طاكية
أنطاكية Antakya في سورية واحدة من أشهر المدن التي أنشأها في مطلع القرن الثالث قبل الميلاد سلوقس الأول نيكاتور[ر] أحد القادة الذين خلفوا الاسكندر الكبير المقدوني، وهي واحدة من ست عشرة مدينة أقامها سلوقس وأطلق عليها هذا الاسم تخليداً لذكرى والده أنطيوخس Antiocheia.
تقع المدينة في شمال غربي سورية عند الطرف الجنوبي لسهل العمق، يحدها شرقاً جبل حبيب النجار (سلبيوس Silpius) وهو جزء من الجبل الأقرع (كاسيوس Casius) كما يحدها غرباً نهر العاصي. وتبعد عن شاطئ المتوسط نحو 25كم. ولها عدة مسميات تميزها من غيرها أشهرها «أنطاكية على نهر العاصي» و«أنطاكية دفنة»، وإن كانت قد اشتهرت بالاسم الثاني أكثر من غيره.
أما الإحداثيات الجغرافية للمنطقة فهي دائرة العرض 36 درجة و15 دقيقة شمال خط الاستواء، وخط الطول 36 درجة و8 دقائق شرق غرينتش، مساحتها 36كم2، كان يحيط بها سور طوله 30كم وعليه 360 برجاً، وله سبعة أبواب، ولم يبق منه سوى أطلال قليلة، ويتبعها سبعة أقضية وإحدى وعشرون ناحية و362 قرية و464 مزرعة، وهي على ارتفاع 80م فوق سطح البحر.
تروي المصادر عدداً من الأساطير التي حيكت عن أهمية المدينة وموقعها. ويزعم الخطيب ليبانيوس Libanios الذي اشتهر بحبه الشديد لها لأنها مسقط رأسه أن الاسكندر المقدوني كان صاحب فكرة إنشاء المدينة في هذا الموقع. وهو أمر تنفيه المصادر الأخرى التي تذكر أن سلوقس الأول نيكاتور وضع أساساتها في يوم 22 أرتميسيوس (أيار) سنة 300ق.م. وتألفت حين إنشائها من حيين يفصل بينهما سور خاص.
وتدل المعالم الأثرية فيها، على أن أنطاكية خططت وفقاً للنظام الشبكي (الشطرنجي) الذي غلب على تخطيط مدن تلك الحقبة بعد نجاحه، وعلى أن اتجاهاتها حُددت بدقة بالغة لتستفيد إلى أقصى حد من أشعة الشمس في الشتاء ومن الظلال والنسيم الذي يهب من البحر صيفاً. ولا تذكر المصادر القديمة أي معلومات عن المباني العامة التي أقيمت عند إنشاء المدينة باستثناء ما يذكره أحد المؤرخين عن معبد «زيوس بوتيايوس» الإله الحامي للأسرة المالكة. وتذكر المصادر أن سلوقس أسكن منشأته الجديدة أهالي مدينة «أنتيغونية» فأقاموا في الحي الأول من المدينة، وسكن إلى جوارهم المقدونيون الذين تقاعدوا بعد الخدمة في جيش سلوقس، إضافة إلى عدد من أبناء كريت وقبرص، في حين أقام السكان المحليون السوريون مع الجالية اليهودية في الحي الثاني. كما تذكر المصادر نفسها أن زيادة عدد السكان ولاسيما بعد هجرة الإيتوليين التي أعقبت هزيمة أنطيوخس الثالث أمام الرومان، أجبرت سلوقس الرابع (246 - 226ق.م). ثم أنطيوخس الرابع (175- 163ق.م) على إضافة الحيين الثالث والرابع إلى المدينة.
