قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا
(47)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ} قالَ الجُمْهُورُ: السَّلامُ هَنَا يَعْنِى المُسَالَمَةِ. وقالَ الطَبَرِيُّ: مَعْنَاهُ أَمَنَةٌ مِنِّي لَكَ، أَيْ: سَلَامٌ مِنَّي، أُقابِلُ بِهِ مَا بَدَرَ منْ جفوتِكَ وقسْوتِكَ وتهديدِكَ، في مُقابِلِ نُصْحِي لَكَ، وخوفي عَلَيْكَ لأَنْ تَقَعَ في معصيَةِ اللهِ العظيمِ فيحلَّ بكَ غضَبُهُ ويَطالَكَ عذابُهُ، فإِنَّ أَمْرِي مَعَكَ أنَّكَ مني في سَلامِ، فَلَنْ أَقَابِلَكَ بالمِثْلِ، وَلَنْ يَنَالَكَ أيُّ أَذًى منِّي. لكنَّ السَّلامَ مِنِّي غيرُ كافٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكونَ لَكَ سَلَامٌ أَيْضًا مِنَ اللهِ تَعَالَى خالقكَ وربَّكَ ومولاك؛ لِأَنَّكَ في خَطَرٍ محدِقٍ بِكَ منهُ ـ سُبحانَهُ، لأَنَّهُ لا يَغْفِرُ أَنْ يُكْفَرَ ويُشْرَكَ بهِ. فهَذَا قَوْلُ الجُمْهُورِ في المُرادِ بِقولِهِ "سَلامٌ عَلَيْكَ"، وَهُمْ لَا يَرَوْنَ ابْتِدَاءَ الكافِرِ بِالَسَّلاَمِ.
وقالَ بَعْضُهُم: قولُهُ "سَلَامٌ عَلَيْكَ" هو تَوْديعٌ وَمُتَارَكَةٌ عَلَى طَريقَةِ مُقَابَلَةِ السَّيِّئَةِ بِالحَسَنَةِ، أَيْ: لَنْ يُصيبَكَ مِنِّي مَكْرُوه بَعْدَ ذَلِكَ ولنْ أُشافِهَكَ بِمَا يُؤْذيكَ، فَهِي هُنَا تَحِيَّةُ المُفَارِقِ لِعَمِّهُ، تَنْفِيذًا لِأَمْرِهِ، حِينَ قالَ لَهُ: {وَاهْجُرْني مَلِيًّا} الآيةَ: 46 السابقة، وجَوَّزوا تَحِيَّةَ الكَافِر، وَأَنْ يُبادَرَ بِها بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ.
قِيلَ لِسُفْيانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: هَلْ يَجُوزُ السَّلَامُ عَلَى الكافِرِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قالَ اللهُ تَعَالى منْ سُورَةِ المُمْتَحِنَةَ: {لَا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الآيةَ: 8، وَقَالَ مِنْ سورةِ إبراهيمَ: {قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ} الآية: 4، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ "سَلامٌ عَلَيْكَ".
