إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ
(92)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} الخِطَابُ بكافِ الخِطابِ: متوَجَّهٌ بِهِ إِلَى البَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ، وَالإِشَارَةُ باسْمِ الإشارةِ في "هَذِهِ" إِلَى مِلَّةِ الإِسْلَامِ، مِلَّةِ تَوْحِيدِ اللهِ ـ تَبَاركَ وَتَعَالَى، مِنْ بابِ تَصَوُّرِ المُشَارِ إِلَيْهِ موجودًا في الذِّهْنِ وَالإِشارَةِ إِلَيْهِ، كَمَا هَوَ الحالُ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى مِنْ سورةِ الكهْفِ: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} الآيةَ: 78، وقولِهِ مِنْ سورةِ (صَ): {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} الآيةَ: 23. عَلَى أَنَّ المُشارَ إِلَيْهِ مُتَمَيِّزٌ أَكْمَلَ التَّمْيِيزِ، وَلِهَذَا لَمْ يَصِفْهُ، كما قالَ الشَّاعِرُ الفَرَزْدَقُ فِي زَيْنِ العَابِدينَ علِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ـ رَضِي اللهُ ـ تَعَالَى عَنْهُمْ:
هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ .......... وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَالْحِلُّ وَالْحَرَمُ
هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللهِ كُلِّهِمُ ............. هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْعَلَمُ
فقدْ أَخْرَجَ البيهقيُّ وغَيْرُهُ، عَنْ سُلَيْمَانُ بن الْهَيْثَمِ، قَالَ: حَجَّ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ، فَاجْتَهَدَ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ فَلَمْ يُمْكِنْهُ، وَجَاءَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَوَقَفَ لَهُ النَّاسُ وَتَنَحَّوْا حَتَّى اسْتَلَمَهُ، قَالَ: وَنُصِبَ لِهِشَامٍ مِنْبَرٌ، فَقَعَدَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَهْلُ الشَّامِ: مَنْ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُهُ، فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: لَكِنِّي أَعْرِفُهُ:
هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ .......... وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَالْحِلُّ وَالْحَرَمُ
هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللهِ كُلِّهِمُ ............. هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْعَلَمُ
يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ رَاحَتِهِ .............. رُكْنُ الْحَطِيمِ لَدَيْهِ حِينَ يَسْتَلِمُ
إِذَا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا ................. إِلَى مَكارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الْكَرْمُ
إِنْ عُدَّ أَهْلُ التُّقَى كَانُوا أَئِمَّتَهُمْ ... أَوْ قِيلَ مَنْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ قِيلَ هُمُ
هَذَا ابْنُ فَاطِمَةٍ إِنْ كُنْتَ جَاهِلَهُ .............. بِجَدِّهِ أَنْبِيَاءُ اللهِ قَدْ خُتِمُوا
وَلَيْسَ قَوْلُكَ مَنْ هَذَا بِضَائِرِهِ .......... الْعُرْبُ تَعْرِفُ مَا أَنْكَرْتَ وَالْعَجَمُ
يُغْضِي حَيَاءً ويُغْضَى مِنْ مَهابَتِهِ .............. فَمَا يُكَلَّمُ إِلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ
فِي كَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهُ عَبَقٌ ................ بِكَفِّ أَرْوَعَ فِي عِرْنِينِهِ شَمَمُ
مُشْتَقَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ نَبْعَتُهُ ............. طَابَتْ عَناصِرُهُ وَالْخَيْمُ وَالشِّيَمُ
لا يَسْتَطِيعُ جَوَادٌ بَعْدَ غَايَتِهِمْ ............... وَلا يُدانِيهِمُ قَوْمٌ وَإِنْ كَرُمُوا
أَيُّ الْعَشائِرِ لَيْسَتْ فِي رِقَابِهِمُ ................... لأَوَّلِيَّةِ هَذَا أَوْ لَهُ نِعَمُ
ما قالَ: لا، قَطُّ إلَّا في تَشَهُّدِهِ ........... لولا التَّشَهُدُ كانَتْ لاءَهُ نَعَمُ
"حِلْيَةُ الأَوْلِياءِ وَطَبَقَاتُ الأَصْفِياءِ" لِأَبي نُعَيْمٍ: (3/139)، وَالنَّصُّ لَهُ. و "المُعْجَمُ الكَبيرُ" للطَبَرَانِيِّ: (3/169).
والأُمَّةُ: هِيَ الجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ يَجْتَمِعُونَ عَلَى أَمْرٍ مَّا في زَمَانٍ مَّا. وهُمْ فِي الأَصْلِ: القَوْمُ يَجْتَمِعُونَ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، وقدْ أُطْلِقَتْ عَلَى الدِّينِ نَفْسِهِ مَجَازًا. وكونُها واحدَةً يَعْنِي اتِّفاقَ المُرْسَلِينَ عَلى الأَساسيَّاتِ في هَذا الدينِ، وإِنِ اخْتَلَفَتِ الشَّرائعُ باختلافِ الأَزْمِنَةِ، والأَقْوَامِ، فقدْ نزَلَتِ الشَّرائعُ مُراعيَةً خصوصِيَّاتِ الأَقْوامِ وَالمُسْتَوَى الحَضَارِيَّ الذي هُمْ عليْهِ، بَيْنَمَا اتَّفقَتْ في الأَساسِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ، كاعتقادِ الإلهِ الواحِدِ للْكَونِ، إِلهًا خَالقًا مَالِكًا مُتَّصرِّفًا في مُلْكِهِ وَحدَهُ دُونَ شَريكٍ مَعَهُ، ولهُ وَحْدَهُ حقُّ الطاعةِ والعبادةِ. ومِنَ الأَساسيَّاتِ تَقْديمُ الصَّالِحِ العامِّ للمُجْتَمَع، وتَغْلِيبُهُ على المنافعِ الآنيَّةِ والمَصالحِ الشَّخصيَّةِ، والإيمانُ بالحياةِ الآخرةِ، والحسابِ عَلَى مَا قدَّمَ المرْءُ مِنْ عملٍ في الحياةِ الدُّنْيَا، والجَزَاءُ العَادِلُ مِنَ اللهِ ـ تَبَارَكَ وتَعَالى.
