الموسوعةُ القرآنيةُ (فيضُ العليم مِن معاني الذكْر الحكيم) سورةُ (طه) الآية: 54
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} أي: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} أَخْرَجْنَا أَصْنَافِ النَّبَاتِ وأَنواعِهِ المُختلفةِ فَشَيْءٌ مِنْها لِطَعامِكُمْ وَفَاكِهَتِكُمْ، وَشَيْءٌ مِنْها لِأَقْواتِ لِأَنْعامِكمْ خَضِرًا وَيابِسًا، قائلِينَ لَكُمْ: "كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ"، آذِنِينَ لكم في ذَلك.
و "كُلُوا" أَيْ مِنْ طيِّبِها وَحَلالِها، كَمَا قَالَ مِنْ سُورَةِ في الآيةِ: 168، مِنْ سُورةِ البَقَرةِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}، وقالَ مِنْ سُورةِ المائدةِ: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} الآية: 88، وقالَ مِنْ سُورَةِ النَّمْل: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} الآيةَ: 114.
وَمَعْنَى: "ارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ" أَيْ: أَسِيمُوا مَواشِيَكم فِيمَا أَنْبَتْنَاهُ بِالمَطَرِ، وأَطْلِقُوهَا تَرْعَى. وَالعَرَبُ تَقولُ: رَعَيْتُ الغَنَمَ فَرَعَتْ، وَيُقالُ: رَعَى فلانٌ مَاشِيَتَهُ، يَرْعَاهَا: إِذَا سَرَّحَهَا في المَرْعَى. ورَعَتِ المَاشِيَةُ الكَلَأَ رَعْيًا، وَرَعَاهَا صَاحِبُهَا رِعَايَةً، إِذا أَسَامَهَا وَسَرَّحَها وَأَرَاحَها. وَ "ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ" أَيْ: وَارْتَعُوها. وَهَذَا أَمْرُ إِبَاحَةٍ وَتَذْكيرٍ بِالنِّعْمَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: هَذَا كَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ (عَبَسَ): {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وعِنَبًا} إِلَى قَوْلِهِ: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} الآياتِ: (27 ـ 32). وَيُسْتَعْمَلُ هذا الفعلُ قَاصِرًا أَوْ لازِمًا فيُقَالُ: رَعَتِ الدَّابَّةُ، أَوِ الماشِيَةُ، رَعْيًا، فهِيَ راعِيَةٌ، كَمَا يُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا أَيْضًا فَيُقالُ: رَعَى الدَّابَّةَ، أَوِ الماشِيَةَ صَاحِبُهَا، أَوْ راعِيهَا، رِعايَةً. فقَدْ فُرِّقوا بَيْنَهُمَا فِي الْمَصْدَرِ، فَجَعَلُوا "الرَّعْي" مَصْدَرَ الْقَاصِرِ، أَوِ اللازِمِ، وَمَصْدَرَ الْمُتَعَدِّي: (الرِّعَايَةُ). وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ الذُّبْيَانيُّ مُخاطِبًا المَلِكَ النُّعْمانَ:
رَأَيْتُكَ تَرْعَانِي بِعَيْنٍ بَصِيرَةٍ .................. وَتَبْعَثُ حُرَّاسًا عَلَيَّ وَنَاظِرا
قوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} لآيَاتٍ: أَيْ: لَدَلَالاتٍ واضِحةً، وَحُجَجًا دامِغَةً، وَبَرَاهِينَ قاطِعةً، وَعِبَرًا فِي اخْتِلافِ الأَشْكالِ، والأَصْنَافِ والأَلْوانِ، والطُّعُومِ.
