وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ
(95)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} قيلَ المعنى: وَقَدْ قَضَى اللهُ وَقَدَّرَ في سابقِ عِلمِهِ أَنَّ كُلَّ قَرْيَةٍ أَهْلَكَ اللهُ أَهْلَهَا بِظُلْمِهِم، أَنَّهُم لاَ يَرْجِعُوْنَ إِلى الحَيَاةِ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ.
فَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي "شُعَبِ الإيمان" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ: "وَحرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا"، قَالَ: وَجَبَ إِهْلَاكُهَا، قَالَ: دَمَّرْناهَا. و "أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ"، قَالَ: إِلَى الدُّنْيَا. فإنَّ هَذَا الأَمْرَ مُمْتَنِعٌ علَى أَهْلِ تِلكَ القريَةِ البَتَّةَ، وَغَيْرُ مُتَصَوَّرٍ مِنْهُمْ حُصُولُهُ. فَالْكَلَامُ عَلَى تَقْديرِ مُضَافٍ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكونَ "قَرْيِةٍ" مَجَازًا عَنْ أَهْلِهَا.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، أَنَّهُ كَانَ يقْرَأُ وَحِرْمٌ عَلَى قَرْيَةٍ، قَالَ: وَجَبَ عَلَى قَرْيَةٍ، و "أهلكناها أَنهم لَا يرجعُونَ" كَمَا قَالَ: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} الآيَةَ: 31، مِنْ سورةِ (يس).
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ ـ تعالى، عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: "وَحَرَامٌ عَلى قَرْيَةٍ" أَيْ: وَجَبَ عَلَيْهَا أَنَّهَا إِذَا أُهْلِكَتْ لَا تَرْجِعُ إِلَى دُنْيَاهَا.
وقالَ الإِمامُ القُشَيْرِيُّ في تَفْسيرِهِ المُسَمَّى بـ "لَطَائِفُ الإشارات": أَيْ لَا نُهْلِكُ قَوْمًا ـ وَإِنْ تَمَادُوا في العِصْيَانِ إِلَّا إِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَنَّهُ بِالشَّقَاوَةِ تُخْتَمُ أُمُورُهُم. لطائفُ الإشارات: (5/150).
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، "وَحَرامٌ" قَالَ: وَجَبَ، "عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا" قَالَ: كَتَبْنَا عَلَيْهَا الْهَلَاكَ فِي دِينِهَا "أَنَّهم لَا يَرْجِعُونَ" عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ.
والحَرَامُ مُسْتَعَارٌ هُنَا لَمَا هُوَ مُمْتَنِعُ الوُجُودِ، فكُلٌّ مِنْهُما غَيْرُ مُمْكِنٍ حُصُولُهُ، والحَرَامُ مُمْتَنِعُ الوُقوعِ بالقهِرِ الإِلَهِيٍّ أَوْ بَالتَّسْخِيرٍ، فهوَ كَقَولِهِ في الآيةِ: 12، مِنْ سُورَةِ القَصَصِ: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المَراضِعَ مِنْ قَبْلُ}، أَوْ بِمَانِعٍ مِنَ العَقْلِ، أَوْ بِمانِعٍ شَرْعِيٍّ.
قولُهُ تَعَالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، أَوْ عَاطِفَةٌ. و "حرام" خَبَرٌ مُقَدَّمٌ مَرْفوعٌ. ويَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ جُمْلَةُ "أَنَّ". وقالَ العُكْبُريُّ: وَالْجَيِّدُ أَنْ يَكُونَ "أَنَّهُمْ" فَاعِلًا سَدَّ مَسَدَّ الْخَبَرِ. وَ "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بـ "حرام"، وَ "قَرْيَةٍ" مَجْرورٌ بحرْفِ الجَرِّ. والكلامُ على تقديرِ مُضافٍ، أَيْ: أَهْلِ قريةٍ. وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {أَهْلَكْنَاهَا} فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضَميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانِهِ، و "نا" التَّعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفعوليَّةِ، وَالجُمْلَةُ فَي مَحَلِّ الجَرِّ صِفَةً لِـ "قَرْيَةٍ".
