وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا
(113)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} قِيلَ: هُوَ عَطْفُ نَسَقٍ عَلَى قوْلِهِ في الآيةِ: 99، السَّابِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركَةِ: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ}، أَيْ: وَمِثْلُ ذَلِكَ الإِنْزَالِ، وَكَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ تِلكَ الآياتِ أَنْزَلْنا عليكَ القُرْآنَ عَربيًا كُلَّهُ. وقيلَ التقديرُ: كَمَا أَنْزَلْنَا مَا ذُكِرَ مِنَ البَيَانِ الحَقِّ الذي سَلَفَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ، كَذَلِكَ أَنْزَلْنَا القُرْآنَ كُلَّهُ بِأُسْلُوبٍ عَرَبِيٍّ وَاضِحٍ. وَقيلَ المَعْنَى: كَمَا قَدَّرْنَا هَذِهِ الأُمُورَ وَجَعَلْناهَا حَقِيقَةً بالمِرْصادِ لِلْعِبادِ، كَذَلِكَ حَذَّرْنَا هَؤُلاءِ وَأَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا. وَأَيًّ كانَ التقديرُ فالْغَرَضُ وَاحِدٌ، وَهُوَ التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ. فَابْتُدِئَ بِالتَّنْوِيهِ بِهِ جُزْئِيًّا بِالتَّنْوِيهِ بِقَصَصِهِ، ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ التَّنْوِيهُ بِهِ كُلِّيًّا عَلَى طَرِيقَةٍ تُشْبِهُ التَّذْيِيلَ لِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "أَنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا" مِنْ مَعْنَى عُمُومِ مَا فِيهِ. وَالْإِشَارَةُ بِـ "كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ" كَالْإِشَارَةِ بِـ {كَذلِكَ نَقُصُّ}.
و "قُرْآنًا" هي تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ، والتَنْكيرُ يُفِيدُ الْكَمَالَ. أَيْ: الْمَقْرُوءُ، أَوْ الْمَتْلُوُّ، فقد صَارَ "الْقُرْآنُ" عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُتَعَبَّدًا بِتِلَاوَتِهِ يَعْجِزُ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ سُورَةٍ مِنْهُ، أَوْ آيةٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نُظِمَ بِلِسَانٍ عربيٍّ صَرْفٍ، سَهْلِ الأُسْلُوبٍ، فَصَيحِ اللُّغَةِ، مُتَنَاسِبِ الحُرُوفِ، سَلسِ النَظْمِ، سَهْلِ التِّلَاوَةِ.
ولا يُنْظَرُ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ فيهِ بَعْضُ المُفْرَدَاتِ مِنْ أُصولٍ غيرِ عَرَبِيَّةٍ، وكيفُ يكونُ فيهِ ما هُوَ غيرُ عَرَبيٍّ وَالذي أَنْزَلَهُ يَقُولُ "أَنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا"!.
أَمَّا كونُ هَذِهِ المُفرداتِ سُمِعَتْ في بَعْضِ اللُّغاتِ ولمْ تُسْمَعْ مِنْ عَرَبِ الجاهليَّةِ، فلأَنَّ العربَ أَهملوها فَنُسِيتْ عندَهُمْ لِغِنَى لُغَتِهِمْ، بَيْنَمَا تَسَرَّبتْ إلى غيرِهِمْ مِنَ الأُمَمِ وتَداوَلوها فيما بينَهُم.
وَوَصْفُ القرآنِ بِهَذهِ الصِّفةِ مَديحٌ لَهُ، لِأَنَّ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ أَبْلَغُ اللُّغَاتِ وَأَحْسَنُهَا فَصَاحَةً وَانْسِجَامًا، وَكَيْفَ لا تكونُ كذلكَ وهي لُغَةُ القرْآنِ الكَريمِ خاتمِ الكُتُبِ السَّماويَّةِ وَصَفْوَتِها وأَكْمَلِهَا، المُنَزَّلِ عَلَى حبيبِ ربِّ العالمينَ، خاتَمِ المُرْسَلِينِ، وخَيْرِ خَلْقِ اللهِ أَجْمعينَ. وَالقُرْآنُ كَلامُ اللهِ ـ عَزَّ وَعَلَا وَجَلَّ.
وَفِي الآيَةِ امْتِنَانِ عَلَى الْعَرَبِ، وَ تَعْرِيضٌ بالْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ لأنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَكَذَّبُوا بِهِ، وقَدْ مَنَّ عَلَيهِمْ بذلكَ مَرَّةً أُخْرَى فقالَ في الآيةِ: 10، مِنْ سُورةِ الأَنبياءِ: {لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}.
قوْلُهُ: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} صَرَّفْنا: أَيْ كَرَّرْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ بِالأُمورِ المُخَوِّفَةِ، كَمَا كَرَّرْنَا فِيهِ مِنَ الوَعْدِ بِالأَشَياءِ المُفْرِحَةِ، وكلُّ ذَلِكَ بِعِبَاراتٍ شَتَّى، تَصْرِيحًا حينًا، وَتَلْويحًا حِينًا آخَرَ، وبِضَرْبِ الأَمْثَالِ، وَإِقَامَةِ الأدِلَّةِ والبَراهينِ والجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَنْزَلْناهُ".
