فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْإِخْبَارِ بِحُصُولِ الِاخْتِلَافِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، فقد حَادَ الْأَحْزَابُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَسَلَكوا طُرُقًا أُخْرَى فَاخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ فِي الطَّرَائِقِ الَّتِي سَلَكُوهَا، فَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى شَيْءٍ.
وأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والطَبَرِيُّ، وَابْنُ أَبي حَاتِم عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنْهُ، في قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ" قالَ: هُمْ أُهْلُ الكِتَابِ. وَأَخْرَجَ الطبريُّ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ"، قال: اخْتَلَفُوا فِيهِ فَصَارُوا أَحْزابًا.
وَالأَحْزابُ: جَمْعُ حِزْبٍ، وُهُمُ الطائفةُ مِنَ النَّاسِ يَجْتَمْعُونَ حَوْلَ مَبْدَأٍ مِنَ المَبَادِئِ، أَوْ رَأْيٍ مَن الآراءِ يَعْتَقِدُونَهُ، وَيَسيرونَ في حياتِهِمْ عَلَى وِفْقِهِ، ويُخْضِعونَ لِخِدْمَتِهِ حَرَكَةَ حَياتِهِم، وَيُدافِعُونَ عَنْهُ. وهُمْ هنا قومُ سَيِّدِنا عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، آمَنُوا بِهِ، لَكِنَّهمُ اخْتَلَفُوا فيهِ، فَمِنْهم مَنْ قَالَ: هوَ الإِلَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هو ابْنُ الإلَهِ، وَمِنْهُم مَنْ قالَ: هوَ ثالثُ ثَلاثَةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَمَاهُ بِالسِّحْرِ، ومنهم مِنْ قَالَ عَنْهُ: هُوَ ابْنُ زِنًى. نَسْتَغْفِرُ اللهَ مِمَّا قالَهُ أُولئكَ الظَّالِمُونَ المُشْرِكونَ الكافِرونَ.
وَقَدْ كَانَ النَّصَارَى فِي حَيَاةِ الْحَوَارِيِّينَ موحِّدينَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ حَدَثَ الِاخْتِلَافُ فِي تَلَامِيذِهِمْ، وانْحَلَّ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهم إِلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ هيَ: الْمَلْكَانِيَّةُ (وَتُسَمَّى الْجَاثُلِيقِيَّةَ)، وَالْيَعْقُوبِيَّةُ، وَالنَّسْطُورِيَّةُ.
ثُمَّ انْشَعَبَتْ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ عِدَّةُ فِرَقٍ ذَكَرَهَا الشَّهْرَسْتَانِيُّ، وَمِنْهَا الْأَلْيَانَةُ، وَالْبِلْيَارِسِيَّةُ، وَالْمِقْدَانُوسِيَّةُ، وَالسِّبَالِيَّةُ، وَالْبُوطِينُوسِيَّةُ، وَالْبُولِيَّةُ، ومِنْهَا فِرْقَةٌ كَانَتْ فِي الْعَرَبِ تُسَمَّى الرَّكُوسِيَّةُ وَرَدَ ذِكْرُهَا في حديثِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، إِذْ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطائيِّ: ((إِنَّكَ رَكُوسِيٌّ)). قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الرَّكوسِيَّةُ هِيَ نَصْرَانِيَّةٌ مَشُوبَةٌ بِعَقَائِدِ الصَّابِئَةِ. وَحَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِرْقَةُ الِاعْتِرَاضِيَّةِ (الْبُرُوتِسْتَانُت) أَتْبَاعُ (لُوثِيرَ). وَأَشْهَرُ الْفِرَقِ الْيَوْمَ هِيَ الْمَلْكَانِيَّةُ (كاثوليك)، واليَعْقوبِيَّةُ (أَرْثوذوكس)، والاعْتِراضِيَّةُ (بُروتِسْتَانتْ) .
وَلَمَّا كَانَ اخْتِلَافُهُمْ قَدِ انْحَصَرَ فِي مَرْجِعٍ وَاحِدٍ يَرْجِعُ إِلَى إِلَهِيَّةِ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، اغْتِرَارًا وَسُوءَ فَهْمٍ فِي مَعْنَى لَفْظِ (ابْنٍ) الَّذِي وَرَدَ صِفَةً لِلْمَسِيحِ فِي الْأَنَاجِيلِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ وُصِفَ بِذَلِكَ فِيهَا أَيْضًا أَصْحَابُهُ.
فَقَدْ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَيْضًا "أَنْتُمْ أَبْنَاءُ اللهِ". وَفِي إِنْجِيلِ مَتَّى الْحَوَارِيِّ وَإِنْجِيلِ يُوحَنَّا الْحَوَارِيِّ كَلِمَاتٌ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ إِنْسَانٍ وَأَنَّ اللهَ إِلَهُهُ وَرَبُّهُ.
ثُمَّ انْحَصَرَتْ مَذَاهِبُهُمْ فِي الْكُفْرِ بِاللهِ فَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِقَوْلِهِ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ، فَشَمِلَ قَوْلُهُ (الَّذِينَ كَفَرُوا) هَؤُلَاءِ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ مِنَ النَّصَارَى وَشَمِلَ الْمُشْرِكِينَ غَيرهم.
وَقَالَ عبدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: فيما رُوِيَ عنْهُ: المُرادُ بِالأَحْزَابِ همُ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ تعالى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَّبُوهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. واللهُ أعلمُ.
