وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا
(111)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ} أَيْ: تَعْنُوا الْوُجُوهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ، وَيَكونُ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَالْقَهْرُ كُلُّهُ للهِ ـ جلَّ وَعَلَا، وَحْدَهُ دُونَ أَحَدٍ مِنْ خلقِهِ، كما هوَ ظاهِرُ الحَالِ في الحياةِ الدُنيا.
وَ "عَنَتْ" خَضَعَتْ وَذَلَّتْ وَمِنْ "الْعَنْوِ" أَيْ الأَسْرِ، وَمنْهُ "الْعَانِي" وَهُوَ الْأَسِيرُ وَالذَّلِيلُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ ذَلِيلًا بالأَسْرِ، فَيُقَالُ: عَنَا يَعْنُو عَنَاءً إِذَا صَارَ أَسِيرًا. قالَ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، فيما أَخْرَجَ البُخَارِيُّ وغيرُهُ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: قالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ)). قَالَ سُفْيَانُ: وَالْعَانِي الْأَسِيرُ. قَالَ الشَّاعِرُ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ ............ لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الْوُجُوهُ وَتَسْجُدُ
وَقَالَ أَيْضًا:
وَعَنَا لَهُ وَجْهِي وَخَلْقِي كُلُّهُ .............. فِي السَّاجِدِينَ لِوَجْهِهِ مَشْكُورَا
وقالَ:
فَيَا رُبَّ مَكْروبٍ كَرَرْتُ وَرَاءَهُ .......... وَعَانٍ فَكَكْتُ الغُلَّ عَنْهُ فَفَدَّاني
وَ "عَنَا فِيهِمْ فُلَانٌ" أَسِيرًا، أَيْ قَامَ فِيهِمْ عَلَى إِسَارِهِ وَاحْتَبَسَ. وَعَنَّاهُ غَيْرُهُ تَعْنِيَةً حَبَسَهُ. وَالْعَانِي الْأَسِير وُكُلُّ مَنْ ذَلَّ واسْتَكانَ، فَقَدْ عَنَا، وَالجَمْعُ "عُناةٌ"، وَالأُنْثَى عانِيَةٌ والجَمْعُ "عَوَانِي. فقد أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الأَحْوَصِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ. لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ. فَإِنْ فَعَلْنَ، فَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبرِّحٍ. فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ، فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا. أَلاَ إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَحَقُكمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوَطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ، أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ: أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ)). أَخْرَجَهُ أَبو عيسَى التِّرْمِذِيُّ في "السُّنَنِ" برقم: (1163)، وَقالَ: حَديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وابْنُ مَاجَهْ بِرَقَم: (1851)، وَالنَّسائِيُّ في "عَشْرَةِ النِّسَاءِ" بِرقم: (287) ولهُ شاهِدٌ ضَعيفٌ عَنْدَ الإمامِ أَحمدٍ في "المُسْنَدِ": (5/72 ـ 73)، مِنْ حَديثِ عَمِّ أَبِي حُرَّةَ الرَّقاشِيِّ. فَفي هذا الحديث الشَّريفِ شَبَّهَ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، المَرْأَةَ فِي دُخُولِهَا تَحْتَ حُكْمِ الزَّوْجِ بِالأَسِيرِ.
وَ "عَنَا الأَمْرُ عَلَيْهِ": شَقَّ. وَعَنَتْ أُمُورٌ نَزَلَتْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "عَنَتِ" ذَلَّتْ. أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَن مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَعَنَتِ الْوُجُوهُ" قَالَ: خَشَعَتْ. وَقَالَهُ أَيْضًا مُجَاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. قالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الذُّلِّ وَالْخُشُوعِ ـ وَإِنْ تَقَارَبَ مَعْنَاهُمَا، أَنَّ الذُّلَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِيلَ النَّفْسِ، وَالْخُشُوعَ أَنْ يَتَذَلَّلَ لِذِي طَاعَةٍ.
وَأَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "وَعَنَتِ الْوُجُوهُ للحَيِّ القَيُّومِ" فقَالَ: اسْتَسْلَمَتْ، وخَضَعَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. أَمَا سَمِعْتَ الشَّاعِرَ حَسَّانَ بْنَ ثابِتٍ الأنْصاريِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَهُوَ يَقُولُ:
لَبَّيْكِ عَلَيْكَ كُلُّ عَانٍ بِكُرْبَةٍ ............. وآلُ قُصَيٍّ مِنْ مُقِلٍّ وَذِي وَفْرِ
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبي الْعَالِيَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَعَنَتِ الْوُجُوهُ للحَيِّ القَيُّومِ"، قَالَ: خَضَعَتْ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: "عَنَتِ" أَيْ عَلِمَتْ. وَقالَ عَطِيَّةُ العَوْفِيُّ: اسْتَسْلمَتْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَعَنَتِ الْوُجُوهُ للحَيِّ القَيُّومِ"، قَالَ: الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ. وَقالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ: إِنَّهُ وَضْعُ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ عَلَى الْأَرْضِ فِي السُّجُودِ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ. وَرَوَى مِثْلَهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ تَعَالى عَنْهُمَا: "وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ" قَالَ: الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ.
وقال النَّحَّاسُ: "وَعَنَتِ الْوُجُوهُ" فِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا فِي الْآخِرَةِ. وَمَعْنَى "عَنَتِ" فِي اللُّغَةِ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ، وَمِنْهُ فُتِحَتِ الْبِلَادُ عَنْوَةً أَيْ: غَلَبَةً، قَالَ الشَّاعِرُ كُثَيِّرُ عَزَّةَ:
فَمَا أَخَذُوهَا عَنْوَةً عَنْ مَوَدَّةٍ ........... وَلَكِنَّ ضَرْبَ الْمَشْرَفِيِّ اسْتَقَالَهَا
وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْعَنَاءِ بِمَعْنَى التَّعَبِ.
وَ "الوجوهُ" والأُجُوهُ، والأَوْجُهُ: جَمعُ "وَجْهٍ"، الوَجْهُ مَعْرُوفٌ، وهُوَ أَشْرَفُ وَأَكْرَمُ شَيْءٍ فِي تَكْوينِ الإِنْسانِ، ولِذَلِكَ نَهَى الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، عنْ لَطْمِ الوَجْهِ مُطْلَقًا سَوَاءً أَكانَ ذَلِكَ فِي تَأْديبِ المَرْأَةِ، أَوِ الغُلَامِ، أَوِ العَبْدِ، أَوْ في إِقامَةِ حَدٍّ مِنْ حُدودِ اللهِ، أَوْ في قِتَالِ العَدوِّ، أَوْ غيْرِ ذَلِكَ. فَقَدْ أَخرجَ الإمامُ أَحْمَدٌ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنَّهُ قالَ: ((إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبْ الْوَجْهَ، فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِه)). وأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، أَنَّهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ تُضْرَبَ الصُّوَرُ يَعْنِي الْوَجْهَ. وأخْرَجَ في مُسْنَدِهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ((إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَجَنَّبْ الْوَجْهَ وَلَا تَقُلْ قَبَّحَ اللهُ وَجْهَكَ وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وَجْهَكَ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ)). وَأَخْرَجَهُ الحاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكيمُ بْنُ مُعاوِيَةَ القُشَيْرِيَّ، عَنْ أَبِيهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قالَ: ((أَنْ يُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمَ، وَيَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَى، وَلَا يَضْرِبُ الوَجْهَ، وَلَا يُقَبِّحُ، وَلَا يَهْجُرُ إِلَّا فِي البَيْتِ)). وقالَ: هَذَا حَديثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجاهُ. وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبْ الْوَجْهَ)). ولفظُ مُسْلِمٍ: ((إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبْ الْوَجْهَ فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِه)). وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عبدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ الضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ وَعَنْ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ. حَتَى أَنَّهُ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ، حَرَّمَ أَنْ يُفعَلَ ذَلِكَ بِالحَيَوَانِ، فَقَدْ أَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: ((لَعَنَ اللهُ الَّذِي وَسَمَهُ)). كَمَا رَوَى مِثلَهُ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُما. فَالوَجْهُ وَهُوَ الذي يُعْطِي الإِنْسانَ سِمَتَهُ التي تُمَيِّزُهُ عَنْ غيرِهِ؛ وَلِذَلِكَ، كَانَ السُّجُودُ للهِ تَعَالَى فِي الصَّلاةِ عَلامَةَ الخُضُوعِ والخُشُوعِ والذِّلَّةِ والانْكِسَارِ لَهُ ـ تباركَ وَتَعَالى، فَإِنَّ العَبْدَ يَضَعُ أَشْرَفَ أَعضائِهِ عَلَى الأَرْضِ إِقرارًا بِعَظَمَتِهِ تَعَالَى وأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ هَذَا السُّجُودَ. ووَجْهُ كُلِّ شَيْءٍ: ما يَسْتَقْبِلُكَ مِنْهُ، قالَ تَعَالَى في الآيةِ: 115، مِنْ سُورَةِ البقرةِ: {فأَيْنَما تُوَلُّوا فثَمَّ وَجْهُ اللهِ}، والوَجْهُ: المُحَيَّا، وقولُهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الروم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} الآيةَ: 30، أَي: اتَّبِعْ دِّينَ اللهِ القَيِّمَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ في الآيَةِ الَّتي تَلِيهَا: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} الآيةَ: 31، ووَجْهُ البَيْتِ: الخدُّ الَّتِي يَكونُ بَابُهُ فِيهَا، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِخَدِّ البَيْتِ الحَرَامِ الذي فِيهِ بابُهُ: وَجْهُ الكَعْبةِ، وَوُجُوهُ البَلَدِ أَشْرَافُهُ، ووُجُوهُ القومِ سَادَتُهُمْ وَاحِدُهُمْ وَجْهٌ، وُوُجَهَاؤهم وَاحِدُهُمْ وَجِيهٌ، وَوَجْهُ الرَّأْيِ هُوَ الرَّأْيُ نَفْسُهُ، وَالوَجْهُ الجِهَةُ، والوِجْهَةُ والوُجْهَةُ بِكَسْرِ الواوِ وَضَمِّهَا وَقَعَدَ تُجاهَهُ أَيْ تِلْقاءَهُ، وَالمُواجَهَةُ: المُقابَلَةُ، وَالمُواجَهَةُ أَيْضًا اسْتِقْبالُكَ الآخَرَ بِكَلامٍ أَوْ وَجْهٍ، وتواجَها: تَقَابَلَا. ووَجْهُ الفَرَسِ مَا أَقْبَلَ عَلَيْكِ مِنْ رَأْسِها دونَ مَنَابِتِ الشَّعْرِ، وَوَجْهُ النَّهَارِ أَوَّلُهُ. وَكانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ، أَيْ أَوَّلِهِ، قالَ تَعَالَى مِنْ سُورةِ آل عِمْرانَ: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} الآيةَ: 72. وَوَجْهُ الكَلامِ ما يُقْصَدُ بِهِ، وصَرَفَ الشَّيْءَ عَنْ وَجْهِهِ أَيْ: سَنَنِهِ، وَجِهَةُ الأَمرِ وجَهَتُهُ ووِجْهَتُه ووُجْهَتُهُ وَجْهُهُ، والاسْمُ الوِجْهَةُ والوُجْهَةُ بِكَسْرِ الوَاوِ وَضَمِّهَا، والوِجْهَةُ، وَالوُجُهَةُ القِبْلَةُ وَشِبْهُها فِي كُلِّ وُجْهَةٍ، أَيْ فِي كُلِّ وَجْهٍ اسْتَقْبَلْتَهُ، ووجَّهْتُ وجْهِيَ للهِ، وَتَوَجَّهْتُ نَحْوَكَ، وَإِلَيْكَ. وَيقالُ للمٌنَافِقِ الذي يُظهِرُ خلافَ ما يُبْطِنُ: ذُو الوَجْهَيْنِ، لأنَّهُ يَلْقَى المُؤمنينَ بِخِلافِ مَا فِي قَلْبِهِ. وَذَكَرَ اللهُ تَعَالَى: الْوُجُوهُ وَأَرَادَ الْمُكَلَّفِينَ أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: "عَنَتِ" العُنُوَّ مِنْ صِفَاتِ الْمُكَلَّفِينَ لَا مِنْ صِفَاتِ الْوُجُوهِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ الغاشِيَةِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ} الْآيَتَانِ: (8 و 9)، وَإِنَّمَا خَصَّ الْوُجُوهَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْخُضُوعَ فيها يَظْهَرُ وبِها يُتَبَيَّنُ.