وقالَ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: يَعْنِي: وَقائِعَهُ فِي الأُمَمِ المُكَذِّبَةِ.
قوْلُهُ: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} عَذابَ رَبِّهِمْ بِعَدَمِ الإِشْراكِ بِهِ، وتَرْكِ محارمِهِ والقيامِ بما أَوْجَبَ عَلَيْهِم، لأَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ الوَعِيدِ بَيَانُ الفَرَائِضِ والمَحَارِمِ، والكُفْرِ والمَعَاصِي لِتعلُّقِ الوَعِيدَ بِهِمَا، فَتَكْريرُهُ وَتَصْريفُهُ يَقْتَضي بَيَانَ الأَحْكامِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: "لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ"
قوْلُهُ: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} أَيْ: أَوْ يُحدِثُ لَهُم فِي أَنْفُسِهِ تَذَكُّرًا لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ طاعةٍ لِرَبِّهِمْ، وَمَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنْ عقابٍ في حَالِ مُخالَفتِهِمْ لَهُ، فَيَجِدوا لَهُمْ بتلاوةِ القرآنِ مَا يُوقِظُهُمْ مِنْ غَفْلَتِهِمْ، وَيَزيدُهُمُ اتِّعاظًا واعْتِبَارًا عِنْدَ اطِّلاعِهم عَلى أَسْبَابِ إِهْلَاكِ مَنْ كانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الأُمَمِ اعْتِبارًا يُؤَدِّي إِلى بِهِمْ إلى التَّقْوَى، وَيُرَغِّبُهُمْ في الطَّاعَةِ، وسُلُوكِ سبيلِ تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى، والاكْتِفاءِ بِمَا أَحَلَّ اللهُ لَهُمْ. أَيْ: عِظَةً واعْتِبَارًا يُؤَدِّيانِ إِلَى اتِّقاءِ عَذابِ اللهِ في الآخِرَةِ، فإِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ التَّقْوَى هِيَ بالذَّاتِ المَطْلُوبَ الأَوَّلَ مِنْهُمْ أَسْنَدَ فِعْلَهَا إِلَيْهم، وَغَيَّرَ الأُسْلُوبَ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الذِّكْرُ كَذَلِكَ.
وَقِيلَ: المُرَادُ بِالتَّقْوى مَلَكَتُها، وَقدْ أُسْنِدَتْ إِلَيْهِمْ لِأَنَّها مَلَكَةٌ نَفْسانِيَّةٌ تُنَاسِبُ الإِسْنَادَ لِمَنْ قَامَتْ بِهِ. وَالمُرادُ بِالذِّكْرِ العِظَةُ الحاصِلَةُ مِنِ اسْتِمَاعِ القُرْآنِ المُثَبِّطَةِ عَنِ المَعَاصِي، وَلَمَّا كَانَتْ العِظَةُ أَمْرًا مُتَجَدِّدًا باسْتِمَاعِ القُرآنِ، نَاسَبَ الإِسْنَادُ إِلَيْهِ.
وَقَدْ وَصَفَ اللهُ ـ تَعَالى، الذِّكْرَ بِالحُدوثِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَاسِبُ تَجَدُّدَ الأَلْفاظِ المَسْموعَةِ.
وَ "أَوْ" هنا كَمَا هي في قَوْلِهِمْ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ. أَيْ لَا تَكُنْ خالِيًا مِنْهُمَا. وَيَجوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّا أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ لِيَتَّقُوا، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُحْدِثَ الْقُرْآنُ لَهُمْ صِيتًا وَذِكْرًا حَسَنًا، وَشَرَفًا عظيمًا.
وَقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: "ذِكْرًا" مَوْعِظَةً فَيَنْتَفِعونَ بِهَا. أَيْ: يُحَدِّدُ لَهُمُ القُرْآنُ الكَريمُ ذِكْرًا وَاعْتِبَارًا واتِّعَاظًا فَيَتَذَكَّروا بِهِ عِقابَ اللهِ لِمَنْ كانَ قبلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ المُكَذِّبَةِ فَيَعْتَبِرُوا وَيَتَفَكَّرُوا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ قَتَادَةَ، فَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِم، عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا" قَالَ: الْقُرْآن "ذِكْرًا" قَالَ: جِدًّا وَوَرَعًا. الجَامِعُ لِأَحْكامِ القُرْآنِ للإمامِ القُرْطُبيِّ: (11/255)، والدُّرُّ المَنْثُورُ للإمامِ السُّيوطيِّ: (4/552)، رَحِمَهُما اللهُ تعالى.
وَذَكَرَ الفَرَّاءُ في قولِهِ تَعَالَى "أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا" قَوْلينِ هُمَا للِإمامِ الكَلْبِيِّ ـ رَضيَ اللهُ عِنْهُ، أَوَّلُهُما: يَقُولُ: (لَو أَخَذوا بِهِ كَانَ القُرْآنُ لَهُمْ شَرَفًا بِإِيمانِهم بِهِ)، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالى مِنْ سورةِ الزُّخْرُف: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} الآيةَ: 44، وَالثاني: "أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا" أَيْ عَذابًا يَتَذَكَّرُونَ حُلولَ العَذَابِ الذي وُعِدُوهُ. "مَعَانَي القُرْآنِ" للإمامِ الفَرَّاءِ: (2/193).
