قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قولِهِ تَعَالَى: "مَكَّنَ" عِنْدَ تَفْسِيرِنَا لِلآيةِ: (84)، مِنْ هذِهِ السَّورةِ المُبارَكةِ. فَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ "مَكُنَ"، فيُقالُ: مَكُنَ الرجُلُ مَكَانَةً، وَفُلانٌ "مَكِينٌ" لَدَى السُّلْطانِ، وَ "قَوْمٌ مُكَنَاءُ"، وَ "مَكَّنَ" الرَّجُلُ غَيْرَهُ مِنَ الأَمْرِ، إِذَا ثَبَّتَهُ فِيهِ، وَجَعَلَهُ ذَا تَمَكُّنٍ وثَبَاتٍ. وَيقالُ أَيْضًا "مَكَّنَ لَهُ"، فهما بِمَعْنَى واحِدٍ، وَقِيلَ غيرُ ذَلِكَ ـ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
و "خيرٌ" أَيْ: إنَّ مَا أَعْطانِي رَبِّي مِنَ المَالِ وَالْقُوَّةِ والسَّعَةِ في الدُّنْيَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ الذي عَرْضْتُموهُ عَلَيَّ، فَلَسْتُ بحاجَةٍ إلى الخَرَاجِ الذي تَعْرِضُونَهُ عَلَيَّ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ قَصْدُهُ أَنَّ ما أَعْطانِيهُ اللهُ تَعَالى خَيْرٌ مِنَ السَّدِّ الَّذِي سَأَلْتُمُوهُ، فإِنَّ مَا لَدَيَّ مِنْ عَطَاءِ اللهِ تَعَالَى يَأْتِي بِخَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمْ، فَقدْ يَكونُ لَاحَ لَهُ أَنَّ أُولَئِكَ القومَ ربَّما احْتَالُوا للْمُرُورَ مِنْ بَيْنِ الصَّدَفَيْنِ إِلَى أرضِ هؤلاءِ، فَتَسَلَّقُوا إِلَيْهِمُ الْجِبَالَ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ مِنْ بِلَادَ الصِّينِ، إِنْ سَدَّ عَلَيْهِمُ هذا المَدْخَلَ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ لَهُمْ سُورًا يمْتَدُّ فوقَ الْجِبَالِ عَلَى طُولِ حُدُودِ بِلَادِهم، حتَّى يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ تَسَلُّقُ تِلْكَ الْجِبَالِ، وبِذَلِكَ يُؤمَنُ شرُّهم، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ رَدْمًا، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} أَرَادَ تَسْخِيرَهُمْ للْعَمَل بِأَبْدَانِهم في دَفْعِ الأَذْى عَنْ أنفُسِهُمْ. لِأَنَّ ذَلِكَ البِنَاءَ العَظِيمَ يَتَطَلَّبُ جهدًا عَظيمًا مِنْ عُمَّالٍ كَثِيرِي العَدَدِ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُمْ: "فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ" أَيْ: أَعْينوني بِقُوَّةِ أَبْدَانِكم.
والرَّدْمُ: الْبِنَاءُ الْمُرَدَّمُ، والمُؤلَّفُ مِنْ أَجْزَاءَ وعَلَى مَرَاحِلَ، أَيْ سدًّا مُضاعَفًا مِنْ جِدَارَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ يُرَدَمُ الْفَرَاغُ بَيْنَهُمَا بِخليطٍ مِنَ التُّرَابِ والْحجارةِ وغيرِ ذَلِكَ بحيثُ يَتَعَذَّرُ نَقْبُهُ. مَأْخُوذٌ منَ الثَوْبُ الْمُرَدَّمِ، أَيْ الْمُؤْتَلِفِ مِنْ رِقَاعٍ بعضُها فَوْقَ بعضٍ، فَشَبَّهَهُ بِهِ.
وَالظاهرُ أَنَّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ كانوا شَرًّا مُسْتَطِيرًا وشُؤْمًا عَلَى البَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ، فَقَدْ بَنَى (تِسِينْ شِي هُوَانِغْ تِي) مَلِكُ الصِّينِ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ قَبْلَ مِيلادِ الْسَّيدِ المَسِيحِ عِيسَى بْنِ مَريمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِنَاءً عَجِيبًا أَيْضًا، بَيْنَ البَحْرِ الأَصْفَرِ شَرْقِيَّ مَدِينَةِ "بِكِّينَ" عَاصِمَةِ الصِّينِ، ومَدِينَةِ "مُكَدْنَ" الشَّهِيرَةِ. وَذَلِكَ مِنَ خَطِّ العَرْضِ: (40،4) شَمَالًا، وَخَطِّ الطُولِ: (02، 12)، شَرْقًا، لِيُلاقِي النَّهْرَ الأَصْفَرَ عِنْدَ خَطِّ العَرْضِ وَالْعَرْضُ: (50، 39) شَمَالًا، وخَطِّ الطولِ: (50، 111) شرْقًا، ثُمَّ يَنْعَطِفُ إِلَى جِهَةِ الشَّمَالِ الْغَرْبِيِّ وَيَنْتَهِي بِقُرْبِ الخطِّ: (99) طُولًا شَرْقًا، وَالخَطِّ (40) عَرْضًا إلى الشَمَالِ مِنْهُ. وَقَدْ عَمِلَ فِيهِ المَلَايِّينُ مُدَّةً طويلةً لِيَحْمِيَ شعبَهُ مِنْ أُولئكَ الهَمَجِ، فَكانَ جدارُهُ هَذَا مِنْ عَجَائبِ الدُنيا، إِذْ بَلَغَ طُولُهُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وثَلاثَمِئَةِ كِيلومِتْر، وَسُمْكُهُ عِنْدَ أَسْفَلِهِ نَحْوَ (25) قَدَمًا وَعِنْدَ أَعْلَاهُ نَحْوَ (15) قَدَمًا، بِارْتِفَاعٍ يَتَرَاوَحُ بَيْنَ (15) إِلَى (20) قَدَمًا، وَعَلَيْهِ أَبْرَاجٌ مَبْنِيَّةٌ مِنَ الْقَرَامِيدِ ارْتِفَاعُ بَعْضِهَا نَحْوَ (40) قَدَمًا. وَهُوَ مَبْنِيٌّ بِالْحِجَارَةِ وَالْآجُرِّ وَبَعْضُهُ مِنَ الطِّينِ فَقَطْ. وَهُوَ خَرِبٌ اليَوْمَ وليسُ لَهُ قِيمَةٌ دِفَاعِيَّةٌ ذاتُ شَأْنٍ، لَكِنَّهُ بَقِيَ عَلَامَةً عَلَى الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْمُقَاطَعَاتِ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ حَيْثُ يَفْصُلُ بَيْنَ الصِّينِ وَمَنْغُولِيا.
