الحُوفِيُّ إِلَى جَوَازِ أَنْ تَكونَ "إِذَا" هَذِهِ شَرْطِيَّةً، كما هُوَ الظَّاهِرُ، وَأَنْ تَكونَ لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبو حَيَّانَ: وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يَلِيهَا ـ يَعْنِي "إِلَّا"، فِي النَّفْيِ المُضَارِعُ بِلَا شَرْطٍ، نَحْوَ: مَا زَيْدٌ إِلَّا يَفْعَلُ، وَمَا رَأَيْتُ زَيْدًا إٍلَّا يَفْعَلُ، وَالْمَاضِي بِشَرْطِ تَقَدُّمِ فِعْلٍ نَحْو قولِهِ ـ تعالى، مِنْ سورةِ يس: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بهِ يستهِزِئونَ} الآيةَ: 30. أَوْ مُصَاحَبَةِ "قَدْ" نَحْوَ: مَا زَيْدٌ إِلَّا قَدْ فَعَلَ. وَمَا جاءَ بَعْدَ "إِلَّا" فِي الآيَةِ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ، وَلَمْ يَلِهَا فِعْلٌ مَاضٍ مَصْحُوبٌ بِـ "قَدْ" وَلَا عارٍ مِنْهَا. فَإِنْ صَحَّ ما نَصُّوا عَلَيْه يُؤَوَّل عَلى أَنَّ "إِذَا" جُرِّدَتْ للظَّرْفِيَّةِ وَلَا شَرْطَ فِيها، وَفُصِلَ بِهَا بَيْنَ "إِلَّا" وَالْفِعْلِ الَّذي هُوَ "أَلْقَى"، وَهو فصلٌ جائز، فَتَكونُ "إِلَّا" قَدْ وَلِيَهَا مَاضٍ في التَّقْديرِ، وَوُجِدَ شَرْطُه: وَهوَ تَقَدُّمُ فِعْلٍ قَبْلَ "إِلَّا" وَهُوَ "وما أَرْسَلْنا".
قَالَ السَّمينُ الحلَبيُّ: وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا التَكَلُّفِ المُخْرِجِ لِلْآيةِ عَنْ ِمَعْنَاهَا. بَلْ هُوَ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ: إِمَّا حَالٌ، أَوْ صِفَةٌ، أَوْ اسْتِثْناءٌ، كَقَوْلِهِ ـ تَعَالى: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ} الآيَةَ: 23، منْ سورةِ الغاشِيَةِ، وَكَيْفَ يُدَّعَى الفَصْلُ بِهَا وَبِالفِعْلِ بَعَدَها بين» إلاَّ «وبين» ألقى «مِنْ غير ضرورةٍ تدعو إليه ومع عدم صحةِ المعنى؟ و "تَمَنَّى" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ المُقَدَّرِ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهِ عَلَى الأَلِفِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى "رَسُولٍ" أَوْ "نَبِيٍّ"، وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِإِضَافَةِ "إِذَا" إِلَيْهَا، عَلَى كَوْنِهَا فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا. وَيجوزُ فِي هَذِهِ الجُمْلَةِ الَّتي بَعْدَ "إِلَّا" أَنْ تكونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ مِنْ "رَسُولٍ" وَالْمَعْنَى: وَمَا أَرْسَلْنَاهُ إِلَّا حَالُهُ هَذِهِ، والحالُ مَحْصورة. وَيَجوزُ أَنْ تكونَ في مَحَلِّ الجَرِّ صِفَةً لـ "رَسُولٍ"، فَيَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَى مَوْضِعِهَا بِالْجَرِّ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الْمَوْصُوفِ، وَبِالنَّصْبِ بِاعِتِبارِ مَحَلِّهُ ـ كما تقدَّمَ؛ فَإِنَّ "مِنْ" مَزيدَةٌ فِيهِ. وَقالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُرِيُّ: يَجوزُ أَيْضًا أَنْ تكونَ فِي مَوْضِعِ اسْتِثْنَاءٍ مِنْ غَيْرِ الجِنْسِ. يَعْنِي أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ. وَجُمْلَةُ "إِذَا" هَذِهِ مِنْ فِعْلِ شَرْطِهَا وَجَوَابِها فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَعَمِّ الأَوْقَاتِ، وَالتَّقْديرُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ، وَلَا نَبِيٍّ في وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ، إِلَّا وَقْتَ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ فِي أُمْنِيَّتِهِ وَقْتَ تَمَنِّيهِ وَقِرَاءَتِهِ.