والْأَظْهَرُ مِنَ الْآيَةِ مَا قَالَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَفِي الْبَابِ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ أَيْضًا: رَوَى الأوَّلَ أَبُو هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تَبْدَؤُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحَمْدُ: (2/436 و 459)، وَمُسْلِمٌ: (2167)، وَأَبُو دَاوُدَ: (5205)، وابْنُ حِبَّان: (2/254)، والطَّحَاوِيُّ في "شَرْحِ مَعَاني الآثار": (4/341)، وأَخْرَجَهُ أَيْضًا الطَيَالِسِيُّ: (2424)، عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإِسْنادِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَكِبَ حِمَارًا عَلَيْهِ إِكَافٌ، تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ، وَأَرْدَفَ وَرَاءَهُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَهُوَ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي بَنِي الحَرْثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَذَلِكَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، حَتَّى مَرَّ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَالْيَهُودِ، وَفِيهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ، وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ، خَمَّرَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ أَيُّهَا الْمَرْءُ لَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَلَا تُؤْذِينَا فِي مَجَالِسِنَا، وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ، فَمَنْ جَاءَكَ مِنَّا فَاقْصُصْ عَلَيْهِ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ اغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا، فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَتَوَاثَبُوا، فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُخَفِّضُهُمْ، ثُمَّ رَكِبَ دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ أَيْ سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ؟ ـ يُرِيدُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ، قَالَ: كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: اعْفُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ وَاصْفَحْ، فَوَاللهِ لَقَدْ أَعْطَاكَ اللهُ الَّذِي أَعْطَاكَ، وَلَقَدْ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُونَهُ بِالْعِصَابَةِ، فَلَمَّا رَدَّ اللهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَهُ، شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَاكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ. فَعَفَا عَنْهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقد جوَّزَ هذا الْحَدِيثُ السَّلامَ عَلى غَيْرِ المُسْلِمِ. الحديثُ الْأَوَّلُ يُفِيدُ تَرْكَ السَّلَامِ عَلَى غيرِ
المُسْلمِ ابْتِدَاءً، لِأَنَّ ذَلِكَ إِكْرَامٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ أَهْلَهُ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَلَا يُعَارَضُ مَا رَوَاهُ أُسَامَةُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي أَحَدِهِمَا خِلَافٌ لِلْآخَرِ وَذَلِكَ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مَخْرَجُهُ الْعُمُومُ، وَخَبَرَ أُسَامَةَ يُبَيِّنُ أَنَّ مَعْنَاهُ الْخُصُوصُ. وَقَالَ إِبْراهيمُ النَّخَعِيُّ: إِذَا كَانَتْ لَكَ حَاجَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ، فَابْدَأْهُ بِالسَّلَامِ. فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ (لَا تَبْدَؤُوهُمْ بِالسَّلَامِ) إِذَا كَانَ لِغَيْرِ سَبَبٍ يَدْعُوكُمْ إِلَى أَنْ تَبْدَؤُوهُمْ بِالسَّلَامِ، مِنْ قَضَاءِ ذِمَامٍ أَوْ حَاجَةٍ تَعْرِضُ لَكُمْ قِبَلَهُمْ، أَوْ حَقِّ صُحْبَةٍ أَوْ جِوَارٍ أَوْ سَفَرٍ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ. وَفَعَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، بِدِهْقَانٍ صَحِبَهُ فِي طَرِيقِهِ، قَالَ عَلْقَمَةُ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَلَيْسَ يُكْرَهُ أَنْ يُبْدَؤوا بِالسَّلَامِ؟! قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ حَقُّ الصُّحْبَةِ. وَكَانَ أَبُو أُمامَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، إِذَا انْصَرَفَ إِلَى بَيْتِهِ لَا يَمُرُّ بِمُسْلِمٍ وَلَا نَصْرَانِيٍّ وَلَا صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، فقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أُمِرْنَا أَنْ نُفْشِيَ السَّلامَ. وَسُئِلَ الإمامُ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ مُسْلِمٍ مَرَّ بِكَافِرٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنْ سَلَّمْتَ فَقَدْ سَلَّمَ الصَّالِحُونَ قَبْلَكَ، وَإِنْ تَرَكْتَ فَقَدْ تَرَكَ الصَّالِحُونَ قَبْلَكَ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: إِذَا مَرَرْتَ بِمَجْلِسٍ فِيهِ مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ فَسَلِّمْ عَلَيْهِم. وفِي "الصَّحيحَيْنِ وغيرِهما عَنْ أَنَسٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ)) أخرجَهُ البُخارِيُّ: (11/42، ح: 6258)، وَمُسْلِمٌ: (4/1705، ح: 6/2163). وفي "صَحيحِ البُخارِيِّ" عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ: ((إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ اليَهُودُ فَإِنَّما يَقُولُ أَحَدُهُمْ: السَّامُّ عَلَيْكُمْ. فَقُلْ: وَعَلَيْكَ)). صحيحُ البُخارِيِّ: 11/42، ح: 6257). والسَّامُّ: الموتُ. وأَخرجَ الواحديُّ في أَسْبابِ النُّزولِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها، أَنَّها قَالَتْ: (جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَقُلْتُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَفَعَلَ اللهُ بِكُمْ وَفَعَلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَهْ يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلا التَّفَحُّشَ))، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَسْتَ تَرَى مَا يَقُولُونَ؟ قَالَ: ((أَلَسْتِ تَرَيْنَ أَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَا يَقُولُونَ؟ أَقُولُ: وَعَلَيْكُمْ)).
وعَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ يَقُولُ: (جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟. قَالَ: ((لاَ، إِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ، فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ)). وفي رِوايَةٍ: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَعَلَيْكَ))، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ))، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نَقْتُلُهُ؟ قَالَ: لَا، إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ: (3/210(13225) وفي (3/218(13317)، والبُخَارِيُّ: (9/20(6926)، والنَّسائيُّ، في "عَمَلِ اليَوْمِ وَالَّليْلَةِ": (385).
وَقَدِ احْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الْأُولَى بِأَنَّ السَّلَامَ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّحِيَّةُ إِنَّمَا خُصَّ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ، لِحَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَى أُمَّتِي ثَلَاثًا لَمْ تُعْطَ أَحَدًا قَبْلَهُمُ: السَّلَامَ، وَهِيَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ)). الْحَدِيثَ، ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ هذا الخطابُ منْ إبراهيمَ لعَمِّهِ خطابَ حَلِيمٌ لسَفِيهٍ، فالمُرادَ بِـ "سَلامٌ عَلَيْكَ" هوَ المَعْنى المَقصودُ بقولِهِ منْ سورةِ الفُرْقان: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا: سَلَامًا} الآيةَ: 63، أَيْ: قالوا لَهُمَ كلامَ السَّدادِ والصَّوابِ لَا أَنَّهم سَلَمُّوا عَلَيْهِمْ، وأَعْرَضُوا عَمَّا يُخَاطِبُونَهمْ بِهِ مِنْ سَفَاهَةٍ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ المُرَادُ التَّحيَّةَ المَعْرُوفَةَ، إنَّما بإضمارِ شرطٍ، أَيْ: "سَلَامٌ عَلَيْكَ" إِذَا أَنْتَ أَسْلَمْتَ، واللهُ أَعْلَمُ.
وَ "السَّلَامُ": يَعْني الأَمْنَ السَّلامَةَ. وَ "عَلَى" لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ التَّمَكُّنُ. وَهَيَ كَلِمَةُ تَحِيَّةٍ وَإِكْرَامٍ. فَإنَّ إِبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمْ يُعَارِضْهُ بِسُوءِ الرَّدِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالِهِ عَلَى كُفْرِهِ.
قولُهُ: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} تَعْلِيلٌ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ الْوَعْدُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنْ رَجَاءِ الْمَغْفِرَةِ اسْتِجَابَةً لِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ يُوَفِّقَ اللهُ أَبَا إِبْرَاهِيمَ لِلتَّوْحِيدِ وَنَبْذِ الْإِشْرَاكِ. أَيْ: سأَدْعُو اللهَ تَعَالى في أَن يَهْدِيَكَ، فيغفِرَ لك بإيمانك، ولمّا تبيَّن له أَنه عدوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ. فَكَأَنَهُ ـ عليْهِ السَّلامُ، يَعْتَذِرُ عَنْ قَوْلِهِ في أوَّلِ الآيةِ: "سَلاَمٌ عَلَيْكَ" فَأَنَا مَا قُلْتُ لَكَ: سَلامٌ عَلَيْكَ إِلَّا وَأَنَا أَنْوِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَكَ رَبِّي، حَتَّى يَتِمَّ لَكَ السَّلامُ إِنْ أَنْتَ رَجَعْتَ عَنْ عَقيدتِكَ الفاسِدِةِ في عِبادَةِ الأَصْنامِ، وهوَ يُريدُ بِذلكَ أَنْ يَسْتَدِرَّ حَنانَهُ وَيَسْتَمِيلَ عاطفتَهُ، ويرقِّقَ قَلْبَهُ. بإِخْبَارِهِ عَنِ الاسْتِغْفارِ لَهُ فِي المُسْتَقْبَلِ، ولمْ يَقُلْ لهُ اسْتَغْفَرْتُ لَكَ، بَلْ "سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربِّي" يُريدُ أَنْ يُبَرِّئَ اسْتِغْفَارَهُ لَهُ مِنَ المُجَامَلَةِ والنِّفاقِ والخِداعِ، إِذْ رُبَّما ظَنَّ أَنِّهُ يُجامِلُهُ لَوْ أَنَّهُ قالَ لَهُ اسْتَغْفَرْتُ لَكَ. وقولُهُ: "سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ" أَيْ: بَعِيدًا عَنْكَ، دونَ حضورٍ مِنْكَ أَوَ سماعٍ، لِيَكونَ دُعاءً بِظَهْرِ الغَيْبِ، لأَنَّهُ أَرْجَى للقَبُولِ عِنْدَ اللهِ. عَلَّهُ يُوَفِّقَكَ إِلَى السَّبَبِ الذي تَسْتَوْجِبُ بِهِ الاسْتَغْفارَ، فَتَكونَ أَهْلًا لَهُ.
