حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْمًا لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} أَيْ: أَيِ اتَّبَعَ طَرِيقًا آخَرَ حَتَّى بَلَغَ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مَعْلُومَيْنِ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: السَّدَّانِ جَبَلَانِ منِيفَانِ فِي السَّمَاءِ مِنْ وَرَائِهِمَا، وَمِنْ أَمَامِهِمَا الْبُلْدَانُ، وَهُمَا بِمُنْقَطَعِ أَرْضِ التُّرْكِ مِمَّا يَلِي أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ، لَا جِبَالَ أَرْمِينِيَةَ وَأَذَربِيجانَ، كَمَا تَوَهَّمَ البَعْضُ. وَذَكَرَ الْهَرَوِيُّ أَنَّهُمَا جَبَلَانِ مِنْ وَرَاءِ بِلَادِ التُّرْكِ. وَقِيلَ: هُمَا جَبَلَانِ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ لَيِّنَانِ أَمْلَسَانِ، يُزْلَقُ عَلَيْهِمَا كُلُّ شَيْءٍ، وَسُمِّيَ الْجَبَلَانِ سَدَّيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَدَّ فِجَاجَ الْأَرْضِ وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا فَجْوَةٌ كَانَ يَدْخُلُ مِنْهَا يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ. فَالْمُرَادُ بِالسَّدَّيْنِ هُنَا إِذًا هَذانِ الْجَبَلَانِ، والتَعْريفُ فيهِ للْجِنْسِ، أَيْ بَيْنِ سَدَّيْنِ مُعَيَّنَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ. والسَّدُّ: بِفَتْحِ السِّينِ، والسُّدُّ: بِضَمِّها: الْجَبَلُ، وَالْجِدَارِ الْفَاصِلِ، والحاجِزُ، لِأَنَّهُ يُسَدُّ بِهِ الْفَضَاءُ، أَوْ يُحْجَزُ خَلْفَهُ الماءُ. وَقِيلَ: السَّدُّ ـ بالْفَتْحِ: هوَ الْحَاجِزُ، وبالضَّمِّ هوَ الْجَبَلُ.
وَالظاهِرُ أَنَّهُ اتَّجَهَ إِلَى الشَّمَالِ، وَقالَ بَعْضُ المُفَسِّرينَ: بأَنَّ "ذَا الْقَرْنَيْنِ" الذي هُوَ الإِسْكَنْدَرُ الْمَقْدُونِيُّ، اتَّجَهَ جِهَةَ السَّدَّيْنِ بَيْنَ (أَرْمِينِيَا وَأَذْرَبِيجَانَ). وقالَ بَعْضُهم: إِنَّ مَوْضِعَ السَّدَّيْنِ هُوَ الشَّمَالُ الْغَرْبِيُّ للصَّحْرَاءِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الصِّينِ وَبِلَادِ الْمَغُولِ شَمَالَ الصِّينِ وَجَنُوبِ (مَنْغُولْيَا). وَقَدْ وُجِدَتْ آثارُ السَّدِّ الذي بَنَاهُ هُنَالِكَ "ذُو القَرْنَيْنِ"، أَوِ "الإسْكَنْدَرُ المَقَدونِيِّ" مَا تَزَالُ قائمَةً إِلَى يَوْمِنا هَذا، يُشَاهِدُها الْجُغْرَافِيُّونَ وَالسَّائِحُونَ، وَيَأْخذونَ عِنْدَها وَلَهَا الصُّوَرَ الشَمْسِيَّةَ، ويَنْشُرونَها فِي كُتُبِ التَّارِيخِ والْجُغْرَافِيَا.
قوْلُهُ: {وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْمًا لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا" أَنَّهُمْ قَوْمٌ فِي غايةِ الْبَلَاهَةِ والغَبَاءِ، والبَدَاوَةِ، لِدرجةٍ يَصْعُبُ مَعَهَا أَنْ يَتَفَاهَمَ مَعَهُم مَنْ يُريدُ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ. ويَجوزُ أَنْ يَكونَ المُرادُ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَيَّ لُغَةٍ أُخْرى غَيْرَ لُغَتِهِمْ، وَأَيْضًا فإِنَّ لُغَتَهُمْ غَيْرُ مَعْروفَةٍ مِنَ الْأُمَمِ الأُخْرَى بِحَيْثُ لَا يَعْرِفُهَا المُتَرْجِمونَ لَدَى "ذِي الْقَرْنَيْنِ" لِأَنَّهُ قَدْ جَرَتْ عَادةُ الْمُلُوكِ أَنْ يَتَّخِذُوا لَهُمْ تَرَاجِمَةً يُتَرْجِمُونَ لَهُمْ لُغَاتِ الْأُمَمِ الأُخَرَى الَّتي يَحْتَاجُونَ إِلَى مُخَاطَبَتِهِا، وَذَلِكَ لأَنَّهم كَانُوا مُنْعَزِلِينَ عَنْ سِواهُم يَتَكَلَّمُونَ يَتَكَلَّمونَ لُغَةً غَرِيبَةً لِانْقِطَاعِ أَصْقَاعِهِمْ، وبُعدِها عَنِ الْأَصْقَاعِ المَأْهولَةِ الْمَعْرُوفَةِ ـ آنذاكَ، فَلَا يُوجَدُ مَنْ يَسْتَطِيعُ إِفْهَامَهُمْ مُرَادَ الْمَلِكِ مِنْهُمْ، وَلَا هُمْ يَسْتَطِيعُونَ إِفْهَامَهُ مَا يُريدونَ مِنْهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} حَتَّى: حَرْفُ جَرٍّ وَغَايَةٍ. و "إِذَا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمانِ خافضٌ لِشَرْطِهِ مُتَعَلِّقٌ بجوابِهِ. و "بَلَغَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعودُ عَلى "ذِي القَرْنَيْنِ". و "بَيْنَ" مَنْصُوبٌ عَلَى المَفْعُوليَّةِ، مُضافٌ، و "السَّدَّيْنِ"، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِإِضافَةِ "إِذَا" إِلَيْها عَلى كَوْنِها فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، والظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِالجَوَابِ الآتي بَعْدَهُ.