وَالْوَيْلُ حَاصِلٌ لَهُمْ فِي الِاحْتِمَالَاتِ كُلِّهَا وَقَدْ دَخَلُوا فِي عُمُومِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ، أَيْ نَفَوْا وَحْدَانِيَّتَهُ، فَدَخَلُوا فِي زُمْرَةِ الْمُشْرِكِينَ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ دون الْمُشْركين.
قولُهُ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} الوَيْلُ: اسْمُ وَادٍ في جَهَنَّمَ فيه أَشَدُّ العَذابِ، وَاليَوْمُ العَظِيمٍ هُوَ يَوْمُ القِيَامَةِ، وقد سمَّاهُ اللهُ بِـ "يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ"، و "يومَ يَقومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ"، و "يَوْمَ لَا تَمْلُكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا" و "الأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ" وغيرِها منَ الأَسْماءِ.
والمَشْهَدُ العَظيمُ؛ لِأَنَّهُ يَوْمٌ مَشْهُودٌ يَشْهَدُهُ جَميعُ الخَليقةِ؛ و "مَشْهَد" بوزنِ مَفْعَل: إِمَّا مِنَ الشَّهادَةِ، وَإِمَّا مِنَ الشُّهودِ، الذي هوَ الحُضُورُ. ويَجوزُ أَنْ يُرادَ "مَشْهد" هُنَا الزَّمانُ أَوِ المَكانُ أَوِ المَصْدَرُ، فإِذا كانَ مِنَ الشَّهادَةِ، والمُرَادُ بِهِ الزَّمانُ، فَتَقْديرُهُ: مِنْ وَقْتِ شَهَادَة. وَإِنْ أُريدَ بِهِ المَكانُ فَتَقديرُهُ: مِنْ مَكَانِ شَهَادَةِ يَوْم. وَإِنْ أُريدَ بِهِ المَصْدَرُ فتَقديرُ: مِنْ شَهَادَةِ ذَلِكَ اليَوْمَ، وَأَنْ تَشْهَدَ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُم، وَأَيْديهم، وأَرْجُلُهُم، والمَلائكةُ، وَالأَنْبِيَاءُ. وإِذا كانَ مِنَ الشُّهودِ، وهوَ الحُضُورُ، فتَقديرُهُ: مِنْ شُهُودِ الحِسابِ والجَزَاءِ يَوْمَ القِيامَةِ، أَوْ مِنْ مَكانِ الشُّهودِ فِيهِ وَهُوَ المَوْقِفُ، أَوْ مِنْ وَقْتِ الشُّهودِ؟ وإِذا كانَ مَصْدَرًا بِحالَتَيْهِ المُتَقَدِّمَتَيْنِ، فَتَكونُ إِضافَتُهُ إِلَى الظَّرْفِ مِنْ بابِ الاتِّساعِ، كَقَوْلِهِ تعالى منْ سورةِ الفاتحةِ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} الآية: .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ المَصْدَرُ مُضافًا لِفَاعِلِهِ عَلَى أَنْ يُجْعَلَ اليَوْمُ شاهدًا عَلَيْهِمْ: إِمَّا حَقِيقَةً، وَإِمَّا مَجَازًا.
أَيْ مِنْ شُهُودِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْمَشْهَدُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَالشُّهُودُ الْحُضُورُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُضُورُ لَهُمْ، وَيُضَافَ إِلَى الظَّرْفِ لِوُقُوعِهِ فِيهِ، كَمَا يُقَالُ: وَيْلٌ لِفُلَانٍ مِنْ قِتَالِ يَوْمِ كَذَا، أَيْ مِنْ حُضُورِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَقِيلَ: الْمَشْهَدُ بِمَعْنَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَشْهَدُهُ الْخَلَائِقُ، كَالْمَحْشَرِ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يُحْشَرُ إِلَيْهِ الْخَلْقُ. وَقِيلَ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ حُضُورِهِمُ الْمَشْهَدَ الْعَظِيمَ الَّذِي اجْتَمَعُوا فِيهِ لِلتَّشَاوُرِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى الْكُفْرِ بِاللهِ، وَقَوْلِهِمْ: إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ.
قولُهُ تَعَالَى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} الفاءُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، و "اخْتَلَفَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ. وَ "الْأَحْزَابُ" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهَ، والجُمْلةُ مُستأْنَفَةٌ لا محلَّ لها منَ الإِعْرابِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ للتوكيدِ، متعلِّقٌ بِحالٍ مِنَ "الْأَحْزَابُ" والتقديرُ: حَالَةَ كَوْنِ المُخْتَلِفينَ بَعَضَهم، وَ "بَيْنِهِمْ" مَجْرورٌ بحرْفِ الجَرِّ، وهوَ مُضافٌ، وَالهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ.
قوْلُهُ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} الفاءُ: عَاطِفَةٌ، و "ويلٌ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ، وَسَوَّغَ الابْتِداءَ بهِ بالرَّغْمَ مِنْ أَنَّهُ نَكِرَةٌ، قَصْدُ الدُّعاءِ عَلَيْهِمْ. و "لِلَّذِينَ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ المُبْتَدَأٍ، و "الذين" اسْمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على الفتْحِ في محلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ. وهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ قَبْلَهَا أَعْنِي قَوْلَهُ: "فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ" عَطْفَ اسْمِيَّةٍ عَلَى فِعْلِيَّةٍ. و "كَفَرُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ فارقةٌ، والجملةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "وَيْلٌ"، و "مَشْهَدِ" مَجْرورٌ بحرْفِ الجَرِّ مُضافٌ. و "يَوْمٍ" مَجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. و "عَظِيمٍ" صِفَةٌ لِـ "يَوْمٍ" مجرورةٌ مثلُهُ.