إِذًا فمِنْ أَوْجُهِ تَفْسيرِ هَذِهِ الجُمْلَةِ الكَريمةِ أَنْ يَكونَ ذِكْرُ الوُجُوهِ، كِنَايَةً عَنْهُمْ أَنْفُسِهِمْ؛ لِمَا يَظْهَرُ عَلَى الْوُجُوهِ مِنَ الخُضُوعِ وَالذُّلِّ وَالهَوَانِ، فَقَدْ كَنَّى بِوُجوهِهِمْ عَنْ ذَوَاتِهُمْ. فَإِنَّ أَبا إِسْحاقَ الزَجَّاجُ قالَ في تَفْسِيرِ قوْلِهِ ـ جَلَّ وَعَزَّ، مِنْ سُورةِ القصَصِ: {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} الآيةَ: 88، قال: أَرادَ إِلَّا إيَّاهُ، وَفِي الحَدِيثِ الشَّريفِ الذي أَخْرجهُ البُخاريُ وغيرُهُ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قالَ ((لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ))، فإنَّ المُرادَ وُجُوهُ القُلُوبِ، وَكَذلك حَديثُ أَبِي مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، الذي أخرجَهُ مُسْلِمٌ في صحيحِهِ، وأخْرَجَهُ غيرُهُ أَيْضًا، فَأَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ: ((اسْتَوُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)). فَإِنَّ المَقْصُودَ باخْتِلافِ القُلوبِ في هَذا الحديثِ الشَّريفِ اخْتِلافُ هَوَاهَا وَإِرادَتُهَا. وأَخْرَجَ الأَئِمَّةُ ـ رَحِمُهُمُ اللهُ تَعَالَى: عَبْدُ الرَّزَّاقِ في مُصَنَّفِهِ، وَأَحْمْدُ في كِتَابِ الزُّهْدِ مِنْ مُسْندِهِ، وَأَبو دَاوُدَ في "بابُ الزَّهْدِ" مِنْ سُنَنِهِ، وَغَيْرُهُمْ، عَنْ أَبي الدَّرْداءِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: لَا تَفْقَهُ كُلَّ الفِقْهِ حَتَّى تَرَى للْقُرْآنِ وُجُوهًا كَثِيَرة؛ يَعْنِي: لَا تَكونُ فَقِيهًا كامِلًا حَتَّى تَفْهَمَ مِن كُلِّ لَفْظٍ مَعَانيَ كَثيرةً. أَيْ: تَرَى لَهُ مَعَانيَ يَحْتَمِلُهَا، فَتَهابَ الإِقْدامَ عَلَيْهِ.
قوْلُهُ: {لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} الحَيُّ: مِنْ أَسْمائِهِ الحُسْنَى ـ عَزَّ وجَلَّ، وَ "الحَيُّ": ضِدُّ المَيِّتِ، ويُجْمَعُ عَلَى حَيَوَا، قالَ الشَّاعِرُ أَبو حُزَابَةَ الوليدُ بْنُ حَنيفَةَ التَمِيمِيُّ، مِنْ شُعَرَاءِ الدَّوْلَةِ الأُمَوِيَّةِ، أَوْ مَوْدودٌ العَنْبَرِيُّ:
وكُنَّا حَسِبْناهُمْ فَوارِسَ كَهْمَسٍ ...... حَيوا بعد ما ماتُوا مِنَ الدَّهْرِ أعْصُرا
والحَيَوانُ خلاف المَوَتانِ. والتَحِيَّةُ: المُلْكُ. قال الشاعرُ زُهَيْرُ بْنُ جَنَابٍ الكَلْبِيِّ:
ولَكُلُّ ما نالَ الفَتَى ................................ قَدْ نِلْتُهُ إِلَّا التَحِيَّهْ
أَيْ: المُلْكُ، يَقُولُ إِنَّهُ نالَ كلَّ شيءٍ نالَهُ رَجُلٌ ذو همَّةٍ عاليَةِ في هَذِهِ الحياةِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يكُنْ مَلِكًا. وَإِنَّما أُدْغِمَتْ لأَنَّهَا على وزنِ "تَفْعِلَةٌ" والهاءُ لازِمَةٌ. قَالَ الشاعِرُ الفارسُ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرْبَ الزّبيدِيُّ:
أَسِيرُ بِهِ إِلَى النُّعْمانِ حَتَّى ...................... أُنِيخَ عَلَى تَحِيَّتِهِ بِجُنْدِ
قوْلُ الشَّاعِرِ: "عَلَى تَحِيَّتِهِ" يَعني: عَلَى مُلْكِهِ. وَقَوْلُكَ: حَيَّاكَ اللهُ، أَيْ: مَلَّكَكَ اللهُ. وَقولُكَ وأنْتَ تقرَأَ التَشَهُّدَ في صَّلاتِكَ: التَحِيَّاتُ للهِ، مَعْنَاهُ: المُلْكُ للهِ. وَمعنَى قولِكَ "حَيَّ" أَيْ: "هَلُمَّ"، وَ قولُكَ: "حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الفَلَاحِ وأنْتَ تَرفعُ الأَذانَ للصَّلاةِ مَعْنَاهُ: هَلُمُّوا إِلَى الصَّلَاةِ، وَأَقْبِلوا لِتُصَلُّوا للهِ رَبِّكَم ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى. وَاسْمُ الفاعِلِ لِلرَّجُلِ: مُحَيِّيٌ، والمَرْأَةُ: مُحَيِّيَةٌ.
