وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ
(91)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أَيْ: واذْكُرْ يا محمَّدُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قِصَّةَ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرِانِ، الَّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا، وَحَفِظَتْ نَفْسَها حِفظًا تَامًا مِنْ أَنْ يَمَسَّها رَجُلٌ بِحَلالٍ أَوْ حَرَامٍ، كَمَا جَاءَ في الآيَةِ: 20، مِنْ سُورَةِ مَريمَ: {قالتْ: أَنَّى يكونُ لي غلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}.
لَقَدْ أَرَادَ اللهُ ـ تعالى، إِكْرَامَهَا بِأَنْ تَكُونَ مَظْهَرًا جلِيًّا مِنْ مظاهِرِ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ فِي مُخَالَفَةِ عادتِهِ في الخلقِ، بِحَمْلِ أُنْثَى دُونَ أنْ يمسَّها ذَكَرٌ، لِيَرَى النَّاسُ مِثَالًا مِنَ التَّكْوِينِ الْأَوَّلِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى منْ سُورةِ آل عِمرَانَ: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} الآيةَ: 59. فقد خلقَ آدَمَ دونَ ذكَرٍ أَوْ أُنْثى، وخلقَ حوَّاءَ مِنْ ذكرٍ دونَ أُنْثى، وَخَلقَ عِيسَى مِنْ أُنْثى دونَ ذكَرٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَ: كَتَبَ قَيْصَرُ الرُّومِ إِلَى أميرِ المُؤْمِنينَ مُعَاوِيَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ، فَأَنْبِئْني بِأَكْرَمِ عِبَادِ اللهِ عَلَيْهِ، وَأَكْرَمِ إِمائِهِ عَلَيْهِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي، فَقُلْتُ: أَمَّا أَكْرَمُ عِبَادِهِ عَلَيْهِ فَآدَمَ، خَلَقَهُ بِيَدِهِ، وَعَلَّمَهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا. وَأَمَّا أَكْرَمُ إِمائِهِ عَلَيْهِ فَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ "الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا".
قولُهُ: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} قِيلَ: إِنَّمَا نَفَخَ الْمَلَكُ مِمَّا هُوَ لَهُ كَالْفَمِ لِأَنَّ النَّفخَ يَكونُ بِتَضْيِيقِ الشَّفَتَيْنِ وَإِخْرَاجِ الهَوَاءِ مِنَ الْفَمِ. وَقَدْ أُطْلِقَ النَّفْخُ هُنَا تَمْثِيلًا لِإِلْقَاءِ رُوحِ التَّكْوِينِ لِلنَّسْلِ فِي رَحِمِ مَرْيمَ ـ عَلَيْهَا السَّلامُ، دَفْعَةً وَاحِدَةً دُونَ أَيِّ مَسٍّ أَوْ لَمْسٍ وَدُونِ أَيٍّ مِنَ الْوَسَائِلِ الْمُعْتَادَةِ في مثلِ هَذِهِ الحالةِ، فَشَبَّهَ هَيْئَةَ التَّكْوِينِ السَّرِيعِ للطِّفلِ المُعْجِزةِ ـ عليْهِ السَّلامُ، بِهَيْئَةِ النَّفْخِ في الشَّيْءِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا"، قَالَ: نَفَخَ فِي جَيْبِهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ ـ رَضِيَ اللهُ ـ تَعَالَى، عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: نَفَخَ فِي فَرْجِهَا. واللهُ أَعْلَمُ.
وَالظَّرْفِيَّةُ الْمُسْتَفَادَةُ هُنَا مِنْ حَرْفِ الجَرِّ "فِي" هيَ كَوْنُ مَرْيَمَ ـ علَيْها السَّلامُ كانتِ هِ الظَّرْفُ لِحُلُولِ النَّسْمَةِ الْتي نُفِخَتِ الرُّوحُ فِيهَا، إِذْ كَانَتِ الوِعَاءَ لها، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِيها، وَلَمْ يُقَلْ "فِيهِ" إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْحَمْلَ الَّذِي كُوِّنَ فِي رَحِمِهَا حَمْلٌ مِنْ غَيْرِ الطَّرِيقِ الْمُعْتَادِ، والوَسِيلَةِ المُتَّخَذَةِ، فَكَأَنَّهُ قالَ: فَنَفَخْنَا فِي بَطْنِهَا. وَذَلِكَ أَوْضَحُ فِي مُخَالَفَةِ الْعَادَةِ، لِأَنَّ خَرْقَ الْعَادَةِ تَتَقَوَّى دَلَالَتُهُ بِمِقْدَارِ مَا تَتَلاشَى فِي سَبِيلِ إِنْجازِه الْوَسَائِلُ الْمُعْتَادَةِ.
