وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ
(7)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ} مِنَ الآيَةِ الَّتي قَبْلَها مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، وَلَيْسَ مِنْ حيثُ الْمَعْنَى، إِذْ لَا يُقَالُ فَعَلَ اللهُ مَا ذَكَرَ، بِأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ، أَيْ: وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ فِي الوَقْتِ المُحَدَّدِ لَهَا، لاَ شَكَّ فِي ذَلِكَ وَلاَ رَيْبَ. وَحِينَ يَحِيْنُ مَوْعِدُ قِيامِ السَّاعَةِ، فَإِنَّ اللهَ ـ تَعَالَى شأْنَهُ، يَبْعَثُ المَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ، وَيُعِيدُ خَلْقَهُم مِنْ جَديدٍ بَعْدَ أَنْ ماتوا وصَارُوا رُفَاتًا وَرَميمًا.
وَإِذَا كَانَ الأمْرُ كَذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ سَاعَةَ فَنَاءِ هَذَا الْعَالَمِ وَاقِعَةٌ قِيَاسًا عَلَى انْعِدَامِ الْمَخْلُوقَاتِ بَعْدَ تَكْوِينِهَا، وَعُلِمَ أَنَّ اللهَ يُعِيدُهَا إلى الحياةِ ثانيةً، وذلكَ قِيَاسًا عَلَى إِيجَادِ النَّسْلِ وَانْعِدَامِ أَصْلِهِ الْحَاصِلِ لِلْمُشْرِكِينَ فِي وُقُوعِ السَّاعَةِ.
وقد سُبِقَ هذا الإخْبَارُ بـ "أَنَّ" لِإِثْبَاتِهِ وَالتَأْكيدِ عَلَى وقوعِهِ.
وَ "السَّاعَةَ" هِيَ القِيَامَةُ، إِذْ يقومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَيُبْعَثونَ مِنْ بعدِ مَوْتِهم وفناءِ أَجْسادِهِمْ. وَإِذْ تَبَيَّنَ إِمْكَانُ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَرَاهِينَ، بإثباتِ قُدْرتِهِ ـ تَعَالَى، عَلَى إحْيَاءِ المَوْتَى بَعْدَ فَنَائِهِمْ، بِدَلِيلِ قُدْرَتِهِ عَلَى إِحْيَاءِ الأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَقَدْ حَقَّ التَّصْدِيقُ بِوُقُوعِهِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّصْدِيقِ بِهِ حَائِلٌ إِلَّا ظَنُّهُمُ اسْتِحَالَتَهُ، فَالَّذِي قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ عَنْ عَدَمٍ سَابِقٍ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِ بَعْدَ اضْمِحْلَالِهِ الطَّارِئِ عَلَى وُجُودِهِ الْأَحْرَى، بِطَرِيقِ الأَوْلَى.
والمُرادُ بقولِهِ هنا: "السَّاعة" يومُ القيامَةِ. وَ "السَّاعَة" الوَقْتُ الحَاضِرُ واللحظةُ الرَّاهِنةُ. تَقُولُ: لَمْ يَأْتِني فُلانٌ حَتَى السَّاعَةَ، أَيْ: لَمْ يأْتِني حَتَّى الآنَ. وَ "السَّاعة" هي الجُزْءُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعَشٍرينَ جُزْءًا مِنَ اليَوْمِ، أَيْ: اللَّيْلِ وَالنَّهَارَ، وَتُصَغَّرُ عَلى سُوَيْعة، وتُجْمَعُ عَلى "سَاعَاتٍ" وَ "سَاعٍ" أَيْضًا. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ عُمَيْرُ بْنُ شُيَيْمِ بْنِ عَمْرِو بِنِ عَبَّادٍ، الجُشَمِيُّ، التَّغْلِبِيُّ المًلَقَّبُ بِالقُطامِيِّ:
وكُنَّا كالحَريقِ لَدَى كِفَاحٍ .................... فيَخْبُو سَاعَةً وَيَهُبُّ سَاعَا
والسَّاعُ والسَّاعَةُ: المَشَقَّةُ، والشِدَّةُ، وَسَاعَةٌ سَوْعاءُ، أَيْ: شَديدَةٌ. كَمَا يُقَالُ: لَيْلَةٌ لَيْلاءُ. وَالسَّاعَةُ أَيْضًا البُعْدُ، ومِنْهُ مَا قَالتْهُ إِعْرَابِيَّةٍ وَقَدْ سُئِلَتْ أَيْنَ مَنْزِلُكَ؟ فَأَجابَتْ:
أَمَّا عَلى كَسْلانَ وَانٍ فَسَاعَةٌ ............... وَأَمَّا عَلَى ذِي حَاجَةٍ فَيَسِيرُ
وَسَاعَ الشَّيْءُ سَوْعَا: ضَاعَ، وَسائعٌ: ضائعٌ. وَأَسَاعَهُ هُوَ: أَضَاعَهُ، وَرَجُلٌ مُسِيعٌ: مُضِيعٌ. وسُوَاعٌ: اسْمُ صَنَمٍ كَانَ لِهَمَدانٍ. ويَسُوعُ: سيِّدُنا عيسَ بْنُ مريمِ ـ عليْهِ السَّلامُ، وَكَانَ العرَبُ يُسَمُّونَ بِهِ أبناءهُمْ في الْجَاهِلِيَّة. وَالسِّينُ وَالْوَاوُ وَالْعَيْنُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِمْرَارِ الشَّيْءِ وَمُضِيِّهِ. وَجَاءَني بَعْدَ سَوْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَبَعْدَ سُوَاعٍ، أَيْ: بَعْدَ هَدْءٍ مِنَ الليلِ. وَسُوَاع: اسْمُ صَنَمٍ كَانَ لِقَوْمِ نُوحٍ ـ عليْهِ السَّلامُ.
