أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} الهَمْزَةُ للاسْتِفهامِ، وَالفاءُ للعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ يَقْتَضِيهِ المَقَامُ، أَيْ: أَلَا يَتَفَكَّرُونَ ويتدَبَّرونَ فَيَعْلَمُونَ. قَالَ أَبُو العَبَّاسِ المُبَرِّدُ: المَعْنَى: أَفَلَا يَعْلَمُونَ؛ لِأَنَّ "رَأَيْتَ" عَلَى ضَرْبَيْنِ: عَلَى رُؤْيَةِ القَلْبِ، وَعَلَى رُؤْيَةِ العَيْنِ، وَمَا كَانَ مِنْ رُؤْيَةِ القَلْبِ فَالْمُرَادُ بِهِ العِلْمُ. وَقَدْ يكونُ المُرادُ الظَّنَّ. ومنهُ قَولُ الأَعْشَى:
فِي فِتْيَةٍ مِنْ سُيُوفِ الْهِنْدِ قَدْ عَلِمُوا .... أَنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَيَنْتَعِلُ
وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا: لِلإنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَتَسْفِيهِ أَحْلامِهِمْ فِيمَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنَ المُنْكَرِ بِعَدَمَ رُؤْيَتِهِمْ أَنَّ العِجْلَ لا يُرْجِعُ لَهُمْ قَوْلًا، وَقَدْ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَرَى الْعِجْلَ لِعَدَمِ تقَيُّدِهِمْ بِمَا يُوجِبُهُ عَلَيْهِمْ إِبْصَارُهُمْ ذَلكَ، مَعَ ظُهُورِهِ لَهُمْ. والمَعْنَى: كَيْفَ يَدَّعُونَ أَنَّ الْعِجْلَ إِلهًا لَهُمْ، وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ هَذَا الإلهَ أَبْكَمُ لَا يَتَكَلَّمُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً، كَمَا يَجوزُ أَنْ تَكونَ مُسْتَعْمَلَةً فِي مُطْلَقِ الْإِدْرَاكِ، خَلُصَتْ إِلَى مَعْنَى الْعِلْمِ والِاعْتِقَادِ.
وَمَعْنَى "يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا": يَرُدُّ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ فِي الآيَةِ: 148، مِنْ سورةِ الأعرافِ بِهَذَا المَعْنَى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ}، أَيْ: لَاَ يُجِيبُ قَوْلَهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَحَلُّ الْعِبْرَةِ مِنْ فُقْدَانِهِ صِفَاتَ الْعَاقِلِ، فَهُمْ يَدْعُونَهُ، وَيُمَجِّدُونَهُ، وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ صَامِتٌ لَا يَشْكُرُ لَهُمْ ذَلِكَ، ولا يَجْزِيهمْ بهِ، ولا يَعِدُهُمْ عَلَيْهِ جَزَاءً، وَشَأْنُ العاقِلِ الْكَامِلِ إِذَا سَمِعَ ثَنَاءً عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَ.
قوْلُهُ: {وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} لَا شَكَّ أَنَّ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ الْغفيرِ مِنَ النَّاسِ صاحِبُ حَاجَةٍ مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، وَلا شَكَّ في أَنَّ صاحِبَ الحاجةِ لا بُدَّ سَيَسْأَلُ إلَهَهُ حاجَتَهُ، وأَكيدٌ بِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَمْ يَجِدُوا مَنْهُ رَدًّا على سؤالِهِمْ، وَلَا جَلْبًا لِمَنْفَعَتِهُم ولا دَفْعًا للضُرٍّ عَنْهُمْ، فَهُمْ قَدْ شَاهَدُوا عَدَمَ غِنَائِهِ شيْئًا عَنْهُمْ، وَشَوَاهِدُ حَالِهِ مِنَ الجمودِ والثَّباتِ وَعَدَمِ القُدْرَةِ على الحَرَكَةِ، تُشيرُ إِلى أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ أَنْ يَنْفَعَ أَوْ يَضُرَّ، وَلِذَلِكَ فقدْ سُلِّطَ الْإِنْكَارُ عَلَى عَدَمِ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ حَالَهُ ذَلِكَ مِمَّا يُرى بالبَصَرِ وَيُدْرَكَ. فالْإِنْكَارَ مُوجَّهٌ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ إِلَهٌ لَهُمْ، والأُلُوهِيَّةُ تقْتَضِي أَنْ يَمْلِكَ الإلَهُ النَّفْعَ لهُمْ والضَّرَرَ.
