وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ
(24)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} هُدُوا: أَيْ: أُرْشِدوا في الدُنْيَا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ، وهوَ مَا صَدَرَ عَنْ قَلْبٍ مُخْلِصٍ، وسِرٍّ صَافٍ خالِصًا لوجْهِ اللهِ مِمَّا قرَّرهُ عِلْمُ التَّوْحيدِ، فَهُوَ الَّذي لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ، وهوَ يَرضا بِهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى.
وَ "الطَّيِّبِ مِنَ القولِ" هُوَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، هُوَ قَوْلُهُمْ: {الحَمْدُ للهِ الَّذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حيثُ نَشاءُ} الآيَةَ: 74، مِنْ سُورَةِ الزُّمَرِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهَ قالَ: هُوَ قَوْلُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَالحَمْدُ للهِ. وَزادَ ابْنُ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: وَاللهُ أَكْبَرُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "وَهُدُوا إِلَى الطَّيَّبِ مِنَ القَوْلِ" قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَولَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الَّذِي قَالَ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} الآيةَ: 10، مِنْ سُورَةِ: فاطِر.
وَقيلَ: "الطَّيِّبِ مِنَ القولِ" هُوَ مَا يَعُمُّهُ وَسَائِرَ مَا يَقَعُ فِي مُحَاوَرَةِ أَهْلِ الجَنَّةِ بَعْضَهم لِبَعْضٍ.
وَقالَ السُّدِّيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هوَ القُرْآنُ الكريمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِنِ أَبي خَالِدٍ: "وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ" قَالَ: الْقُرْآن. وهوَ قولُ قُطْرُبٍ أَيضًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: "وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ" قَالَ: الْإِخْلَاص.
وهُوَ عندَ المَاوَرْدِيُّ: الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ. قال: وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي: أَنَّهُ مَا شَكَرَهُ عَلَيْهِ المَخْلُوقونَ، وَأَثَابَ عَلَيْهِ الخَالِقُ. انْظُرْ تَفْسيرَهُ "النُكَتُ وَالْعُيُونُ": (3/110).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّياحِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ القولِ"، قَالَ: فِي الْخُصُومَة إِذْ قَالُوا: اللهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ.
وقالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إنَّهُ الإِيمانُ. وقالَ الكَلْبِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّهُ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ. وَقِيلَ: هوَ مَا يَعُمُّ سَائِرَ الأَذْكَارِ، واللهُ أعلمُ.
وَقيل: الطَّيِّبُ مِنَ القَوْلِ هوَ مَا يَكونُ وَعَظًا للْمُقصِّرينَ، ونُصْحًا للمُذْنِبينَ، وَإِرْشادً للسَّالكينَ إِلَى حضْرةِ ربِّ العالَمينَ، وَدُعاءً لِلْمُسْلِمينَ.
وَقيلَ: هوَ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ مَنْ يُخَافُ ويُرْجَى.
وَقيلَ هُوَ اسْتِغْفَارُ العَبْدِ دونَ أنْ يكونَ قدِ ارْتَكَبَ شيئًا مِنَ الذُّنُوبِ. وقِيلَ الإقرارُ بِقَوْلِهِ تعَالى مِنْ سورةِ الأَعرافِ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} الآيةَ: 23. وَقيلَ هُوَ أَنْ تَدْعُوَ للمُسْلِمِينَ بِمَا لَا يَكونُ لَكَ فِيهِ نَصِيبٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُرْشَدُونَ إِلَى أَمَاكِنَ يَسْمَعُونَ فِيهَا أَقْوَالًا طَيِّبَةً. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى منْ سورةِ الرَّعدِ: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} الآيةَ: 24. وَهَذَا أَشَدُّ مُنَاسبَة بِمُقَابلَة مِمَّا يَسْمَعُهُ أَهْلُ النَّارِ مِنْ قَوْلِهِ ـ تَعَالى، في الآيةِ: 22، السَّابقةِ: {وَذُوقُوا عذابَ الحريق}: 22. فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أبي حَاتِم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ" قَالَ: أُلْهِمُوا.
قَوْلُهُ: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} الصِّراطُ: هوَ الطَريقُ المُفْضِي إِلَى رُضْوَانِهِ ـ تَعَالَى. وَقِيلَ المُرادُ: الجَنَّةُ فَإِنَّها طَريقٌ لِلْفَوْزِ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في الآيةِ السَّابقةِ مِنْ التَّحْلِيَةِ بالأَساوِرِ، وثِيَابِ الحَريرِ، وَغَيْرِ ذلكَ، وإضِافَتُهُ إِلَيْهِ ـ تَبَاركَ وتَعَالَى، إِضَافَةُ تَشْريفٍ.
