قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} أَيْ: كَفَرُوا وَافْتَتَنُوا في دِينِهِمْ وَأَخْطَأُوا الطَّريقَ. وَهُوَ اسْتِطْرادٌ نَقَلَ بِهِ مُوسَى الحِوَارَ إِلَى أَخِيهِ هارونَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، بِهَذَا الاسْتِفْهَامِ الإِنْكَارِيِّ، بَعْدَ أَنْ كانَ الحوارُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ، أَيْ فرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا، وَأَلْقَى مَا كَانَ فِي يَدَيْهِ مِنَ الأَلْوَاحِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَيْهِ رَبُّهُ ـ سُبْحانَهُ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخْيهِ يَجُرُّه إِلَيْهِ، قَائلًا لَهُ: مَا الَّذِي مَنَعَكَ مِنْ أَنْ تَكُفَّهُمْ عَنْ هَذِهِ الضَّلاَلَةِ، حِينَمَا رَأَيْتَهُمْ وَقَعُوا فِيهَا؟.
والمَعْنَى: لَا مَانِعَ لَكَ مِنَ اللِّحَاقِ بِي إِذْ رَأَيتَهُم ضَلُّوا، ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ فِيهِمْ خَلِيفَةً عَنْهُ، فَقد كانَ عَلَيْهِ ـ لَمَّا رأَى أَنَّهُمْ لَمْ يَمْتَثِلُوا أَمْرَهُ، أَنْ يَرُدَّ الْخِلَافَةَ إِلَى مَنِ اسْتَخْلَفَهُ.
وَلِأَنَّهُ كانَتْ لِـ "هَارُونَ" خُصُوصيَّةُ الرِّسالةِ، إِذًا فَهُوَ مَعْصُومٌ، وَلَا يَجُوزُ في حقِّهِ أَنْ يَفْعَلَ فَعْلَةَ قومِهِ، ويَضِلَّ ضلالَهُمْ، فَإِنَّ الرِّسَالَةَ تَقْتَضِي الْعِصْمَةَ، ولِذَلِكَ كانَ لهُ ـ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ، خُصُوصِيَّةُ عَدَمِ عِبادةِ الْعِجْلَ، ولِهَذَا السَّبَبِ فَقَدْ خَصَّهُ موسَى بِخِطَابٍ يُنَاسِبُ حَالَهُ، بَعْدَ أَنْ خَاطَبَ القومَ عُمُومًا بِالْخِطَابِ الْمَنَاسِبِ لِحَالِهِمْ.
وَهَذَا الخِطَابُ التَّوْبِيخيُّ التَّهْدِيدِيُّ كانَ لَهُ مِنْ أَخيهِ بسَبَبِ بَقَائِهِ بَيْنَ عَبَدَةِ العِجْلِ الصَّنَمِ مِنْ قومِهِ، وعَدَمِ الانْعِزَالِ عَنْهُ، إِذْ لا يجوزُ، مُعاشَرةُ الكافرينَ، ومُؤاكَلَتُهم ومُشاربتُهم ومُسَايَرَتُهُم، لأَنَّهُ قدْ يفهَمُ مِنْ ذَلِكَ الرِّضَى عَمَّا يَفْعَلونَ.
وأَخرجَ الطَّبَرِيُّ في تَفْسيرِهِ "جامِعُ البَيَانِ" بِتَحقيقِ محمود شَاكِرٍ: (18/359)، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، أَنَّهُ قالَ: لَمَّا قَالَ القَوْمُ {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} أَقَامَ هَارونُ فِيمَنْ تَبِعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ، مِمَّنْ لَمْ يُفْتَتَنْ، وَأَقامَ مَنْ يَعْبُدُ العِجْلَ عَلَى عِبَادَةِ العِجْلِ، وَتَخَوَّفَ هَارُونُ إِنْ سَارَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولَ لَهُ مُوسَى: {فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}، وَكانَ لَهُ هَائِبًا مُطيعًا. وأَخْرَجَ أَيضًا عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، أَنَّ ابْنَ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ فِي قَوْلِهِ: "مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا" قَالَ: تَدَعهُمْ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ} فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ إِلَى مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنفةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعرابِ.
قولُهُ: {يَا هَارُونُ} يَا: أَداةٌ للنِّداءِ، و "هارونُ" مَبنيٌّ على الضَمِّ في محلِّ النَّصْبِ بالنِداءِ منادى مفرد علم، وَجُمْلَةُ النِّداءَ اعتراضٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، ويَجُوزُ أنْ تكونَ مَعَ جَوَابِهَا فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القَوْلِ لِـ "قَالَ".
قولُهُ: {مَا مَنَعَكَ} مَا: اسْمُ اسْتِفْهامٍ للاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخيِّ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "مَنَعَكَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مَا". وكافُ الخِطابِ في محلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ، وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ "قَالَ" عَلى كَوْنِهَا جَوَابَ النِّداءِ.
قولُهُ: {إِذْ رَأَيْتَهُمْ} إِذْ: مَبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ على الظَرْفيَّةِ الزَّمانِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "مَنَعَكَ". و "رَأَيْتَهُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتحرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وهي ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ أَوَّلُ، والميمُ: علامةُ الجَمْعِ المُذكَّرِ. وَالجُمْلَةُ في مَحَلِّ الجَرِّ بإِضافةِ "إِذْ" إِلَيْهَا.
قوْلُهُ: {ضَلُّوا} فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعِةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ فارقةٌ، والجملةُ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ ثانٍ لِـ "رَأَيْتَ" إِنْ كانتِ الرؤيا قَلْبِيَّةً، أَوْ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ ضَمِيرِ المَفْعُولِ إِنْ كانَتِ الرُّؤيا بَصَرِيَّةً.