قولُهُ: {أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} أَنَّ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ، للتوكيدِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في محلِّ النَّصْبِ اسِمُها، والميمُ: لتذْكيرِ الجَمْعِ. و "لَا" نَافِيَةٌ، وَ "يَرْجِعُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامَةُ رَفْعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ، والجُمْلةُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "أَنَّ"، وَجُمْلَةُ "أَنَّ" في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفُوعٍ عَلَى كَوْنِهِ مُبْتَدَأً مُؤَخَّرًا، والتَّقْديرً: وَعَدَمُ رُجُوعِ قَرْيَّةٍ أَهْلَكْنَاهَا إِلَيْنَا للمُجَازَاةِ حَرَامٌ مُمْتَنِعٌ فِي عِلْمِنَا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رُجُوعِهِمْ إِلَيْنَا، ومُجَازاتِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ "لا" زائدةً، والمعنى: مُمْتَنِعٌ رُجُوعُ قَريَةٍ أَرَدْنا إِهْلاكَها عَنْ غَيِّهمْ. وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: تَوْبَتُهُمْ، أَوْ رَجَاءُ بَعْثِهِمْ.
قَرَأَ الجُمْهورُ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ: {وَحَرَامٌ} وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ.
وَقَرَأَ الأَخَوانِ: "حمزةُ والكِسائيُّ"، وأَبُو بَكْرٍ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ، ورُوِيَتْ عَنْ أَبي عَمْرِو بْنِ العَلَاءِ: "وَحِرْمٌ" بِكَسْرِ الحَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَرُوِيَتْ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُم. وَهِي لُغَةٌ ثانيةٌ فيها، مِثْلُ: "حَلال" وَ "حِلِّ".
وَقَرَأَ بْنُ عَبَّاسٍ ـ أَيْضًا، وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "وَحَرِمَ" بِفَتْحِ الحَاءِ وكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِ المِيمِ، عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عباسٍ وعِكْرِمةَ أَيْضًا، وَعَنْ أَبي العَالِيَةِ "حَرُمَ" ـ بِفَتْحِ الحَاءِ والمِيمِ وَضَمِّ الرَّاءِ بِزِنَةِ "كَرُمَ"، وَهُوَ فِعْلٌ ماضٍ أَيْضًا.
ورُويَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ ـ تَعَالى، عَنْهُما: "حَرَمَ" بفَتْحُ الجَمِيعِ، وَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ أَيْضًا.
وَرويَ أَيضًا عَنِ ابنِ عباسٍ أَنَّهُ قرأ "وَحَرَّمَ"،" وَحُرِّمَ". وَقَرَأَ اليَمَانيُّ ـ أَيْضًا: "حُرِّمَ" بِضَمِّ الحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مُشَدَّدَةً وَفَتْحِ المِيمِ فِعْلًا مَاضِيًا مَبْنِيًّا للمَفْعُولِ.
ورُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَرَأَ هوَ وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ: "وَحَرْمٌ" بِفَتْحِ الحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَنْوينِ المِيمِ. تِسْعُ قِرَاءَاتٍ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ القِراءةُ أَيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهمْ جميعًا، فَمَنْ جَعَلَهُ اسْمًا: فَإِنَّ لَهُ عندَهُ فِي رَفْعِهِ وَجْهَانِ:
الوَجْهُ الأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْمٌ مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، وَحِينَئِذٍ يكونُ فِي تأويلِ خَبَرِهِ أَرْبَعَةُ تَأْويلاتِ:
التأْويلُ الأُوَّلُ: أَنَّ خَبَرَ هَذا المُبْتَدَأِ هو جُمْلَةُ "أَنَّهم لا يَرْجِعُونَ"، عَلى أَنْ تكونَ "لَا" فيها زَائِدَةً، وَيكونُ المَعْنَى: وَمُمْتَنِعٌ عَلَى قَرْيَةٍ قَدَّرْنَا إِهْلَاكَهَا لِكُفْرِهِمْ، رُجُوعُهُمْ إِلَى الإِيمانِ، إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا زائدةٌ أَبُو عَمْرِو ابْنِ العلاءِ مُسْتَشْهِدًا عَلَى ذلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةَ: 12، مِنْ سُورةِ الأَعْرَافِ: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} ، يَعْنِي فِي أَحَدِ القَوْلَيْنِ.
