وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى
(119)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا} مُتَابَعةٌ لِبَيَانِ مَا لِآدَمَ فِي الجَنَّةِ مِنْ أَسْبَابِ الكِفَايَةِ والكَفَافِ فذكَرَ هنا الرِّيَّ والسَّكَنَ بعدَ أنْ ذَكَرَ لهُ في الآيةِ الَّتِي قَبْلَها الشِّبَعَ والكِسْوَةَ، فهوَ في غِنًى عَنِ اكْتِسَابِهَا جميعًا، والسَّعْيِ لِتَحْصِيلِها. و "لا تظْمَأُ" لَا تَعْطَشُ. مِنْ ظَمِئَ الرَّجُلُ يَظْمَأُ ظَمَأً وظَماءً وظَماءةً، فُهُوَ ظَمْآن، إِذا اشْتَدَّ عَطَشُه فهوَ عَطْشَان، فَقِيلُ: هُوَ أَشدُّهُ، وَقَيلَ: هُوَ أَخَفُّهُ وَأَيْسَرُهُ، وَظَمِئْتُ أَظْمَأُ ظَمْأً فأَنَا ظَامٍ، وهو ظَمِئٌ وظَمْآنُ، والأُنثى ظَمْأَى، وَلا يَنْصَرِفانِ نَكِرَةً كانا وَلَا مَعْرِفَةً، وَرَجُلٌ مِظْمَاءٌ: مِعْطاشٌ، وَهُمْ ظِمَاءٌ، أَي عِطاشٌ، قَالَ الكُمَيْتُ الأَسَدِيُّ:
إِلَيْكُم ذَوي آلِ النبيِّ تَطَلَّعَتْ ............. نَوازِعُ من قَلْبِي ظِماءٌ وأَلْبُبُ
فاسْتَعَارَ الظِّمَاءَ للنَّوازِعِ القَلْبِيَّةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَشْخَاصًا، وَأَظْمَأْتُهُ أَعْطَشْتُهُ، وَالتَّظْمِئةُ التعطيشُ، وظَمِئَ إِلى لِقائِهِ اشْتَاقَ وَالاسْمُ الظِّمْءُ ـ بالكَسْرِ، وَالجَمْعُ أَظْماءٌ، وما بينَ الشُّرْبَيْنِ ظَّمْءُ أَيْضًا قَالَ غَيْلانُ الرَّبَعِي مُرتجزًا:
دُونَ العِيَالِ وَصِغَارِ الأَبْنَاءْ ............. مُقْفًى عَلى الحَيِّ قَصيرَ الأَظْماءْ
وَظِمْءُ الحَياةِ مَا بَيْنَ سُقُوطِ الوَلَدِ إِلَى وَقْتِ مَوْتِهِ وظِمْءُ الحِمَارِ حياتُهُ وُضْرَبُ بِهِ المَثَلُ في القِصَرِ يُقَالُ: ما بَقِيَ مِنْ َحياةِ فُلانٍ إِلَّا ظِمْءُ حِمَارٍ، أَيْ: لَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِهِ إِلَّا اليَسيرَ لِأَنَّ الحِمارَ أَقْصَرُ الدَّوَابِّ عُمْرًا، كَمَا هُوَ أَقَلُّها صَبْرًا عَلى العَطَشِ، وَالمَظْمَأُ مَوْضِعُ الظَّمِإِ مِنَ الأَرْضِ قَالَ الشاعرُ أَبو حِزامٍ العُكْلِيُّ:
وخِرْقٍ مَهارِقَ ذِي لُهْلُهٍ ......................... أَجَدَّ الأُوامَ بِهِ مَظْمَؤُهْ
الخِرْقُ: المُتَّسِعُ، و "مَهَارِقَ: جَمْعُ مُهْرَقٍ: وهوَ الصَّحرَاءُ المَلْسَاءُ. ولَهْلَهٌ، ولُهلُهٌ: وَاسِعٌ مُسْتَوٍ. وأَجدَّ جَدَّدَ، وَوَجْهٌ ظَمْآنُ قَليلُ اللَّحْمِ لَزِقتْ جِلْدَتُهُ بِعَظْمِهِ، وَقَلَّ مَاؤُهُ قَالَ المُخَبَّلُ:
وتُرِيكَ وَجْهًا كالصَّحِيفَةِ لَا .................... ظَمْآنُ مُخْتَلَجٌ ولا جَهْمُ
وساقٌ ظَمْأَى: مُعْتَرِقةُ اللَّحْمِ، وعَيْنٌ ظَمْأَى رَقِيقَةُ الجَفْنِ، وَريحٌ ظَمْأَى: حارَّةً ليس فيها نَدى قالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ السَّرابَ:
يَجْرِي فَيَرْقُدُ أَحْيانًا ويَطْرُدُه ............ نَكْباءُ ظَمْأَى مِنَ القَيْظِيَّةِ الهُوجِ
قَوْلُهُ: {وَلَا تَضْحَى} لَا يُصِيبُكَ الضُّحَى؛ وَهُوَ حَرُّ الشَّمْسِ. أَيْ: وأَنَّكَ لَا تَبْرُزُ للشَّمْسِ فَتُؤذيكَ بِحَرِّهَا. وأَيْضًا "لَا تَضْحى" لا تَعْرَقُ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فيما أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ المُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ: لَا تُصِيبُكَ الشَّمْسُ وَأَذَاهَا. الدُرُّ المنثورُ للسُّيوطيِّ: (5/605). ذَلكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الجَنَّةِ شَمْسٌ، وإنَّما هوَ ظلٌّ ممدودٌ لَأَهْلها يَتَنَعَّمُونَ فِيهِ.