وَالرُّوحُ: هُوَ الْقُوَّةُ الَّتِي تكونُ الْحَيَاةُ بِهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الآيَةِ: 29، مِنْ سورةِ الحِجْرِ: {فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}، أَيْ: جَعَلْتَ فِي آدَمَ رُوحًا فَصَارَ حَيًّا. وَحَرْفُ "مِنْ" تَبْعِيضِيٌّ، وَالْمَنْفُوخُ رُوحٌ، إِلَّا أَنَّ التَّبْعيضَ هُنَا جِنْسِيٌ، وَلَيْسَ تَجْزيئِيًّا للرُّوحِ الَّذِي يَجْعَلُ اللهُ بِهِ الْأَجْسَامَ ذَاتَ حَيَاةٍ. وَإِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَى اللهِ تَعَالَى إِنَّما هِيَ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وحَسْب، أَيْ: إِنَّ المَلَكَ هُوَ رُوحٌ مَبْعُوثٌ مِنْ لَدُنِ اللهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، دُونِ وِسَاطَةِ التَّطَوُّرَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ المُعْتادَةِ لِلتَّكْوِينِ النَّسْلِيِّ. واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} لَقَدْ جَعَلَ اللهُ تعالى مَريمَ ابْنَةَ عِمْرانَ وَابْنَهَا عِيسَى ـ عَلَيْهِما الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، آيَةً للعَالَمِينَ، وَمُعْجِزَةً للمُتَفكِّرينَ، كَمَا قَالَ فِي منْ سُورَةِ الْمُؤْمِنونَ: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} الآيةَ: 50. وبِهَذا شَرَّفَهُمَا وَجَعَلَهُمَا وَسِيلَةً لِلْيَقِينِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ كانَ شرِيفُ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّتِي} الواوُ: حَرفٌ للعَطْفِ. و "التي" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ. بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، والتقديرُ: واذْكُرْ قِصَّةَ مَرْيَمَ الَّتي أَحْصَنَتْ، وَالْجُمْلَةُ المَحْذُوفَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الجُمَلِ المَذْكُورَةِ قَبْلَهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ "التي" نَسَقاً عَلَى مَا قَبْلَهُ، ويَجوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالابْتِداءِ وَخَبَرُهُ مَحْذوفٌ، تَقْديرُهُ: وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمُ الَّتِي أَحْصَنَتْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الخَبَرُ "فَنَفَخْنَا" وَزِيْدَتِ الفاءُ على رأي الأَخْفَشِ نَحْوَ: "زَيْدٌ فَقَائِمٌ".
قوْلُهُ: {أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، والتاءُ السَّاكنةُ لِتَأْنيثِ الفاعِلِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هيَ) يَعُودُ عَلَى الاسْمِ المَوْصُولِ "الَّتي"، و "فَرْجَها" مفعولُهُ منصوبٌ بِهِ، وهُوَ مُضافٌ، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والجُمْلَةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} الفاءُ: عاطِفَةٌ. وَ "نَفَخْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعظِّمِ نفسَهَ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "فِيهَا" في: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "نَفَخْنَا"، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ. وَ "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ أَيْضًا بـِ "نَفَخْنَا"، و "رُوحِنَا" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، و "نا" التَّعظيمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَحْصَنَتْ" عَلَى كونِها صِلَةَ المَوْصولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قوْلُهُ: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} الوَاوُ: للعَطْفِ، وَ "جَعَلْنَاهَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعظِّمِ نفسَهَ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التَّعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ. و "وَابْنَهَا" الواوُ للعطْفِ، أوْ للمَعِيَّةِ، وَ "ابْنَ" مَنْصْوبٌ عْطْفًا عَلَى الهَاءِ، أَوْ على أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ، وهوَ مُضافٌ، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليْهِ. و "آيَةً" مَفْعُولُهُ الثاني مَنْصُوبٌ بِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُطَابِقِ المَفْعُولَ الأَوَّلَ فَيُثَنَّى؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ مَرْيَمَ وَابْنَهَا آيَةً بِانْضِمَامِهِ لِلْآخَرِ، فَصَارَا آيَةً وَاحِدَةً، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حُذِفَ مِنْ أَحَدِهِمَا لِدَلَالَةِ الثَّاني عَلَيْهِ؛ أَيْ: وَجَعَلْنَا مَرْيَمَ آيَةً، وَابْنَهَا آيَةً، أَوْ بِالْعَكْسِ. وَهُوَ نَظيرُ الحَذْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ التوبةِ: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} الآيةَ: 62، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَ "لِلْعَالَمِينَ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "آيَةً"، وَ "الْعَالَمِينَ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ. والجملةُ الفعلِيَةُ هذِهِ مَعْطُوفةٌ عَلى جُمْلَةِ قولِهِ: "نَفَخْنَا" عَلَى كَوْنِها لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.