وَنُكِّرَ "آيَاتٍ" للتَّفْخِيمِ كَمًّا وكَيْفًا، أَيْ: لَآياتٍ كَثِيرَةً جَلِيلَةً واضِحَةَ الدَلالَةِ عَلى شُؤُونِ اللهِ تَعَالَى في ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَعَلى صِحَةِ نُبُوَّةِ مُوسَى وهَارونَ ـ عَلَيْهِمَا الصَّلاةُ وَالسَّلامُ. وَقد أُكِّدَ الْخَبَرُ بِـ "إِنَّ" لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِينَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا فِي دَلَالَةِ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ ـ سُبْحانَهُ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ أُولِي النُّهَى، فَمَا كَانَ عَدَمُ اهْتِدَائِهِمْ بِتِلْكَ الْآيَاتِ إِلَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يُعِدُّوهَا آيَاتٍ. لَا جَرَمَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَذْكُورَ مُشْتَمِلٌ عَلَى آيَاتٍ جَمَّةٍ يَتَفَطَّنُ لَهَا ذَوُو الْعُقُولِ بِالتَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ، وَيَنْتَبِهُونَ لَهَا بِالتَّذْكِيرِ.
والنُّهَى: العَقْلُ. سُمِّي بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَنْهَى صَاحِبَهُ عَنِ ارْتِكابِ المَخازي، القَبَائحِ، والمُوبِقاتِ، وَهوَ جَمْعُ نُهْيَةِ، كَ "غُرَفٍ" جَمْعُ "غُرْفَةٍ". أَوْ هَوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، كَ "الْهُدَى" وَ "السُّرَى". وَقالَ وقَالُوا: لَمْ يَأْتِ مَصْدَرٌ مِنَ المُعْتَلِّ اللَّامِ عَلَى وَزْنِ "فُعَلٍ" إِلَّا "سُرى"، وَ "هُدَى" و "بُكى"، وَزادَ بَعْضُهُمْ "لُقَى".
و "لِأُوْلِي النُّهَى" لذوي الوَرَعِ، والحُكْمِ، والعُقولِ السَّليمَةِ المُستَقيمةِ، عَلى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلَا رَبَّ سِواهُ. سُمُّوا بِذَلِكَ لأَنَّهُ يُنْتَهَى إِلى آرائهم، ولأَنَّهم يَنْهَوْنَ النَّفْسَ عَنِ اتِّباعِ الباطِلِ، وارْتِكابِ الإثْمِ، ومِنْ جُمْلَتِها ما يَدَّعِيهِ الطاغِيَةُ وَيَقْبَلُهُ مِنْهُ أَهْلُ البَغْيِ. وَتَخْصيصُ كَوْنِها "آياتٍ" بِهِمْ مَعَ أَنَّها آياتٌ للعالَمينَ باعْتِبارِ أَنَّهم همُ المُنْتَفِعونَ بِها. كمَا سُمِّيَ بالعَقْلُ والحِجْرُ لِعَقْلِهِ وحَجْرِهِ صاحِبَهُ عَنْ فِعْلِ القَبيحِ المُشينِ.
وَقالَ الفَرَّاءُ: "لِأُولي النُّهى" لِذَوِي العُقولِ، يُقالَ للرَّجُلِ: إِنَّهُ لَذُو نُهْيَةٍ: إِذَا كانَ ذَا عَقْلٍ. وَقالَ الزَّجَّاجُ: وَاحِدُ النُّهَى: نُهْيَةٌ، يُقالُ: فُلانٌ ذَو نُهْيَة، إِذا كانَ ذا عَقْلٍ يَنَتَهِي بِهِ عَنِ المَقَابِحِ، وَيَدُخُلُ بِهِ في المَحَاسِنِ. قالَ: قالَ بعْضُ أَهلِ اللُّغَةِ: ذُو النُّهْيَةِ: الذي يُنْتهى إِلى رَأْيِهِ وعَقْلِهِ، وَهَذَا حَسَنٌ أَيضًا. وَأخرج ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِه: "لِأُولي النُّهَى" قَالَ: لِأُولِي التُّقَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَوْلَهُ: لِذَويَ الحِجَا والعُقُولِ. ورُويَ مثلُهُ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لِأُولي النُّهَى" قَالَ: لِأُولي الْوَرِعِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سُفْيَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لِأُولي النُّهَى" قَالَ: الَّذينَ يَنْتَهُونَ عَمَّا نُهُوا عَنْهُ. ورُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "لِأُولِي النُّهَى" الذينَ يَنْتَهُونَ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ. واللهُ تَعَالى أَعْلَمُ.