وَ "القيُّومُ" مِنْ أَسْماءِ اللهِ تَعَالَى الحُسْنَى وصِفَاتِهِ العُلَى. وهي صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنْ "قامَ"، وَهُوَ القائِمُ بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا لَا بِغَيْرِهِ، وَالقائمُ بِهِ كُلَّ مَوجودٍ حَتَّى لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ شَيْءٍ وَلَا دَوَامُ وُجُودِهِ إِلَّا بِهِ، وَالمُدَبِّرُ أَمْرَ خَلْقِهِ فِي إيجادِهِمْ وإمْدادِهِمْ بِكُلِّ مُقَوِّماتِ الحَيَاةِ مِنْ رِزْقٍ وغَيْرِهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِأَمْكِنَتِهِمْ وَجَمِيعِ شُؤونِهِمْ وَأَحْوالهم لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِمْ دَقَّ أَوْ جَلَّ، قالَ تَعَالَى في الآيةِ 5، مِنْ سُورةِ آل عِمْرانَ: {إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}، وقالَ في الآيةِ: 29، منها: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض}، وقالَ في الآيةِ: 126، مِنْ سورةِ النِّسَاءِ: {وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} وقالَ مِنْ سورةِ المائدةِ: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} الآيةَ: 97، وقالَ مِنْ سُورةِ يونُس: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَر} الآيةَ: 61، وقالَ مِنْ سُورةِ هودٍ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعلَم مُسْتَقَرَّها ومُسْتَوْدَعها} الآية: 6، إلى آخِرِ ذلِكَ مِنْ آياتٍ. وَقَالَ مُجَاهَدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "القَيُّومُ" القائَمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "القَيُّومُ": القائمُ عَلَى خَلْقِهِ بِآجالِهِمْ وَأَعْمالِهم، وأَرْزاقِهِمْ، وَقالَ الكَلْبِيَّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "القَيُّومُ" الذي لا بَدْءَ لَهْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "القَيُّومُ" القائمُ عَلَى الأشياءِ. وَكَذَلِكَ "القَيَّامُ" وَبِهِ قُرَأَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: وَهيَ لُغَةٌ. وجاءَ في حَديثِ الدُّعاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَقُولُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ، وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)). أَخْرجَهُ الأَئمَّةُ: مَالكُ بْنُ أَنَسٍ فِي "مُوَطَّئِهِ" بِرَقَمِ: (150)، وَالحُمَيْدِيُّ برقم: (495)، وَأَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (1/298، برقم: 2710)، والدَّارِمِيُّ برقم: (1486)، والبُخَارِيُّ في صحيحِهِ: (2/60، برقم: 1120)، ومُسْلِمٌ في صحيحِهِ: (2/184، برقم: 758)، وأَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ بِرَقم: (771)، وَابْنُ مَاجَةَ في سُنَنِهِ برقم: (1355)، والتِّرْمِذِيُّ برقم: (3418)، والنَّسائيُّ في "الكُبْرَى" برقم: (1321) وابْنُ خُزَيْمَةَ برقم: (1151). وَفِي رِوَايَةٍ: "قَيِّم" وَفِي أُخْرَى "قَيُّوم" وَهِيَ مِنْ أَبْنِيَةِ المُبَالَغَةِ وأَصْلُها مِنَ الواوِ: "قَيْوامٌ" بِوَزْن: فَيْعالٍ، و "قَيْوَمٌ" بوزْنِ فَيْعَلٍ، وَ "قَيْوُومٌ" بِوَزْنِ: فَيْعُولٍ.