قَوْلُهُ: {لَا رَيْبَ فِيهَا} أَيْ: لَا شَكَّ في مَجيئِها في موعِدِها الذي حدَّدَهُ لها اللهُ ـ تَعَالَى، عَنْدَ كلِّ مَنْ هَدَاهُ اللهُ مِنَ المُؤْمِنينَ، وَعْنْدَ كُلِّ مَنْ كَانَ ذا عَقَلٍ وَذِهْنٍ وفِكْرٍ مِنَ المُتَفَكِّرينَ.
وَ "لَا" النَّافِيَةَ لِلْجِنْسِ فِي مَقَامِ تَأْكِيدِ النَّفْيِ، هِيَ بِمَنْزِلَةِ "إِنَّ" فِي مَقَامِ تأَكيدِ الْإِثْبَاتِ، وَلِذَلِكَ فقد عَمِلَتْ كَعَمَلِهَا، فنَصَبتِ المُبتَدأَ فَصارَ اسْمًا لَهَا ورَفَعَتِ الخَبَرَ فَصَارَ خبرًا لَهَا. وَلِذلكَ فهيَ مُؤكِّدَةٌ عَلَى حُصُولِ السَّاعةِ في مَوْعِدِهَا دَونَما شَكٍّ وَلا رَيْبٍ.
قوْلُهُ: {وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} بعدَ التأكيدِ على حصولِ السَّاعةِ وَوقوعِ القيامةِ، أَعَادَ اللهُ ـ تَعَالَى، "أَنَّ" لمزيدِ التَأْكِيدِ للمَرَّةِ الثَّانِيَةً عَلَى أَنَّ بَعْثَ النَّاسِ للْحياةِ الثانيةِ، وَقيامَهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ حَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ.
قوْلُهُ تَعَالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} الواوُ: عاطفةٌ، أَوِ اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "أَنَّ" حرفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، و "السَّاعَةَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. و "آتِيَةٌ" خبرُهُ مرفوعٌ بِهِ وَإيثَارُ صِيغَةِ الفَاعِلِ عَلَى الفِعْلِ لِلدِّلالةَ عَلَى تَحْقُّقِ إِتْيَانِهَا وَتَقَرُّرِهِ البَتَّةَ لِاقْتِضَاءِ الحِكْمَةِ إِيَّاهُ لا مَحَالَةَ، وتَعْليلِهِ بِأَنَّ التَّغيُّرَ مِنْ مُقَدِّماتِ الانْصِرامِ وَطَلَائعِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الغُفُولِ. والجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى المَجْرُورِ بِالبَاءِ، أَيْ: ذَلِكَ بِأَنَّ السَّاعَةَ. ويَجوزُ أَلَّا تكونَ مَعْطُوفةً عَلَيْهِ وَلَا دَاخِلةً فِي حَيِّزِ السَّبَبِيَّةِ، وَإِنَّما هيَ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مرفوعٍ على كونِهِ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٌ لِفَهْمِ المَعْنَى، والتَّقْديرُ: وَالأَمْرُ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ حَالَةَ كَوْنِهَا "لَا رَيْبَ فِيهَا"، وهَذَهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مِنَ المُبْتَدَأِ المقدَّرِ والخبرِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ منَ الآيَةِ التي قبلَها: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ} أَوْ هي مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {لَا رَيْبَ فِيهَا} لَا: نافِيَةٌ للجِنْسِ تعملُ عملَ "إِنَّ". و "رَيْبَ" مبنيٌّ عَلى الفتْحِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُهَا. و "فِيهَا" في: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "إنَّ"، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. وَالجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْب على الحالِ مِنَ الضَّميرِ المُسْتَكِنِّ فِي خَبَرِ "أَنَّ" أَوْ هيَ خَبَرٌ ثانٍ لِـ "أَنَّ".
قوْلُهُ: {وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} الوَاوُ: عاطِفَةٌ، أَوِ اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "أَنَّ" حَرْفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتَّوْكِيدِ. وَلَفْظُ الجَلالَةِ "اللهَ" اسْمُ "أَنَّ" مَنصوبٌ بِها. و "يَبْعَثُ" فعلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجَازِمِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ على "اللهَ"، وَ "مَنْ" اسْمٌ مَوْصولٌ بِمَعْنَى "الَّذي" مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ مَفُعُولٌ بِهِ، و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفِ صِلَةٍ لِـ "مَنْ". و "القُبُورِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و جملةُ "يبعثُ" الفعليَّةُ في محلِّ الرَّفْعِ خبرُ "أَنَّ".