و "تَضْحَى" مِنْ "ضَحَا" كَ "سَعَى" وَ "ضَحِيَ": "ضَحْوًا" وَ "ضَحْيًا" كَ "رَضِيَ" إِذَا أَصَابَتْهُ الشَّمْسُ، وَيُقالُ ضَحَا: "ضَحْوًا" و ضَحَوًا وَضَحْيًا: إِذَا بَرَزَ لَهَا، قالَ عُمَرُ بْنُ أَبي رَبِيعَةَ:
رَأَتْ رَجُلًا أَمَّا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ .... فَيَضْحَى وَأَمَّا بِالْعَشِيِّ فَيَحْضُرُ
فَالْظَّمَأُ: هُوَ حَرُّ البَاطِنِ. والضَّحَى: هوَ حَرُّ الظَّاهِرِ.
لَقَدْ كانَ آَدَمُ مُنَعَّمًا فِي الجَنَّةِ، وَلَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ ذَلِكَ إِلَّا حِينَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الجُوعُ والعَطَشُ وَالبَلاءَ في حَيَاتِهِ عَلَى الأَرْضِ، فكانَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، إِذَا تَعَرَّضَ لِنَوْعٍ مِنَ البَلَاءِ جَهِشَ للبُكاءِ، فيأتيهِ جِبْريلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَيَقُولُ لَهُ: رَبُّكَ يُقْرِئِكُ السَّلامَ وَيَقُولُ لَكَ: لِمَ تَبْكِي؟. فَكَانَ يُذَكِّرُ جِبْريلَ وَيَقولُ: أَهَذَا الَّذي قُلْتَ: "وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلا تَضْحَى".
قوْلُهُ تَعَالى: {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا} الواوُ: عاطِفَةٌ، وَ "أَنَّكَ" أَنَّ: حَرْفٌ نَاصِبٌ، نَاسِخٌ، مُشَبَّهٌ بِالْفِعْلِ للتَّوْكيدِ، وَكافُ الخِطابِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. وَ "لَا" نَافِيَةٌ لَا عَمَلَ لَهَا. وَ "تَظْمَأُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجَازِمِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجُوبًا تَقْديرُهُ: (أَنْتَ) يَعُودُ إِلَى آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَ "فِيهَا" في: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَظْمَأُ"، وَ "هَا" ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محالِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ. والجُملَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في محلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ "إِنَّ" مِنَ الآيَةِ الَّتي قَبْلَها عَلَى كَوْنِها مَقُولَ القَوْلِ لِـ "قُلْنَا" والمَصْدَرُ المُؤَوَّلُ مِنْ "إِنَّكَ لَا تَظْمَأُ" فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى المَصْدَرِ المُؤَوَّلِ السَّابِقِ، اسْمُ "إِنَّ".
قَوْلُهُ: {وَلَا تَضْحَى} الوَاوُ: حَرْفُ عَطْفٍ، و "لَا" نافيَةٌ، و "تَضْحَى" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ضمَّةٌ مُقَدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِها عَلَى الأَلِفِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجُوَبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ إِلَى آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والجُمْلةُ في مَحَلِّ الرَّفعِ عَطْفًا عَلَى "لَا تَظْمَأُ" عَلَى كَوْنِها خَبَرًا لِـ "إِنَّ".
قَرَأَ العامَّةُ: {وَأَنَّكَ} بفتْحِ الهَمزةِ عَلَى مَعْنَى البِنَاءِ. وَقَرَأَ نَافِعُ وَعَاصِمٌ ـ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ بْنِ العَرَبيِّ عَنْهُ: "وَإِنَّكَ" بكَسْرِ الهَمْزَةِ عَلَى مَعْنَى الابْتِداءِ. وَجَازَ أَنْ تَكُونَ "إِنَّ" بِالْفَتْحِ اسْمًا، لِـ "إِنَّ" بِالْكَسْرِ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ، حَتَّى لَوْ قُلْتَ: إِنَّ أَنَّ زَيْدًا قائِمٌ لَمْ يَجُزْ، فَلَمَّا فُصِلَ بَيْنَهُمَا جَازَ، فَتَقُولَ: إِنَّ عِنْدِي أَنَّ زَيْدًا قائِمٌ، فَـ "عِنْدِي" هُوَ الخَبَرُ قُدِّمَ عَلَى الاسْمِ، وَهُوَ "أَنَّ" وَمَا في حَيِّزِهَا، لِكَوْنِهِ ظَرْفًا، وَالآيَةُ مِنْ هَذَا القَبيلِ، إِذِ التَّقْديرُ: وَإِنَّ لَكَ أَنَّكَ لَا تَظْمَأُ.