وقد شاع لمدة من الزمن أن أنطاكية منذ تأسيسها كانت العاصمة الأولى لامبراطورية سلوقس الأول نيكاتور في منطقة غربي آسيا. إلا أن شواهد النقود الكثيرة والمتنوعة التي عثر عليها حديثاً إضافة إلى دفن مؤسس الأسرة السلوقية في مدينة «سلوقية بيرية» وإشارات المؤرخ بولوبيوس في كتاباته، تؤكد كلها أن أنطاكية لم تتخذ عاصمة للسلوقيين إلا بعد وفاة مؤسس الأسرة، أو بعد الحرب السورية الثالثة (246 - 241ق.م) حين احتلت القوات البطلمية العاصمة سلوقية، ونقل سلوقس الثاني مركز حكمه إلى أنطاكية. ويبدو أنه منذ ذلك التاريخ استمرت أنطاكية مدينة مزدهرة تضاهي في جمالها وأهميتها السياسية مدن الشرق العظيمة كالاسكندرية وبرغامة حتى أواخر القرن الثاني ق.م حين أدت المنازعات الأسرية بين الملوك وأدعياء العرش إلى أن تنافسها مدينة دمشق التي أصبحت عاصمة أنطيوخس التاسع ودمتريوس الثالث وغيرهما من ملوك السلوقيين. وفقدت أنطاكية لاحقاً بعض بريقها السياسي حتى احتلها الرومان سنة 64ق.م، وأصبحت مركز الحاكم الروماني وجيوشه، ومركزاً تجارياً مرموقاً، إضافة إلى كونها ثانية مدن الامبراطورية الرومانية بعد الاسكندرية. وفي أوقات متتابعة أضاف إليها الأباطرة الرومان مثل يوليوس قيصر وفسباسيان وتراجان وكومودوس عدداً من المنشآت الرسمية والعامة، كالقصور والملاعب والأقواس والمعابد والأبراج والحدائق. وقد أضافت هذه المنشآت جمالاً إلى جمال المدينة. إلا أنها لم تبلغ جمال ضاحيتها دفنة التي نسبت المدينة نفسها إليها وتحدثت عنها الأساطير، مثل أسطورة «تحكيم باريس بين الإلهات هيرا وأفروديت وأثينة»، وأسطورة «أبولون ودفنة»، وأسطورة «غابة دفنة»، وكانت هذه الغابة تجاور أنطاكية وتضم أشجار الغار وهيكلاً عظيماً لأبولون احترق سنة 362م، وفيها كنيسة باسم القديس الشهيد بابيلاس أسقف أنطاكية طغت شهرتها على شهرة هيكل أبولون. كما تحولت القرية المجاورة لدفنة إلى مقبرة كبيرة لمسيحيي أنطاكية. وحين قدم «يوليانوس المرتد» امبراطور رومة إلى دفنة ليقرب قرباناً إلى أبولون ساءه الإهمال الذي أصاب الهيكل، وعدم إقامة الاحتفالات المعتادة، فثارت حميته الدينية، وأمر بهدم كنيسة القديس بابيلاس. كما أمر المسيحيين بنقل جثث موتاهم من دفنة إلى أنطاكية مع رفات القديس بابيلاس. وفي الليل أضرمت النار في الهيكل حول تمثال «أبّولون» فقط، واتهم يوليانوس مسيحيي أنطاكية بهذا الفعل. فأمر بإقفال أبواب المدينة وأباحها لجنوده.
حافظت أنطاكية على شهرتها في العهد المسيحي حتى غدت واحدة من أبرز أسقفيات الشرق إلى جانب القسطنطينية والاسكندرية، وعُرفت بدعوتها إلى المسيحية على طريقة التعليم الوضعي الأرسطي، على خلاف مدرسة الاسكندرية التي اعتمدت التعليم الرمزي الأفلاطوني. وعلى هذا أصبحت مدرسة أنطاكية أشد تمسكاً بطبيعة السيد المسيح البشرية في مقابل تمسك مدرسة الاسكندرية بطبيعته الإلهية. ويُعد يوحنا فم الذهب أشهر دعاة المدرسة الأنطاكية. كذلك اكتسبت أنطاكية شهرة تجارية لوقوعها على أحد أهم الطرق التجارية بين الشرق والعالم اليوناني - الروماني. وقد وفر لها موقعها هذا نوعاً من الرخاء والازدهار منذ عهود مبكرة وغدت سوقاً يقصدها التجار ومهرة الصناع، وحازت مصنوعاتها المحلية كالأحذية الجلدية، والعطور، والأقمشة الحريرية، والمصوغات الذهبية والفضية شهرة كبيرة.
وقد عانت أنطاكية في العهد الروماني اضطهاد الأباطرة الرومان بعد انتشار المسيحية كما عانت في أثناء الحروب بين الرومان والفرس. فقد حاصرتها جيوش سابور الأول واحتلتها وهجّرت سكانها، كما هاجمها كسرى أنوشروان سنة 528م ودمرها وهجّر عدداً من سكانها إلى مدينة طيسفون. وأجهزت الزلازل المروعة المتكررة على ما تبقى من مبانيها وسكانها. وقد أعاد الامبراطور جوستنيانوس بناء أنطاكية على الأنقاض التي بقيت بعد أن دمرها كسرى، ولكنها جاءت أصغر مساحة عما كانت عليه قبلاً.