قَوْلُهُ تَعَالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ} الهَمْزَةُ: للاسْتِفْهَامِ التَوْبِيخِيِّ دَاخِلَةٌ عَلى مَحْذوفٍ، مَعْلومٍ مِنَ السِّيَاقِ، والفاءُ: عَاطِفَةٌ عَلَى ذَلِكَ المَحْذوفِ، والتَّقْديرُ: أَلَا يَتَفَكَّرونَ فَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُ يُرْجِعُ إليهِمْ قولًا، ويَجوزُ أَنْ تكونِ الفاءُ للاسْتِئنافِ لِأَنَّ حِكايَةَ القَوْمِ انْتَهَتْ بِقَوْلِهِ {فَنَسِيَ}، وهَذا الكلامُ مُسْتَأْنَفٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى. والجُمْلَةُ المَقدَّرةُ أَيْضًا مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. وَ "لا" نَافِيَةٌ، و "يَرَوْنَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامَةُ رَفعِهِ ثبوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجُمْلَةُ: مَعْطُوفَةٌ عَلَى تِلْكَ المَحْذوفَةِ، على كونِها مُسْتأْنَفةً، أَوْ هيَ جملةٌ مُسْتَأْنَفةٌ وفي الحالينِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} أَلَّا: هيَ "أَنْ" المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقيلَةِ،
واسْمُهَا: ضَميرُ الشَّأْنِ؛ والتقديرُ: أَنَّهُ لِا يَرْجِعُ، و "لا" النَافِيَةُ. و "يَرْجِعُ" فِعْلُ مُضَارِعٌ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى العِجْلِ. قالَ أَبُو إِسْحَاقٍ الزَّجَّاجُ: (الاخْتِيَارُ الرَّفْعُ وَيَكون المَعْنَى: أَنَّهُ لَا يُرْجِعُ، كَمَا قَالَ: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ} الآيةَ: : 148، مِنْ سُورَةِ الأَعْرافِ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُرْجِعَ يَنْتَصِبُ بِأَنْ). مَعَانَى القرآن" للزجاج: (3/373). فالتَقْدِيرُ: أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فَلِذَلِكَ ارْتَفَعَ الْفِعْلُ فَخُفِّفَتْ "أَنْ" وَحُذِفَ الضَّمِيرُ. قَالَ المُبَرِدُ: ("أَنَّ" هَاهُنَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ والَمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ، كَقَوْلِهِ: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ} الآيةَ: 20، مِنْ سورةِ المُزَّمِل، وَلَا يَكونُ بَعْدَ "العِلْمِ" إِلَّا ثَقيلَةً، وَمُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَتُخَفَّفُ إِذَا جِئْتَ بِالعِوَضِ، كَ "السينِ" وَ "سَوْفَ"، نَحْوُ: عَلِمْتُ أَنْ سَيَذْهَبُونُ، وأَنْ سَوْفَ يَذْهَبُونَ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُنَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَخُفِّفَتِ الأُولَى مِنَ الثَّقِيلَةِ؛ لِأَنَّا جِئْنا بِالْعِوَضِ، وَهُوَ "لَا" وُشُدِّدَتِ الثانِيَةُ؛ لِأَنَّهُ الإيْجابُ. "المُقْتَضَبُ" لِأَبي العبَّاسِ المُرِّد: (3/7). و "إِلَيْهِمْ" إلى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَرْجِعُ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. وَ "قَوْلًا" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "أَنَّ" المُخَفَّفَةِ، وَجُمْلَةُ "أَنَّ" المُخَفَّفَةِ: فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ لِـ "يَرَوْنَ"، إِنْ كانَتْ بَصَرِيَّةً، أَوْ سَادٍّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "يَرَوْنَ" إِنْ كَانَتْ عِلْمِيَّةً، والتَّقْديرُ: أَفَلَا يَرَوْنَ عَدَمَ رُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ قَوْلًا.
قولُهُ: {وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} الواوُ: عَاطِفَةٌ، و "لَا" نَافِيَةٌ، و "يَمْلِكُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى العِجْلِ. و "لَهُمْ" اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَمْلِكُ". و "ضَرًّا" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ. و "وَلَا" الواوُ حرفُ عطْفٍ، و "لا" نافيَةٌ، و "نَفْعًا" مَعْطُوفٌ عَلى "ضَرًّا" منصوبٌ مِثْلُهُ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "لا يَرْجِعُ" عَلى كونِهَا خَبَرَ "أَنَّ" المُخفَّفةِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {أَلَّا يَرْجِعُ} بالرَّفعِ عَلَى أَنَّ "أنْ" هُنا هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وُقوعُ أَصْلِهَا ـ وَهوَ المُشَدَّدَةُ، فِي قَوْلِهِ مِنْ سورةِ الأعرافِ: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ} الآيةَ: 148.
وَقَرَأَ أَبُو حَيَوَةَ، والشَّافِعِيُّ، وَأَبَانُ "أبو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ، بِنَصْبِهِ. فَجَعَلُوها "أَنْ" النَّاصِبَةَ وليسَتِ المُخفَّفةَ. وَالرُّؤْيَةُ عَلَى الأُولى يَقِينِيَّةٌ، وَعَلَى الثانِيَةِ بَصَرِيَّةٌ.