التأْويلُ الثاني: أَنَّ المَعْنَى: أَنَّهُمْ غَيْرُ راجِعينَ عَنْ مَعْصِيَتِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وعليْهِ فَهي غَيْرُ زَائِدَةٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّ المُرَادَ بِالحَرَامِ الوَاجِبُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ـ تَعَالى، في الآيةَ: 151، مِنْ سُورةِ الأَنْعَامِ: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ}، فإنَّ تَرْكَ الشِّرْكِ وَاجِبٌ، ومِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ الخَنْساءِ ـ رَضِيَ اللهُ ـ تَعَالَى، عَنْهَا:
حَرَامٌ عَلَيَّ لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا ....... عَلَى شَجْوِهِ إِلَّا بَكَيْتُ عَلَى صَخْرِ
تُرِيدُ أَخَاهَا، فَقَوْلُها: "حَرَامٌ عَليَّ" مَعْنَاهُ: "واجِبٌ عَلَيَّ". وَأَيْضًا فَمِنَ الاسْتِعْمَالِ إِطْلاقُ أَحَدٍ الضِّدَّيْنِ عَلَى الآخَرِ. فَـ "لَا" ثَابِتَةٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.
قَالَ النَّحَّاسُ أَبو جَعْفرٍ: وَالْآيَةُ مُشْكِلَةٌ وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِيهَا وَأَجَلِّهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَابْنُ عُلَيَّةَ، وَهُشَيْمٌ، وَابْنُ إِدْرِيسَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، وَمُعَلَّى، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها" قَالَ: وَجَبَ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، قَالَ: لَا يَتُوبُونَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحاسُ: وَاشْتِقَاقُ هَذَا بَيِّنٌ فِي اللُّغَةِ، وَشَرْحُهُ: أَنَّ مَعْنَى حُرِّمَ الشَّيْءُ حُظِرَ وَمُنِعَ مِنْهُ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى أُحِلَّ أُبِيحَ وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ "حَرامٌ"، وَ "حِرْمٌ"، بِمَعْنَى "وَاجِبٌ" فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ ضَيَّقَ الخُرُوجَ مِنْهُ وَمُنِعَ، فَقَدْ دَخَلَ فِي بَابِ الْمَحْظُورِ بِهَذَا، فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ: إِنَّ "لَا" زَائِدَةٌ فَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ، لِأَنَّهَا لَا تُزَادُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ ـ كما تَقَدَّمَ ـ ذِكْرُهُ، وَلَا فِيمَا يَقَعُ فِيهِ إِشْكَالٌ، وَلَوْ كَانَتْ زَائِدَةً لَكَانَ التَّأْوِيلُ بَعِيدًا أَيْضًا، لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى الدُّنْيَا فَهَذَا مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَإِنْ أَرَادَ التَّوْبَةَ فَالتَّوْبَةُ لَا تَحْرُمُ.
الرَّابِعُ: أَنَّ المَعْنَى: وُجوبُ رُجُوعِهِمْ إِلَى الحَياةِ فِي الآخِرَةِ. فَـ "حَرَامٌ": مُمْتَنِعٌ. و "أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ": انْتِفَاءُ الرُّجُوعِ إِلَى الآخِرَةِ، فَإِذَا امْتَنَعَ الانْتِفَاءُ وَجَبَ الرُّجُوعُ، وَيَكُونُ الغَرَضُ إِبْطالَ قَوْلِ مَنْ يُنْكرُ البَعْثَ. قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ أَبُو مُسْلِمٍ.
وتَحْقِيقُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ "لَا كُفْرانَ لِسَعْيِ أَحَدٍ"، وَأَنَّهُ يُجْزَى عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ القيامَةِ.
وَقَريبٌ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: وَمُمْتَنِعٌ عَلَى الكَفَرَةَ المُهْلَكين أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى عَذَابِ اللهِ ـ تَعَالى، وَأَلِيمِ عَذابِهِ وَعِقَابِهِ، فَتَكونُ "لا" عَلَى بَابِها، والحَرَامُ عَلَى بَابِهِ.
الوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ خَبَرَ المُبْتَدَأِ مَحْذوفٌ والتقديرُ: حَرَامٌ تَوْبَتُهُمْ، أَوْ رَجَاءُ بَعْثِهِمْ، وَتَكونُ جُمْلَةُ "أَنَّ" عِلَّةً لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَعْنَى الجُمْلِةِ. وَحِينَئِذٍ فَـ "لا" إِمَّا أَنْ تَكونَ زَائِدَةً. وَقد قدَّرَ أَبو البَقَاءِ العُكْبُريُّ الخَبَرَ المُتَقَدَّمَ ثمَّ قال في هَذَا الوَجْهِ: إِذَا جَعَلْتَ "لا" زَائِدةً قُلْتَ: وَالمَعْنَى عِنْدَهُ: لِأَنَّهُمْ يُرْجَعُونَ إِلى الآخِرَةِ وَجَزَائِها. وإِمَّا أَنْ تَكونَ غَيْرَ زائدَةٍ والمَعْنَى: مُمْتَنِعٌ تَوْبَتُهمْ، أَوْ رَجاءُ بَعْثِهم؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيَسْتَدْرِكُوا فِيهَا مَا فاتَهُمْ مِنْ ذَلِكَ.
الوجْهُ الثالثُ: أَنْ يَكونَ هَذَا المُبْتَدَأُ لَا خَبَرَ لَهُ لَفْظًا وَلَا تَقْديرًا، وَإِنَّمَا رَفَعَ شَيْئًا يَقُومُ مَقَامَ خَبَرِهِ مِنْ بِابِ "أَقائِمٌ أَخُواكَ". قَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ: وَالجَيِّدُ أَنْ يَكُونَ "أَنَّهُمْ" فَاعِلًا سَدَّ مَسَدَّ الخَبَرِ.
قالَ السَّمينُ الحلبيُّ في "الدُّرِّ المَصونِ" لَهُ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ فإِنَّ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَعْتَمِدَ الوَصْفُ عَلَى نَفْيٍ أَوِ اسْتِفْهَامٍ، أَمَّا هُنَا فَلمْ يَعْتَمِدِ المُبْتَدَأُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَنْحُوَ مَنْحى الأَخْفَشِ لأَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ. وَحِينَئِذٍ يَكونُ فِي "لا" الوَجْهَانِ المُتَقَدِّمَانِ مِنَ الزِّيادَةِ وَعَدَمِهَا، بِاخْتِلافِ مَعْنَيَيْنِ: أَيْ امْتَنَعَ رُجُوعُهُمْ إِلَى الدُّنْيَا، أَوْ عَنْ شِرْكِهِم إِذَا قَدَّرْتَها زَائِدَة، أَوِ امْتَنَعَ عَدَمُ رُجُوعِهِمْ إِلَى عِقَابِ اللهِ فِي الآخِرَةِ، إِذَا قَدَّرْتَهَا غَيْرَ زَائِدَةٍ.
قِرِأِ العِامَّةُ: {أَهْلكناها} ـ بِضميرِ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَميِّ، وَقَتَادَةُ "أَهْلَكْتُهَا" بِضَمِيرِ المُتْكَلِّمِ. وَمَنْ قَرَأَ "حَرِمٌ" ـ بِفَتْحِ الحَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَنْوِينِ المِيم، فَهُوَ فِي قِراءَتِهِ صِفَةٌ عَلَى فَعْلِ، نَحْوَ: "حَذِر". كَمَا قَالَ زُهَيْرُ بْنِ أَبي سُلْمَى يَمْدَحُ هَرَمَ بْنَ سِنانٍ:
وَإِنْ أَتَاهُ خَليلٌ يَوْمَ مَسْأَلَةٍ ............... يَقُولُ لَا غَائِبٌ مَالِي وَلَا حَرِمُ
أَيْ: ولا مَمْنُوعٌ. وَمَنْ قَرَأَهُ فِعْلًا مَاضِيًا فَهُوَ فِي قِرَاءَتِهِ مَسْنَدٌ لـ "أَنَّ" وَمَا فِي حَيِّزِهَا. وَلَا يَخْفَى الكَلَامُ فِي "لا" بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزِّيادَةِ وَعَدَمِها، فإِنَّ المَعْنَى وَاضِحٌ مِمَّا تَقَدَّمَ.
وَقُرِئَ: "إِنَّهُمْ" بِكَسرِ الهَمْزَةِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الجَمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَحِينَئِذٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ نُقَدِّرَ مُبْتَدَأً ليَتِمَّ بِهِ الكَلَامُ، فيكونُ التَّقْديرُ: ذَلِكَ العَمَلُ الصَّالِحُ حَرَامٌ.