قوْلُهُ: {وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْمًا} وَجَدَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، وَفاعِلُهُ ضِميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعودُ عَلى "ذِي القَرْنَيْنِ". و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِمَفْعولٍ ثانٍ لِـ "وَجَدَ"، و "دُونِهِمَا" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، و "هما" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليْهِ. و "قَوْمًا" مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ لِـ "وَجَدَ"، وَالجُمْلَةُ جَوَابُ "إِذَا"، وَجُمْلَةُ "إِذَا" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِـ "حَتَّى" وَ "حَتَّى" حرفُ جَرٍ مُتَعَلِّقٌ بِالفعلِ "أَتْبَعَ"، وَالتَقْديرُ: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا إِلَى وُجْدانِهِ قَوْمًا مِنْ دُونِ السَّدَّيْنِ وَقْتَ بُلوغِهِ بَيْنَهُما.
قولُهُ: { لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} لا: نَافِيَةٌ، وَ "يَكَادُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ ناقِصٌ مرفوعٌ، وعَلامَةُ رفعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ. ووَاوُ الجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ في محلِّ الرَّفعِ اسْمُ "يكادُ". و "يَفْقَهُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ، وعَلامَةُ رفعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ. ووَاوُ الجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، وَ "قَوْلًا" مَفْعُولٌ بِهِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ خَبَرُ "كادَ" وَجُمْلَةُ "كاد" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ صِفَةُ قَوْمًا".
قرَأَ الجُمهورُ: {السُّدَّيْنِ}، و {سُدًّا} بِضَمِّ السِّينِ هُنَا وَفي سورةِ (يس). وَقَرَأَ ابْنُ كَثيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: "السَّدَّيْنِ" وَ "سَدَّا" بِفَتْحِ السِّينِ فِي هَذِهِ السُّورةِ، وَقَرَأَ حَفْصٌ بِفَتْحِ الجَميعِ، أَيْ في مَوْضِعَيْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمَوْضِعَيْ سُورةِ (يس). وَقَرَأَ الأَخَوانِ (حمزةُ والكِسائيُّ) بِفَتْحِ "سَدًّا" و وضَمِّ "السُّدَّيْنِ" فِي السُّورَتَيْنِ. قِيلَ: هُمَا بِمَعْنى وَاحِدٍ. وَقِيلَ: المَضْمُومُ مَا كانَ مِنْ فِعْلِ اللهِ تَعَالَى، وَالمَفْتُوحُ مَا كانَ مِنْ فِعْلِ النَّاسِ. وَرُوِيَ هذا عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالكِسَائِيَّ وأبي عُبَيْدٍ. وَهوَ مَرْدودٌ: بِأَنَّ السَّدَّيْنِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ جَبَلانِ، بَنَى "ذو القَرْنَيْنِ" بَيْنَهُما سَدًّا، فَهُمَا مِنْ فِعْلِ اللهِ، والسَّدُّ الذي بَنَاهُ "ذو القرنَيْنِ" مِنْ فِعْلِ المَخْلوقِ. وَفي (يَس): "سَدًّا" مِنْ فِعْلِ اللهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ: "وَجَعَلْنا"، وَمَعَ ذَلِكَ قُرِئَ في الجَميعِ بِالفَتْحِ وَالضَمِّ. فَعُلِمَ أَنَّهُما لُغَتَانِ كَ "الضَّعْفِ" وَ "الضُّعْفِ" وَ "الفَقْرِ" و "الفُقْر". وَقَالَ الخَليلُ: المَضْمومُ اسْمٌ، وَالمَفْتوحُ مَصْدَرٌ. وَهُوَ الاخْتِيارُ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {يَفْقَهُونَ} بِفَتْحِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْقَافِ، أَيْ لَا يَفْهَمُونَ قَوْلَ غَيْرِهِمْ. وَقَرَأَ الأَخَوانِ (حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ): "يُفْقِهون" بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِفْهَامَ غَيْرِهِمْ مَا يَقَوْلُونَ.