فقد هيَّأَ لهم أسبابَ المعيشة ، وكما نَظَرَ إليهم وَرَزَقَهُم رَزَقَ دوابَّهم التي ينتفعون بها، وأَمَرَهُم أنْ يَتَقَووْا بما تَصِلُ إليه أيديهم ، وأنْ ينتفِعُوا ـ ما أمكنهم، بأَنْعَامِهمِ لِيَكْمُلَ لديهم إنْعَامُهم .
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلِاسْتِدْلَالِ، فَبَعْدَ أَنْ أُشِيرَ إِلَى مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ ـ تَعَالى، وَعلى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَالْمِنَّةِ بِهَا عَلَى الْإِنْسَانِ لِمَنْ تَأَمَّلَ، جُمِعَتْ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَصُرِّحَ بِمَا فِي جَمِيعِهَا مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ. وَكُلٌّ مِنَ الِاعْتِرَاضِ وَالتَّوْكِيدِ مُقْتَضٍ لِفَصْلِ الْجُمْلَةِ. وَهَذَا كُلُّهُ احْتِجَاجٌ مِنْ مُوسَى ـ عليْهِ السَّلامُ، عَلَى فِرْعَوْنَ فِي إِثْبَاتِ الصَّانِعِ جَوَابًا لِقَوْلِهِ في الآيةِ: 49، مِنْ هذِهِ السُّورةِ المباركَةِ: {فَمَنْ رَبُّكُما يَا مُوسى}؟. وَقد بَيَّنَ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، أَنَّهُ إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّانِعِ الْيَوْمَ بِأَفْعَالِهِ الظاهرَةِ في خَلْقِهِ.
قولُهُ تَعَالى: {كُلُوا} كُلُوا: فعلُ أَمْرٍ مَعْنَاهُ الإباحةُ، مبنيٌّ على حَذْفِ النونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والألِفُ للتَّفريقِ، والجملةُ في محلِّ النَّصْبِ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، وَذَلِكَ القَوْلُ مَنْصُوبٌ عَلَى الحَالِ مِنْ فاعِلِ "أَخْرَجْنا"، والتقديرُ: فَأَخْرَجْنا كَذَا، قَائلينَ: "كُلُوا". وَتَرَكَ مَفْعُولَ الأَكْلِ عَلَى حَدِّ تَرْكِهِ فِي قوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ البَقَرَة: {كُلُواْ واشْرَبُوا} الآيةَ: 60.
قولُهُ: {وَارْعَوْا أَنْعامَكمُ} وارْعَوْا: مِثْلُ "كُلوا" معطوفٌ عَلَيْهِ وَلَهُ مِثْلُ إعرابِهِ. و "أَنْعَامَكُمْ" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، وكافٌ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ، والجملةُ معطوفةٌ على جملةِ "كُلوا" على كَوْنِها في محلِّ النَّصْبِ.
قَوْلُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} إِنَّ: حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ بِخَبَرٍ مُقَدَّمِ لـ "إِنَّ" و "ذَلِكَ" ذَا: اسْمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، واللامُ للبُعدِ والكافُ للخِطابِ. و "لَآيَاتٍ" اللَّامُ: المُزحلقةُ للتوكيدِ، (حَرْفُ ابْتداءٍ). و "آيات" اسْمُ "إِنَّ" مُؤَخَّرٌ منصوبٌ بِها، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ عِوَضًا عنِ الكَسْرَةِ لأَنَّهُ جمعُ المُؤنَّثِ السَّالِمُ. و "لِأُولِي" اللامُ: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "آياتٍ"، و "أُلي" اسمٌ إشارة مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِجَمعِ المُذكَّرِ السَّالِمِ، وَهوَ مُضافٌ، و "النُّهَى"، مجرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ، وعلامةُ جَرِّهِ كَسْرةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ. وجُمْلَةُ "إِنَّ" هذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.