وَ "الحَيُّ القيُّومُ" هوَ اسمُ اللهِ الأعظَمُ لما أَخْرجَ الإمامُ أحمدَ عَنْ أسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ ـ رَضِيَ اللهُ عنها، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ، قالَ: اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ في هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) وَفَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَالم الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ). مُسْنَدُ أَحْمَدٍ: (6/461)، وسُنَنُ الدَّارِمِيِّ: (3392)، وسُنَنُ أَبي دَاوُدَ: (1496) وسُنَنُ ابْنِ مَاجَةَ: (3855)، وسُنَنُ التِّرمِذِيِّ: (3478). وأَخَرْجَ ابْنُ ماجةَ عَنْ أَبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((اطْلُبُوا اسْمَ اللهِ الْأَعْظَمَ فِي هَذِهِ السُّوَرِ الثَّلاثِ: الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ، وَطَهَ)). سُنَنُ ابْنُ مَاجَةَ بِرَقَم: (3856). قَالَ الرَّاوِي: فَوَجَدْنَا الْمُشْتَرِكَ فِي السُّوَرِ الثَّلَاثِ: اللهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. واللهُ أَعْلَمُ. إِذًا فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّحْذِيرِ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَا يَصِحُّ الِامْتِنَاعُ مِمَّا يَنْزِلُ بِالْمَرْءِ مِنَ الْمُجَازَاةِ، وَأَنَّ حَالَهُ مُخَالِفَةٌ لِحَالِ الدُّنْيَا الَّتِي يَخْتَارُ فِيهَا الْمَعَاصِيَ وَيَمْتَنِعُ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَيَبْقَى مُصِرًا عَلَى ذَلِكَ، ولا يَتُوبُ إِلَى اللهِ تَعَالَى. قالَ حَبْرُ الأُمَّةِ عَبْدُ اللهِ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: خَسِرَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ، وَلَمْ يَتُبْ.
قولُهُ: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} اسْتِئْنافٌ بيانيٌّ لِبَيَانِ مَا لِأَجْلِهِ عَنَتِ وُجُوهُ الظالمينَ. أَوِ هوَ اعْتِرَاضٌ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: خَابُوا وَخَسِرُوا. وَقِيلَ: هوَ حالٌ مِنَ "الوُجُوه"، وَ "مَنْ" عِبَارَةٌ عَنْهَا مُغْنِيَةٌ عَنْ ضَمِيرِهَا، وَقِيلَ: الوُجُوهُ عَلَى العُمُومِ. فَالمَعْنَى حِينَئِذٍ: وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ مِنْهُمْ ظُلْمًا.
و "خابَ" يَخِيبُ، ويَخُوبُ، خَيْبَةً فهُوَ خائِبٌ: إِذَا حُرِمَ مَا طَلَبَ، وَلَمْ يَنَلْ مَا أَمَّلَ. وَ "الخَيْبَة": الخُسْرانُ وَالحِرْمانُ، وَخَيَّبَهُ اللهُ: حَرَمَهُ، وخَيَّبْتُهُ تَخْيِيبًا، وفي الحديثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ، وَلَا تَقُولُوا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ)). أخْرجهُ أحمَدُ، والشَّيْخانِ، وَالحَاكمُ، وغيرُهُم. ويَجوزُ أَنْ يُقالَ" خَيَّابًا" بوزنِ "فَعَّال" مِن الخَيْبَةِ، وَوَقَعَ في وَادِي "تُخُيِّبَ" عَلى وزْنِ "تُفُعِّلَ" بِضَمِّ التَّاءِ والفَاءِ، وَكَسْرِ العَيْنِ غَيْرَ مَصْرُوفٍ. وَتَقُولُ: "خَيْبَةً لِزَيْدٍ، و "خَيْبَةٌ لِزَيْدٍ" فَالنَّصْبُ عَلَى إِضْمارِ فِعْلٍ، وَالرَّفْعُ عَلى الابْتِداءِ.
وَ "حَمَلَ ظُلْمًا" يَعْنِي أَنَّهُ أَخَذَ عِبْئًا ثَقيلًا جِدًّا عَلَيْهِ. والمُرادُ بالظُّلْمِ ـ هُنَا، هُوَ الشِّرْكُ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَقد خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا"، قَالَ: شِرْكًا. وَقَالهُ أَيْضًا قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، فيما أَخْرَجَهُ عنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنْعانيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.
وأَصْلُ الظُّلْمِ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ غيرِكَ مَا لَيْسَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ على وَجْهِ الانْتِفاعِ بِهِ، وَتَزِيدَ مَا عِنْدَكَ، فَأَنْتَ فِي الظَّاهِرِ تَزْدَادُ كَمَا تَظُنُّ، ولكنَّكَ في الحَقِيقَةِ تَزْدَادُ مِنْ عَظِيمِ الإِثْمِ وَمُسْتطيرِ الشَّرِّ وَلَمْ تزْدَدْ خَيْرًا. لأَنَّكَ في الحقيقةِ تُحَمِّلُ نَفْسَكَ وِزْرًا عَظيمًا، وَحِمْلًا ثَقيلًا، سَوْفَ يَقْصِمُ ظَهْرَكَ، وسَتَنُوءُ بِحَمْلِهِ، إِذًا فَقَدَ ظَلَمْتَ نَفْسَكَ ظُلْمًا فادِحًا.
و "الظُلْمُ" دَرَجاتٌ وَمَرَاتِبُ، أَدْناهَا أَنْ تَأْخُذَ مَا لَيْسَ لَكَ ـ وَلوْ كانَ في نَظَرِكَ شَيْئًا يَسِيرًا لا يُؤْبَهُ لَهُ، وَعَرَضًا حَقِيرًا لِا قِيمَةَ لَهُ، أَوْ تَظلِمَ غَيْرَكَ، بِأَنْ تَتَنَاوَلَهُ في عِرْضِهِ مَثَلًا، ثُمَّ تَرْقَى دَرَجَاتِ سُلَّمِ الظُّلْمِ إِلَى أَنْ تَصِلَ بِهِ إِلَى قِمَّةِ الفظاعَةِ فِيهِ، فَتُشْرِكَ بِاللهِ ـ والعِياذُ باللهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ ـ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} الآيةَ: 13، مِنْ سُورَةِ لُقْمانَ. فَهُوَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ، لِأَنَّكَ تكونُ قَدْ أَخَذْتَ حَقًّا مِنْ حقوقِ اللهِ تَعَالَى الذي خَلَقَكَ وصوَّركَ وشَمَلَكَ بِرِعايتِهِ وَغَذاكَ بِنِعَمِهِ، وأَعْطَيْتَ هذا الحقَّ لِغَيْرِهِ.
ولِذلكَ فَإنَّهُ سُبْحانَهُ يَغْفِرُ للعبدِ كلَّ ذَنبٍ قد يَرْتَكِبُهُ إِلَّا هَذَا الذَّنْبَ فَإنَّهُ لا يَغْفِرُهُ البَتَّةَ، قالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} الآيةَ: 48، مِنْ سُورةِ النِّساءِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} الواوُ: للعَطْفِ، أَوْ للاسْتِئنافِ، و "عَنَتْ" فعلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ المُقَدَّرِ عَلى الأَلِفِ المَحْذُوفَةِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، والتاءُ: لِتَأْنيثِ الفاعِلِ. و "الوُجوهُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. و "للحيِّ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "عَنَتْ"، و "الحيِّ" اسْمُ الجلالةِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "القيومِ" صفةٌ لاسْمِ الجلالةِ مجرورٌةٌ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {يَعْلَمُ} مِنَ الآيَةِ الَّتي قَبْلَها عَلَى كَوْنِها مُسْتَأْنفةً لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ أَيْضًا.
قولُهُ: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} الواوُ: للاسْتِئْنافِ، أَوْ اعْتِراضِيَّةٌ، أَوْ حاليَّةٌ، وَ "قَدْ" للتَّحقيقِ. وَ "خابَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتْحِ. وَ "مَنْ" اسمٌ مَوْصولٌ بِمَعْنى "الذي" مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ، ويجوزُ أنْ تَكونَ في محلِّ النَّصْبِ عَلى الحالِ مِنْ فاعِلِ "عَنَتْ" وَالرَّابِطُ مَحْذوفٌ، والتقديرُ: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ وَالحالُ أَنَّهُ قَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا مِنْ أَصْحَابِهَا، ويجوزُ أَنْ تكونَ اعْتِراضِيَّةً لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَ "حَمَلَ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جوازًا تَقْديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى الاسْمِ المَوْصُولِ "مَنْ". وَ "ظُلْمًا" مفعولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. والجُمْلَةُ صِلَةٌ للاسْمِ المَوْصولِ "مَنْ" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.