استمرت أنطاكية على حالها هذا إلى أن حررها العرب المسلمون سنة 16هـ/638م، في أيام الخليفة عمر بن الخطاب وبقيادة أبي عبيدة بن الجراح الذي سار إليها من حلب ودخلها صلحاً، ثم دخلها ثانية عياض بن غنم بعد أن نقض أهلها العهد. وصارت من الثغور، وبقيت تتبع إمارة حلب في عهد الحمدانيين إلى سنة 356هـ /966م حين انتزعها الامبراطور البيزنطي نقفور فوكاس وجدد أسوارها وقواها حتى غدت من أحصن المدن، وظلت أنطاكية في يد البيزنطيين حتى سنة 477هـ/1084م حين استعادها صاحب قونية سليمان بن قطلمش السلجوقي. وفي سنة 492هـ/1098م استولى الفرنجة الصليبيون على أنطاكية في الحملة الصليبية الأولى بعد حصار طويل انتهى بمذبحة مروعة. وأسس الصليبيون فيها إمارة مستقلة تتبع اسمياً لمملكة بيت المقدس. وظلت أنطاكية خاضعة لحكم الفرنجة إلى أن استطاع الملك الظاهر بيبرس استردادها سنة 567هـ/ 1171م وأحرق قلعتها، وظلت أنطاكية من ممتلكات الدولة المملوكية إلى أن سقطت بيد العثمانيين سنة 923هـ/1517م، واستمرت تحت حكمهم مثل باقي الأمصار العربية إلى قيام الحرب العالمية الأولى، وتحرر العرب من الحكم العثماني. وغدت أنطاكية واحدة من مدن سورية وتبعت إدارياً إلى لواء اسكندرونة[ر] الذي اقتطعته تركية من سورية عام 1939.
ولأنطاكية شهرة سياحية واسعة، إذ يقصدها السياح لأهميتها التاريخية والدينية ففيها أُقيمت أول كنيسة أممية، وسُمي فيها تلاميذ المسيح مسيحيين، وقد أسس هذه الكنيسة القديسان بولس وبرنابا سنة 42م، وكان فيها مقر البطريركية الأرثوذكسية التي تفرعت عنها بطريركيات القسطنطينية وأنطاكية والقدس والاسكندرية وموسكو، وتعرف رسمياً باسم بطريركية أنطاكية وسائر المشرق.
ومن آثارها المهمة الجسر الروماني وجامع حبيب النجار الفريد من نوعه، ومتحف الفسيفساء، وكنيسة القديس بطرس، إضافة إلى بقايا قلعتها وأسوارها ومغاراتها. كما تشتهر أنطاكية بمنتجعاتها الجبلية الجميلة وبشاطئها الرملي عند مصب نهر العاصي، وتمتاز بطابعها العمراني الإسلامي الشرقي.
كان عدد سكان مدينة أنطاكية عام 1932م نحو 29.770 نسمة، ثم ارتفع عام 1960م إلى 49.674 نسمة، وفي عام 2000م بلغ عدد السكان 160.000 نسمة، معظمهم من الأتراك الذين تدفقوا عليها (قرابة 60%) والعرب (قرابة 37%)، وفيها أقليات من الأكراد والشركس والأرمن. ويلاحظ من هذا أن مدينة أنطاكية تضخمت تضخماً لافتاً للنظر، إذ قاربت الزيادة في عدد سكانها (25-50%) في السنوات المذكورة، علماً أن تقديرات سكانها في العهد الروماني تذكر رقماً يصل إلى 500.000 نسمة.
يعمل السكان في الزراعة، إذ اشتهرت المدينة مع ظهيرها الجغرافي بزراعة الأشجار المثمرة مثل المشمش والكرمة والزيتون والحمضيات، بالإضافة إلى القطن والتبغ. كما يعمل بعضهم الآخر في صناعة الأثاث الخشبي، والصياغة والزيتون والصابون والدباغة والنسيج والأحذية، ويعمل آخرون في الخدمات ووظائف الدولة في المديريات والمؤسسات العامة.