إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ
(38)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} يُطَمْئِنَ اللهُ عِبادَهُ المُؤمِنينَ بِأَنَّهُ كَمَا أَعَدَّ لَهُمْ النَّعِيمَ في الدَّارِ الْآخِرَةِ، فإنَّهُ مُدَافِعٌ عَنْهُمْ فِي هذِهِ الدَّارِ الدُّنْيَا أَيْضًا، وَهوَ نَاصِرُهُمْ عَلى أَعْدَائِهِمْ، وإنَّما عليهمُ التمسُّكَ بدينِهم، والصَّبرَ عَلَى أَعداءِ اللهِ ورسولِهِ حَتَّى يأْذَنَ اللهُ لهم بقتالِهِمْ، واللهُ يحمهِمْ ويدْفعُ عنهمْ كيدَ عَدوِّهم.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ عزَّ وجلَّ: "إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذينَ آمَنُوا" قَالَ: وَاللهِ مَا يُضَيِّعُ اللهُ رَجُلًا قَطُّ حَفِظَ لَهُ دِينَهُ.
قَوْلُهُ: {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} يَنفي اللهُ تَعَالَى أَنْ يُقَرِّبَ مِنْهُ خائنًا كافرًا بربِّهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، وَ "خَوَّان" للمالغةِ في الخيانَةِ مِنْ قولِكَ: خَانَ يخونُ فهوَ خائنٌ، فإذا تكَررتِ الخيانةُ مِنْهُ أَصْبَحَ خَوَّانًا، والخيانةُ الغَدْرُ ونقضُ العَهَدِ.
وَالمُرَادُ بالحُبِّ هُنَا الرِّضَا عَنِ العَبْدِ وتَقْريبُهُ مِنْ مَوْلَاهُ. فقَد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ ابْنِ عُيَيْنَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، فِي قَوْلهِ ـ جلَّ وَعَلا: "إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ" قَالَ: لَا يُقَرَّبُ. بَلْ إنَّ اللهَ ـ تَبَارَكَ وتَعَالَى، فاضِحُهُ عَلَى رُؤوسِ الأَشهادِ ومعَذِّبُهُ أَشَدَّ العَذَابِ. فقد أَخْرجَ الإمامُ أحمدُ عنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ: ((يُنْصَبُ لِلْغَادِرِ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَان)). المُسْندُ: (10/481)، وإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ: (12/460)، وابْنُ عَدِيٍّ: (7/2520). طريقِ سفيانٍ الثوريِّ. وأَخْرَجَهُ أَيْضًا الأَئمَّةُ: مَالِكٌ كَمَا فِي "التَّجْريدِ": (ص: 268)، والبُخاريُّ في صحيحِهِ: (6178)، وَمُسْلِم في صحيحِهِ: (10/1735)، وأَبُو داوُدَ في سُنَنِهِ: (2756)، وَالنَّسَائي فِي "السُّنَنِ الكُبْرَى": (8736)، وَأَبُو عُوَانَةَ في مُسْتَخرَجِهِ: (4/70 و71 و72 و73)، وَابْنُ حِبَّانَ في صَحيحِهِ: (7342) ، والبيهَقِيُّ في سُنَنِهِ: (9/230 ـ 231)، والبَغَوِيُّ في شَرْحِ السُّنَّةِ: (2480) مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، بِهِ. وذَكَرهُ الإمامُ القرطُبيُّ في تفسيرِهِ ولفظُهُ عنْدَهُ: (يُنْصَبُ لِلْغَادِرِ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدَرْتِهِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ). تفسيرُ "الجامِعُ لأَحْكامِ القُرْآنِ: (12/67).
والكفورُ صيغةٌ للمُبَالَغَةٍ مِنْ "كَفَرَ، يَكفُرُ فهو كافِرٌ فإِذا بالغَ في كُفرِهِ صارَ كَفورًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ "كَفُور" يَعْنِي بِهِ الْكُفَّارَ.
رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الآيةَ الكريمةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا كَثُرُوا بِمَكَّةَ وَآذَاهُمُ الْكُفَّارُ وَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، أَرَادَ بَعْضُ مُؤْمِنِي مَكَّةَ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ أَمْكَنَهُ مِنَ الْكُفَّارِ، وَيَغْتَالَ، وَيَغْدِرَ، وَيَحْتَالَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى قَوْلِهِ:" كَفُورٍ". فَوَعَدَهمُ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ، فِيهَا بِالْمُدَافَعَةِ وَنَهَى أَفْصَحَ نَهْيٍ عَنْ الْغَدْرِ والْخِيَانَةِ.
قولُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، للتوكيدِ، وَلَفْظُ الجَلَالَةِ "اللهَ" اسْمُهُ، وخَبَرُهُ الجملةُ بَعدَهُ، وهَذِهِ الجُمْلةُ مِنْ "إنَّ" واسْمِها وخَبَرِها مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَأْكِيدِ البُشْرَى فَليسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ} يُدَافِعُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وَفَاعِلُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالى. وَالمَفْعُولُ بِهِ مَحْذوفٌ، والتَّقْديرُ: بأْسَ المُشْرِكِينَ وَعَواديهم، وَغَوَائِلَهم، ومكائدَهُمْ. وَ "عَنِ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُدَافِعُ"، وَ "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوصولٌ مبنِيٌّ على الفتْحِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ".
قوْلُهُ: {آمَنُوا} فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بِوَاوِ الجَمَاعَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضمرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والألِفُ للتَّفريق، والجملةُ صِلَةُ الاسْم المَوْصُولِ "الذين" فَلا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ} هَذِهِ الجملةُ مَعْطوفةٌ عَلَى مَثيلتِها ولها مثلُ إعرابها.
قولُهُ: {لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} لَا: نافيَةٌ. و "يُحِبُّ" فعل مضارع فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وَفَاعِلُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالى. و "كُلَّ" مفعولُهُ منصوبٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ. و "خَوَّانٍ" مَجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "كَفُورٍ" صِفَةٌ لـ "خَوَّانٍ" مجرورٌ مِثْلُهُ. والجُمْلَةُ فِي مَحَلَّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ".
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {يُدافِعُ} بِأَلْفٍ بَعْدَ الدَّالِ فَيُفِيدُ قُوَّةَ الدَّفْعِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَيَعْقُوبُ "يَدْفَعُ" بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الدَّالِ عَلَى أَنَّ صيغةَ "فاعَلَ" بِمَعْنَى "فَعَلَ" المُجَرَّدِ نَحْوَ: جَاوَزْتُه وَجُزْتُه، وَسَافَرْتُ، وطارَقْتُ. أَوْ على أَنَّهُ أُخْرِجَ عَلى زِنَةِ المُفَاعَلَةِ مُبَالَغَةً فِيهِ؛ لِأَنَّ الفِعْلَ بصيغةِ "المُفَاعَلَةِ" أَبْلَغُ. وَقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَحَسُنَ "دِفَاع" لِأَنَّهُ قَدْ عَنَّ للمُؤْمِنِينَ مَنْ يَدْفَعُهُمْ وَيُؤذيهمْ فَتَجِيءُ مُقَاوَمَتُهُ وَدَفْعُهُ عَنْهُمْ مُدافَعَةً. يَعْني: فيُلْحَظُ فِيهَا المُفَاعَلَةُ.