وقد بَقِيَ يَسْتَغْفِرُ لِعَمِّهِ طِيلَةَ حَياتِهِ، راجِيًا أَنْ يَهْدِيَهُ اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ، بِحَسْبِ مَا سبقَ مِنْ وَعَدِهِ لَهُ، قَالَ تَعَالَى منْ سُورَةِ التَّوْبَة: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} الآية: 114، إذًا لَقَدْ كانَ هَذَا مِنْهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، قَبْلَ أَنْ يَيْأَسَ مِنْ إِيمانِهِ وهِدايَتِهِ، إِذْ كانَ ما زالَ لَدَيْهِ بَعضُ أمَلٍ في ذلكَ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ مِنْ أَنَّهُ مَخْتُومٌ عَلَى قَلْبِهِ، مَحْكومٌ عَلَيْهِ بِالشقَاءٍ، وقد مَاتَ وَهُوَ لا يَزَالُ عَلَى كُفْرِهِ، فَقَنَطَ مِنْ اهْتِدائَهِ، وتَرَكَ الاسْتِغْفارَ لَهُ.
قَوْلُهُ: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} أَيْ: إِنًّ رَبِّي يَعْتَنِي بي ويُبَالِغُ فِي إِكْرَامِي إِكْرَامًا يُحَقِّقُ لِي السَّعَادَةَ، وَمِنْ سَعَادَتي أَنْ يَغْفِرَ لَكَ ذَنْبَكَ الذي تُصِرُّ عَلَيْهِ، وهُوَ الكُفرُ بِهِ، فإِنَّ إبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، حينَ يَقُولُ هَذَا إِنَّما لِيُضَخِّمَ ذَنْبَ عَمِّهِ الذي وَقَعَ فِيهِ، حَينَ كَفَرَ بِاللهِ العَظِيمِ، ولِيُعُظِّمَ اللهَ تَعَالَى الذي سَيَسْتَغْفِرِهُ لِذَنْبِ عَمِّهِ. وَقَدْ ذَكَرَ ـ عَليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالى لِيُطْمْئِنَ عَمَّهُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَغْفَرَ اللهَ لَهُ فإِنَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، لِمَا يَرَى لَهُ مِنْ كَرَامَةٍ عَلَى رَبِّهِ ومَكانَةٍ عندَهُ. وَإنَّما قَالَ ذَلَكَ تَحَدُّثًا بِنِعْمَتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَشُكْرًا، واعْتِرافًا بِعَظيمِ فَضْلِهِ عَلَيْهِ.
وَ "حَفيًّا" مِنْ: (حَفِيَ يَحْفىَ) كَ (رَضِيَ يَرْضَى)، وَيَأْتي بَعْدَهُ حَرْفُ جَرٍّ يُحَدِّدُ المعنى، فيُقالُ: حَفِيٌّ بِهِ: إِذا بَالَغٍ فِي إِكْرامِهِ بِحَيْثُ يَسْتَوْعِبُ مُتَطَلَّباتِ سَعَادَتِهِ، ويُقَالُ أَيْضًا: قابَلَهُ بِالحَفَاوَةِ: أَيْ بِالتَكْريمِ الذي يُحقِّقُ لَهُ السَّعادَةَ. تَقَولُ أَيْضًا: تَحَفَّيتُ بِالْرَجُلِ: إِذَا بالَغْتَ فِي إِكْرامِهِ، وَيُقَالُ أَيْضًا: فلانٌ حَفِيٌّ بِي، أَيْ: عَالِمٌ بِي جاهزٌ للاسْتَجابةِ لِما أَدْعوهُ إِلَيْهِ إِذَا ما دَعَوْتُهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا" قَالَ: عَوَّدَهُ الْإِجَابَةَ. والحَفِيُّ أَيْضًا: المُهْتَبِلُ المُتَلَطِّفُ. لِمَا أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا" قَالَ: لَطِيفًا.