قولُهُ: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} رَتَّبَ اللهُ ـ سُبْحانَهُ، الرُّبوبيَّةَ عَلَى الأُلوهيَّةَ، والرَّبُّ الذي يقومُ بشؤونِ عِبَادِهِ، ويُمَدُّهُمْ بأَسْبابِ اسْتِمْرارِ الحَيَاةِ، هُوَ الإلهُ الذي مَنَحَهُمُ الحَياةَ نفسَها، وطالَمَا أَنَّهُ، هوَ الإلَهُ الخالقُ، والرَّبُّ، المتولِّي أُمورَ خلْقِ الراعي لمصالحِهم، فهو إذًا الجديرُ بعبادتِهِمْ وولائهِمْ لهُ دونَ أنْ يُشْركَ معهُ أَحدٌ. والعبادَةُ هي الطاعةُ المُطلقةُ في كلِّ ما أمَرَ بهِ أو نهى عنهُ.
قولُهُ تَعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} إِنَّ: حرْفٌ ناصِبٌ، ناسخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَّوكيدِ، و "هَذِهِ" الهاء: للتنْبيهِ، و "ذِهِ" اسْمُ إِشارَةٍ للمُؤنَّثِ، مبنيٌّ على الكَسْرِ في محلِّ النَّصْبِ، اسْمُ "إنَّ" وَ "أُمَّتُكمْ" خَبَرُها مَرفوعٌ بِها، مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ، ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذكَّرِ. و "أُمَّةً" منصوبٌ على الحالِ مِنْ "أُمَّتُكُمْ" حالًا لازِمَةً، وَقِيلَ: هيَ بَدَلٌ مِنْ "هَذِهِ"، وَقَدْ فُصِلَ بَيْنَ البَدَلِ والمُبْدَلِ مِنهُ بِالْخَبَرِ، نَحْوَ قولِكَ: إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ أَخَاكَ. وَ "وَاحِدَةً" صِفَةٌ لازِمَةٌ لـ "أُمَّةً" منصوبَةٌ مثلها، والجملةُ مُسْتَأنَفَةٌ لا مَحلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قَوْلُهُ: {وَأَنَا رَبُّكُمْ} الواوُ: للعطْفِ، و "أَنَا" ضميرُ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، مَبنيٌّ على السُّكونَ في مَحَلِّ الَّفعِ بالابْتِداءِ. و "رَبُّكم" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ، وهوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ: علامةُ الجمعِ المُذَكَّرِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "إِنَّ" على كَوْنِها جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {فَاعْبُدُونِ} الفَاءُ: هيَ الفَصِيحَةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ بـ: إِذَا عَرَفْتُم أَنَا رَبُّكُم، وَأَرَدْتُمْ بَيَانَ مَا هُوَ اللَّازِمُ لَكُمْ .. فَأَقُولُ: "اعْبُدونَ". و "اعْبُدُون" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ النُّونِ لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، والواوُ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ، والنُّونُ هَذِهِ هي نُونُ الوِقَايَةِ، وَيَاءُ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفَةِ اجْتِزَاءً عَنْهَا، بِكَسْرَةِ نُونِ الوَقَايَةِ، فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولٌ لِجَوَابِ "إذا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذَا" المُقَدَّرَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {أُمَّةً وَاحِدَةً} بِرَفْعِ "أُمَّتُكُمْ "خَبَرًا لـ "إِنَّ" وَنَصْبِ "أُمَّةً" عَلَى الحَالِ، أَوِ البَدَلِ مِنْ "هَذِهِ"، كما تقدَّمَ توجيهُهُ في مَبْحَثِ الإعْرابِ، وعلَيْهِ فَيَكونُ قَدْ فُصِلَ بالخَبَرِ بَيْنَ البَدَلِ وَالمُبْدَلِ مِنْهُ، فهوَ نَحْوُ قَوْلِكَ: إِنَّ زَيْدًا قائِمٌ أَخَاكَ.
وَقَرَأَ الحَسَنُ "أُمَّتَكم" بِالنَّصْبِ عَلَى البَدَلِ مِنْ "هَذِهِ" أَوْ عَطْفِ البَيَانِ. وَقَرَأَ أَيْضًا هُوَ وَابْنُ أَبي إِسْحَاقَ، والأَشْهَبُ العُقَيْلِيُّ، وَأَبُو حَيَوَةَ، وابْنُ أَبي عَبْلَةَ، وَهارُونُ، عَنْ أَبي عَمْرِو بْنِ العَلَاءِ "أُمَّتُكم أُمَّةٌ" بِالرَّفْعِ عَلَى أَنْ تَكونَ "أُمَّتُكم" خَبَرَ "إِنَّ" ـ كَمَا تَقَدَّمَ، وَ "أُمَّةٌ" بَدَلًا مِنْهَا بَدَلَ نَكِرَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ، أَوْ تَكونَ "أُمَّةٌ" خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.