ومعلومٌ في التاريخِ ما كانَ مِنْ أَمْرِ هؤلاءِ فيما بعدُ حينَ دمَّروا بغدادَ عاصمةِ الخلافةِ الإسلاميةِ زمنَ العباسِّيينَ وحرقوا ما كانَ في مكتباتها مِنْ كُتُبٍ وأَلْقَوْها في نهرِ دِجْلةَ حَتَّى أنَّ ماءهُ ظلَّ مُصْطَبِغًا بلونِ حِبْرِهَا أيامًا عديدةً لجهلهم وهَمَجِيَّتِهم، وعدم تقديرِهم لِقِيمَةِ ما تحويهِ مِنْ عُلُومٍ، وتابَعُوا سَيْرَهُم باتِّجاهِ الجنوبِ فَحَرَقُوا ودمَّروا وقتلوا كُلَّ ما وقفَ في وجههم إلى حدودِ مِصْرَ حيْثُ هُزِمَوا وكُسِرتْ شَوْكَتُهُمْ في معركةِ (عين جالوت)، فَتَلاشَوا وذابوا في المُجتمعِ الإسلامِيِّ.
قولُهُ تَعَالَى: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعود عَلى "ذِي القَرْنَيْنِ" والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعرابِ. و "مَا" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "مَكَّنِّي" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، والنُّونُ للوِقايَةِ، ويَاءُ المُتكلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ. و "فِيهِ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "مَكَّنَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "رَبِّي" فَاعِلُهُ مرفوعٌ بهِ وعلامةُ رَفعِهِ الضَّمَّةُ المُقَدَّرةُ عَلى آخِرِهِ مَنَعَ مِنْ ظُهورِها انْشِغالُ المحلِّ بالحركةِ المُنَاسِبَةِ، وهو مُضافٌ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "خَيْرٌ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مرفوعٌ. وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قَالَ".
قولُهُ: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} فَأَعِينُونِي: الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: إِنْ طَلَبْتُ مِنْكُمُ عَوْنًا فَأَعِينُوني بِقُوَّةٍ. وَ "أَعِينوني" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلى حَذْفِ النُّونِ لأَنَّهُ منَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِليَّةِ، والنُّونُ للوقايَةِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالمَفْعوليَّةِ. و "بِقُوَّةٍ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَعِينوني"، وَ "قُوَّةٍ" مَجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ جَوَابَ الشَرْطِ المُقدَّر في مَحَلِّ الجَزْمِ.
قولُهُ: {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} أَجْعَلْ: فِعْلٌ مُضارِعٌ مَجْزُومٌ بِالطَّلَبِ السَّابِقِ، وفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "أَنَا" يَعودُ عَلى "ذِي القَرْنَيْنِ"، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ عَلى كَوْنِها جَوَابَ شَرْطٍ تَقديرُهُ، إِنْ طَلَبْتُ العَوْنَ فَأَعِينوني. وَ "بَيْنَكُمْ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ المَكانِيَّةِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُوليَّةِ عَلَى كَوْنِهِ المَفْعولَ الثاني لِـ "أَجْعَلْ"، وَهُوَ مُضافٌ، وَكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذكَّرِ. وَ "بَيْنَهُم" مَعْطُوفٌ عَلَى "بَيْنَكم" وَلَهُ مِثْلُ إعْرابِهِ. و "رَدْمًا" مَفْعولٌ بِهِ أَوَّلُ لِـ "أَجْعَلْ" مَنْصوبٌ بِهِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {مَا مَكَّنِّي} بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ. فَقَدْ أَدْغَمُوا النُّونَ فِي نُونِ الوقايةِ لاجْتِماعِ النُّونَيْنِ، وهو كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالى مِنْ سُورَةِ يوسُفَ: {لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} الآيةَ: 11. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ "ما مَكَّنَني" بِفَكِّ النُّونَيْنِ؛ لِأَنَّهُما مِنْ كَلِمَتَيْنِ.