قولُهُ: {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أَلْقَى: فعلٌ ماضٍ مبنِيٌّ على الفتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورِهِ على الألِفِ، و "الشَّيطانُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ. و "في" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَلْقَى"، وَ "أُمْنِيَتِهِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وهَذَا الضَّمِيرُ هُوَ ضَمِيرُ الشِّيْطَانِ ـ وَهُوَ الَّذي يَنْبَغِي أَنْ يَكونَ. أَوْ ضَميرُ الرَّسُولِ، وقدْ تقدَّمَ للمُفسِّرينَ رِواياتٌ اللهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا. وَإِنَّمَا أُفْرِد هَذا الضميرُ ـ وَإِنْ تَقَدَّمَهُ شيْئَانِ مَعْطُوفٌ أَحَدُهَمُا عَلَى الآخَرِ بالواوِ؛ لِأَنَّ فِي الكَلَّام حَذْفًا وَالتَقْديرُ: وَمَا أَرْسَلْنا مِنْ قبلِك مِنْ رسولٍ إِلَّا إِذا تَمَنَّى، وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى كَقَولِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سورةِ التَّوبةِ: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} الآية: 62. والحذفُ: إِمَّا مِنَ الأَوَّلِ أَوْ مِنَ الثَّانِي. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ جَوَابُ "إِذَا" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {فَيَنْسَخُ اللهُ مَا} فَيَنْسَخُ: الفاءُ: عَاطِفَةٌ، و "يَنْسَخُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فَاعِلُهُ مَرفوعٌ بِهِ. و "ما" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُوليَّةِ، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصوفةٌ، والجملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جملةِ "أَلْقَى" عَلى كونِها جَوابُ "إذا" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {يُلْقِي الشَّيْطَانُ} يُلْقي: فِعْلٌ مُضارِعٌ مرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِثِقَلِها على الياءِ. وَ "الشَّيْطانُ" فِاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. والجملةُ الفعلِيَّةُ هذِهِ صِلَةُ "ما" الموصولةِ فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في محلِّ النَّصْبِ، إِنْ كانتْ نَكِرةً مَوصوفةً، وَالعائدُ، أَوِ الرَّابِطُ مَحْذُوفٌ، والتقديرُ: مَا يُلْقِيهِ "الشَّيْطَانُ".
قولُهُ: {ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ} ثُمَّ": حَرْفُ عَطْفٍ وَتَرَاخٍ. و "يُحْكِمُ" فعلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ. ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعِلُهُ مَرفوعٌ بِهِ. و "آيَاتِهِ" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ وعلامةُ نَصْبِهِ الكسرةُ عِوضًا عَنِ الفَتحَةِ لأنَّهُ جَمعُ المُؤنَّ السَّالِمُ، والجملةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جملةِ "يَنْسَخُ" عَلى كونِها معطوفةً على جَوابِ "إِذا" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} الوَاوُ: اعتراضيَّةٌ. ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ. و "عَلِيمٌ" خَبَرُهُ الأَوَّلُ مرفوعٌ. و "حَكِيمٌ" خَبَرُهُ الثَّاني مَرفوعٌ، وَهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ لاعْتِراضِهَا بَيْن َالجارِّ وَمُتَعَلَّقِهِ.
قرأَ العامَّةُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلَا نَبِيٍّ} وَكانَ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، يَقَرَأُ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَا مُحَدَّثٍ) وَذَلِكَ فيما أَخْرَجَهُ عَنْهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْن الْأَنْبَارِي فِي "الْمَصَاحِف" عَنْ عَمْرِو ابْنِ دِينَارٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمْ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: إِنَّ فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلَا نَبِيٍّ" وَلَا مُحَدَّثٍ. فَنُسِخَتْ "مُحَدَّث"، وَالمُحَدَّثُونَ: صَاحِبُ "يَس و لُقْمًان" وَهُوَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَصَاحِبُ مُوسَى.