وَ "الحَمِيد" صيغةُ مُبالغةٍ مِنَ المَحْمُودُ، أَيْ: المَحْمُودُ بِكَثْرَةٍ، وَإِضَافَةُ "صِرَاطِ" إِلَيْهِ للبَيَانِ. وَالْحَمِيدُ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ ـ تَعَالَى، أَيِ الْمَحْمُودُ كَثِيرًا فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَإِضَافَةُ صِراطِ إِلَى اسْمِ "اللهِ" لِتَعْرِيفِ، أَيَّ صِرَاطٍ هُوَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَمِيدِ صِفَةً لِـ "صِرَاطِ"، أَيِ الْمَحْمُودُ لِسَالِكِهِ. فَإِضَافَةُ صِرَاطٍ إِلَيْهِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، وَالصِّرَاطُ الْمَحْمُودُ هُوَ صِرَاطُ دِينِ اللهِ، أَي: دينِ الإِسْلام.
وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الكَريمةِ إِيمَاءٌ إِلَى سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ تِلْكَ النِّعَمِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرها، وَالْهِدَايَةُ إِنَّما تكونُ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَى دِينِ اللهِ العزيزِ الحكيمِ، فالحمدُ للهِ الذي هَدَانَا إِلَيْهِ، وما كنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَانا اللهُ.
فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِنِ أَبي خَالِدٍ: "وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الحَمِيدِ" قَالَ: الْإِسْلَام. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: "وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الحَمِيدِ" قَالَ: الْإِسْلَام. فَإِنَّهُ صِرَاطٌ مَحْمُودٌ مَنْ يَسْلُكُهُ، أَوْ عَاقِبَتُهُ، أَوْ هُوَ نَفْسُهُ مَحْمُودٌ.
وَقِيلَ: هُوَ الجَنَّةُ وَإِطْلاقُ الصِّرَاطِ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا طَريقٌ لِلْفَوْزِ بِمَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
وَقِيلَ: "صِراطِ الحَمْيدُ" هُوَ الجَنَّةُ وَالإِضَافَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَالمُرَادُ بِصِرَاطِهَا: الإِسْلَامُ، أَوْ الطَّريقُ المَحْسُوسُ المُوصِلُ إِلَيْهَا يَوْمَ القِيَامَةِ. والحَمِيدُ هُوَ اللهُ ـ جَلَّ وعَزَّ، فهوَ المُسْتَحِقَّ غايَةَ الحَمْدِ لِذَاتِهِ.
وَالحَاصَلُ أَنَّ الهِدَايَةَ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكونَ فِي الآخِرَةِ، وَتَحْتَمِلُ أَنَّ تَكونَ فِي الدُّنْيَا. وَالمُرادُ بالحَمِيدِ إِمَّا الحَقُّ ـ تَعَالَى، وَإِمَّا الجَنَّةُ، وَإِمَّا الصِّرَاطُ نَفْسُهُ، وَالصِّراطُ إِمَّا أنْ يكونَ الإسْلامَ، وَإِمَّا أَنْ يكونَ الجَنَّةَ، وَإِمَّا أَنْ يكونَ الطَّريقَ المَحْسُوسَ المُوصِلَ إِلَيْهاَ يَوْمَ القِيامَةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَالإِضَافَةُ في قولِهِ: "صِرَاطِ الْحَمِيدِ" كَالإِضَافَةِ عِنْدَ قَوْلِكَ: هَذَا مَسْجِدُ الجَامِعِ، أَيْ: المَسْجِدُ الجَامِعُ. وَالصِّرَاطُ الحَمِيدُ: هُوَ الطَّريقُ المَرْضِي عِنْدَ اللهِ ـ تَعَالى، الذي جاءَتْ بِهِ الشَّريعَةُ الإِسْلَامِيَّةُ وَالمِلَّةُ الحَنيفِيَّةُ، طَريقَ اتِّبَاعٍ لِرسولِ اللهِ نَبِيِّنَا وسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، اتِّباعًا لا ابْتِدَاعَ فيهِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} الواوُ: عاطفةٌ. وَ "هُدُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبنِيٌّ للمجهولِ، مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وواوُ الجَماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالنِّيابَةِ عَنْ فَاعِلِهِ. وَ "إِلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "". وَ "الطَّيِّبِ" مَجْرُورٌ بحَرْفِ الجَرِّ. وَ "مِنَ" حَرْفُ جَرٍّ للتَّبْعِيضِ أَوْ للبَيَانِ، مُتَعَلِّقٌ بِحالٍ مِنَ "الطيِّب"، أَوْ مِن الضَّميرِ المُسْتَكِنِّ فِيهِ، و "القَوْلِ" مجرورٌ بحَرْفٍ الجَرِّ. والجُمْلَةُ الفعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "يُحَلَّوْنَ" عَلَى كَوْنِهَا فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ مِنَ الِاسْمِ المَوْصُولِ "الَّذِينَ".
قَوْلُهُ: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} وَهُدُوا: إِعْرَابُها كالَّتيِ قَبْلَها معطوفةٌ عَلَيْها. و "إِلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّ بِـ "هُدُوا". و "صِرَاطِ" مَجْرُورٌ بحَرْفِ الجَرِّ، وهُوَ مُضافٌ. و "الْحَمِيدِ" مَجْرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ.