فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} فَأُلْقِيَ: فَيهِ دليلٌ عَلَى قُوَّةِ ما عَايَنُوهُ مِنْ بُرهانٍ، فَكَأَنَّما أَمْسَكَهُمْ أَحَدٌ وَأَلْقَاهُمْ سَاجِدِينَ بِالْقُوَّةِ، ذَلِكَ لِعِظِمِ الْمُعْجِزَةِ الَّتِي عَايَنُوهَا. فإِنَّهُ لَمَّا رَأَى سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ عَصَا مُوسَى تَتَحَوَّلُ إِلَى ثُعبانٍ عَظِيمٍ يَبْتَلِعُ جَمِيعَ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ حَقِيقَةً لا سحْرًا ولا تَخَيُّلًا وتَوَهُّمًا، قَذَفَ اللهُ نُورَ الهِدايةِ في قُلوبِهِمْ بِذَلِكَ الْبُرْهَانِ الْإِلَهِيِّ العظيمِ، خَرُّوا مِنْ فَوْرِهِم سُجَّدًا للهِ تَعَالَى. وَهَذَا مَا أَفَادَتْهُ فاءُ التَّعْقِيبِ، أَيْ: دُونَ تَمَهُّلٍ، وَلا تَفَكُّرٍ، وَلا تَقْلِيبٍ لِلْأُمُورِ، وَلا اسْتِعْرَاضٍ للنتائجِ المُترتِّبةِ عَلى سُجُودِهِمْ لِغَيْرِ فِرْعَوْنَ، فَقد هَدَاهُمُ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ الْبُرْهَانِ الْإِلَهِيِّ القاطِعِ، لأَنّهُم خيْرُ مَنْ يُميِّزُ السِّحْرَ مِنَ الأَمْرِ المُعجِزِ الخارقِ لكُلِّ القَوَانِينِ والنَّوامِيسِ الجَارِيَةِ في هَذَا الكَوْنِ العَظِيمِ، والمُتَحَكِّمَةِ فيهِ بتقديرِ اللهِ ـ عزَّ وَجَلَّ، مُذْ أَوْجَدَهُ خالِقُهُ العظِيمُ ـ تَقَدَّسَتْ ذَاتُهُ، وَتَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ، وَجَلَّتْ صِفَاتُهُ.
قولُهُ: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الأَعْرَافِ: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}الآياتِ: (120 ـ 122)، فَقَدْ أَعْلَنُوا قَائِلِينَ: آمَنَّا بِاللهِ الَّذِي هُوَ رَبُّ هَارُونَ وَمُوسَى. غيرَ آبِهينَ، ولا عابِئِينَ، ولا مُبالينَ بِمَا يَكونُ مِنْ أَمْرِ فِرْعَوْنَ، وَمَا قدْ يَفْعَلَهُ بهِم، كَمَا سَنَرَى في التالي مِنْ آياتِ هذِهِ السُّورةِ المُباركةِ. لأَنَّ الإيمانِ باللهِ تَعَالَى إِذا سَطَعَ في قَلْبِ العبدِ وأَشْرَقَتْ أَنوارُ شَمْسِ الحقيقةِ فِيهِ، أَخْرَجَتْ مِنْهُ كلَّ ما سِوى اللهِ تَعَالى، فلمْ يعُدْ يرَى أَثَرًا في هَذَا الْوُجُودِ لِغَيْرِ مولاهُ الحَقِّ ـ جلَّ وَعَزَّ.
وقدْ قُدِّمَ اسمُ "هارونَ" عَلَى اسْمِ "موسَى" ـ على نَبِيِّنَا وعَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، مراعاةً لِنِهَاياتِ الآياتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} الفاءُ: عاطِفَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، والتقديرُ: فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَلَقِفَتْ كُلَّ مَا صَنَعُوهُ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا، و "أُلْقِيَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ للمَجْهولِ، مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، و "السَّحَرَةُ" نَائْبُ فَاعِلٍ مَرْفوعٌ بِهِ. و "سُجَّدًا" مَنْصوبٌ عَلَى الحَالِ مِنَ "السَّحَرَةُ"، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَ عَلَي ذَلِكَ المَحْذُوفِ. والجُمْلةُ المحذوفةُ جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ
قوْلُهُ: {قَالُوا} فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لِاتِّصالِهِ بِوَاوِ الجَمَاعَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ فارِقَةٌ، وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ حَالًا ثَانِيَةً مِنْ "السَّحَرَةُ"، وَالتَّقْديرُ: حَالَةَ كَوْنِهِمْ سَاجِدينَ قَائِلِينَ.
قوْلُهُ: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} آمَنَّا: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضَميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٌ هو "نَّا" الدَّالَّةُ عَلَى جَماعَةِ المُتَكَلِّمِينَ، و "نَا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القَوْلِ لِـ "قَالُوا"، وَ "بِرَبِّ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "آمَنَّا"، و "رَبِّ" اسْمٌ مجرورٌ بها، وهوَ مُضافٌ، و "هَارُونَ" مَجرورٌ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ، وعلامةُ جرِّهِ الفتْحةُ نيابةً عنِ الكَسْرةِ لأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ بالعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ. و "مُوسَى} مَعْطُوفٌ عَلَى "هَارُونَ" مجرورٌ مِثْلُهُ، وعلامةُ جَرِّهِ كَسْرَةٌ مُقدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِها عَلَى الأَلِفِ.