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وَكَذَلِكَ: الواوُ: عَاطِفَةٌ، وَ "كَذَلِكَ" الْكَافُ: حَرْفٌ للجَرِّ والتَشْبيهِ، مُتَعَلِّقٌ بِنَعْتٍ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، والتقديرُ: وأَنزَلْنا القرآنَ عَرَبِيًّا كُلَّهُ إِنْزَالًا مِثْلَ إِنْزَالِ هَذِهِ الآياتِ المُتَضَمِّنَةِ لِأَحْوَالِ يَوم القيامة، وَ "ذَا" اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، وَاللامُ للبُعْدِ، والكافُ الثَّانِيَةُ للخِطَابِ. وَ "أَنْزَلْنَاهُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نَا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، و "نَا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ عَلى المَفْعُولِيَّةِ. وَ "قُرْآنًا" مَنْصُوبٌ عَلَى الحَالِ مِنْ ضَمِيرِ المَفْعُولِ فَي "أَنْزَلْنَاهُ". وَ "عَرَبِيًّا" صِفَةٌ لـ قُرْآنًا" مَنْصوبةٌ مِثْلُهُ. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} الآيةَ: 99، السَّابقةِ عَلَى كَوْنِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} وَصَرَّفْنَا" الواوُ: حَرْفُ عَطْفٍ، و "صَرَّفْنا" فِعْلٌ ماضٍ وفاعِلُهُ مثلُ "أَنْزَلْنَا" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. و "فِيهِ" في: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "صَرَّفْنَا"، والهاءُ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِمَفْعولٍ بِهِ مَحْذوفُ؛ والتَّقْديرُ: صَرَّفْنَا فِيهِ وَعِيدًا مِنَ الوَعيد. والْوَعِيدِ مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِ، والجمْلةُ معطوفةٌ عَلى جُمْلَةِ "أَنْزَلْنَا" لا محلَّ لها مِنَ الإعراب.
قوْلُهُ: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} لَعَلَّهُمْ: حرفٌ ناصِبٌ ناسَخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. و "يَتَّقُونَ" فعلٌ مُضارعٌ مَرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعليَّةِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "لَعَلَّ"، وَجُمْلَةُ "لَعَلَّ" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِلَامِ التَّعْلِيلِ المُقَدَّرَةِ لِأَنَّ "لَعَلَّ" هُنَا لِلتَّعْلِيلِ؛ أَيْ: لِكَيْ "يَتَّقُونَ".
قوْلُهُ: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} أَوْ: حَرْفُ عَطْفٍ للتَّنْويعِ، و "يُحْدِثُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَمْيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى القُرْآنِ الكَريمِ. و "لَهُمْ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُحْدِثُ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ علامَةُ الجَمْعِ المُذكَّرِ. و "ذِكْرًا" مَفْعولُهُ منصوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلَّ الرَّفْعِ عَطْوفًا عَلَى جُمْلَةِ "يَتَّقُونَ" عَلَى كونِها خَبَرَ "لَعَلَّ".
قَرَأَ العامَّةُ: {أَوْ يُحْدِثُ} بالرَّفعِ عَطْفًا عَلَى "يَتَّقُونَ". وَقَرَأَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، "أَوْ يُحْدِثْ" بِسكونِ آخِرِهِ، وَقَرَأَ عبدُ اللهِ بْنُ مَسْعودٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبو حَيَوَةَ، وَالحَسَنُ ـ فِي رِوَايَةٍ، والجَحْدَرِيُّ، وَسَلام: "أَوْ نُحْدِثْ" بالنُّونِ وَسُكونِ الثَّاءِ وَذَلِكَ حَمْلَ وَصْلٍ عَلَى وَقْفٍ أَوْ تَسْكِينِ حَرْفِ الإِعْرَابِ اسْتِثْقالًا لِحَرَكَتِهِ وَهَذا كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ المُؤْمنُون: {فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} وهو خَتْمٌ للقَوْلِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ صِفَةَ سُلْطانِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَعِظَمَ قُدْرَتِهِ، وَذِلَّةَ عَبيدِهِ، وَحُسْنَ تَلَطُّفَهَ بَهَمْ، خَتَمَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الكَلِمَةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ "منَ السَّريع":
فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُنْتَحْقِبٍ ..................... إِثْمًا مِنَ الله وَلاَ وَاغِلِ
فَسَكَّنَ الباءَ مِنْ "أَشْرب" ومثلُهُ قولُ جَريرِ بْنِ عطيَّةَ:
سِيرُوا بَنِي العَمِّ فَالْأَهْوازُ مَنْزِلُكمْ ........ وَنَهْرُ تِيريِ وَلَا يَعْرِفْكُمُ العَرَبُ