وحَفِيٌّ عَنْهُ: إِذا بالَغَ فِي البَحْثِ عَنْهُ وتَسَقُّطِ أَخْبَارِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى في سُورةِ الأَعْرافِ: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا، قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} الآيةَ: 187، أَيْ: كَأَنَّكَ مَعْنِيٌّ بِها، مُغْرَمٌ بِالبَحْثِ عَنْهَا، دَائمُ الاهتمامِ بها والكلامِ فِي شَأْنِهَا، والسُّؤَالُ هُنَا هوَ عَنِ السَّاعَةِ أَوْ يَوْمِ القِيامةِ. وَإِذا بَلَغَ مَبْلَغًا أَضْناهُ وَشَقَّ عَلَيْهِ، وتقولُ: لَمْ أَبْلُغْ هَذَا المبلَغَ إلَّا بَعَدمَا حَفِيتُ مِنْ أَجْلِ بُلوغِهِ، وَحَفَيَ الرَّجُلُ يَحْفَى: إِذَا سَارَ بِلَا نَعْلٍ وَلَا خُفٍّ، ويُجْمَعُ عَلَى: حُفَاةٍ، واحْتَفَى يَحْتَفِي أَيضًا: إِذَا اجْتَنَى حَشَيشًا.
والحفاوةُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ المُحْتَفِي والمُحْتَفَى بِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَكونُ حَفَاوَتُكَ بِهِ مُجَرُّد اسْتِقْبالِهِ وَلَوْ عَلَى حَصِيرٍ، وتَقْديمِ اليَسِيرَ لَهُ كُوبًا مِنَ الشَّرابِ، ومِنْهم مَنْ تَونُ الحفاوةُ بِهِ بِتزيينِ المَكَانِ وفَرْشِهِ بالفَخْمِ مِنَ الأَثاثِ والفاخِرِ مِنَ الفُرُشِ، وتَقْديمِ المَوائِدِ العامِرةِ بِأَطايِبِ الأَطْعِمَةِ والأَشْرِبَةِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنيٌّ عَلى الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى سيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السّلامُ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. و "سَلَامٌ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ، وَسَوَّغَ الابْتِداءَ بِالنَّكِرَةِ، مَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الدُّعاءِ. و "عَلَيْكَ" على: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ المُبْتَدَأِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، وهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِـ "قَالَ".
قولُهُ: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} السِّينُ: حَرْفُ تَنْفيسٍ للاسْتِقْبالِ القَريبِ، و "أَسْتَغْفِرُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنا) يَعُودُ عَلَى سيِّدنا إِبْرَاهِيمَ ـ عليْهِ السَلامُ. و "لَكَ" اللَّامُ: حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَسْتَغْفِرُ"، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "رَبِّي" اسمٌ منصوبٌ على المفعوليِّةِ، وعلامةُ نَصْبِهِ فتحةٌ مقدَّرةٌ على آخرِهِ منعَ منْ ظهورِها انشِغالُ المحلِّ بالحرَكَةِ المُناسِبةِ للياءِ، وهوَ مُضافٌ. وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِـ "قَالَ".
قوْلُهُ: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. و "كَانَ" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الفتْحِ، واسْمُه ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى اللهِ تَعَالَى. و "بِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "حَفِيًّا"، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "حَفِيًّا" خَبَرُ "كَانَ" منصوبٌ بِهَا، وَجُمْلَةُ "كانَ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ مَقُولُ "قَالَ"، عَلَى كَوْنِهَا مُعَلِّلةً لِمَا قَبْلَها.
قرأَ الجمهورُ: {سلامٌ} بالضمِّ، وَقَرَأَ أَبو البَرَهْسَمِ: "سَلامًا" بالنَّصْبِ، وَتَوْجِيهُها وَاضِحٌ مِمَّا تَقَدَّمَ.