حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} أَيْ: المَكانَ أَوِ المَوْضِعَ مِنَ الأَرْضِ المَعْمُورَةِ الذي تَطْلُعُ مِنْهُ الشَّمْسُ أَوَّلًا. وَمَطْلِعُ الشَّمْسِ: جِهَةُ الْمَشْرِقِ مِنْ سُلْطَانِهِ وَمَمْلَكَتِهِ، بَلَغَ جِهَةً قَاصِيَةً مِنَ الشَّرْقِ حَيْثُ يُخَالُ أَنْ لَا عُمْرَانَ وَرَاءَهَا، فَالْمَطْلِعُ مَكَانُ الطُّلُوعِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَلَغَ سَاحِلَ بَحْرِ الْيَابَانِ فِي حُدُودِ مَنْشُورْيَا أَوْ كُورْيَا شَرْقًا.
قولُهُ: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} وَجَدَ "ذُو القَرْنَيْنِ" عِنْدَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ قَوْمًا مِنَ النَّاسِ تَطَلُعُ عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ لَيْسَ لَهُمْ مَا يَسْتُرُ أَجْسادَهُمْ مِنْ حَرِّها لا جَبَلٌ أَوْ بِنَاءٌ أَوْ شَجَرٌ أَوْ لِبَاسٌ، فَهِيَ أَرْضٌ مَكْشُوفَةٌ لِلشَّمْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عُرَاةً فَكَانُوا يَتَّقُونَ شُعَاعَ الشَّمْسِ فِي الْكُهُوفِ أَوْ فِي أَسْرَابٍ يَتَّخِذُونَهَا فِي التُّرَابِ. فَالْمُرَادُ بِالسِّتْرِ مَا يَسْتُرُ الْجَسَدَ. فَقِيلَ هُمُ الزَّنْجِ. وَكَانُوا قَدْ تَعَوَّدُوا مُلَاقَاةَ حَرِّ الشَّمْسِ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَتَعَرَّضُونَ للشَّمْسِ لِيَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَا يُلَاقُونَهُ مِنَ الْقُرِّ لَيْلًا.
وَالْقَوْمُ هُنَا الزِّنْجُ. وَقَالَ قَتَادَةُ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ: هُمُ الْهُنُودُ وَمَا وَرَاءَهُمْ. وَالسِّتْرُ الْبُنْيَانُ، أَوِ الثِّيَابُ، أَوِ الشَّجَرُ وَالْجِبَالُ، أَقْوَالٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا شَيْءَ لَهُمْ يَسْتُرُهُمْ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ. وَقِيلَ: تَنْفُذُ الشَّمْسُ سُقُوفَهُمْ وَثِيَابَهُمْ فَتَصِلُ إِلَى أَجْسَامِهِمْ. فَقِيلَ: إِذَا طَلَعَتْ نَزَلُوا الْمَاءَ حَتَّى يَنْكَسِرَ حَرُّهَا قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهم. وَقِيلَ: يَدْخُلُونَ أَسْرَابًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ ـ رضيَ اللهُ عنْهُ: السُّودَانُ عِنْدَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ أَكْثَرُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ مِنَ اللَّفْظِ أَنَّهَا عِبَارَةٌ بَلِيغَةٌ عَنْ قُرْبِ الشَّمْسِ مِنْهُمْ، وَفِعْلُهَا بِقُدْرَةِ اللهِ فِيهِمْ وَنَيْلُهَا مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُمْ أَسْرَابٌ لَكَانَ سِتْرًا كَثِيفًا انْتَهَى. وَقَالَ عبدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدٍ البَكْريُّ:
بِالزِّنْجِ حَرٌّ غَيَّرَ الْأَجْسَادَا ................... حَتَّى كَسَى جُلُودَهَا سَوَادَا
وَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قُوَّةِ حَرِّ الشَّمْسِ عِنْدَهُمْ وَاسْتِمْرَارِهَا. وَرُوِيَ عَنْ كَعْبِ الأَحْبارِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: أَنَّ أَرْضَهُمْ لَا تُمْسِكُ الأَبْنِيَةَ وَبِهَا أَسْرَابٌ، فإِذا طَلَعَتِ الشَّمْسُ دَخَلُوا الأَسْرَابَ، أَوِ البَحْرَ فإِذَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ خَرَجُوا إِلَى مَعَايِشِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي العَظَمَةِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنُ جُنْدُبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمْ نَجْعَلْ لَهُم مِنْ دُونِهَا سِتْرًا" أَنَّهَا لَمْ يُبْنَ فِيهَا بِنَاءٌ قَطُّ، كَانُوا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ دَخَلُوا أَسْرابًا لَهُم حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ.
وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ، وَالْبَزَّارُ فِي أَمَالِيهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرَا" قَالَ: أَرَضُهُمْ لَا تَحْتَمِلُ الْبِنَاءَ فَإِذا طَلَعَتِ الشَّمْسُ تَغُورُ فِي الْمِيَاهِ، فَإِذا غَابَتْ خَرَجُوا يَتَراعَوْنَ كَمَا تَرْعَى الْبَهَائِمُ ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ: هَذَا حَدِيثُ سَمُرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهمْ بِأَرْضٍ لَا يَثْبُتُ لَهُم فِيهَا شَيْءٌ فَهُمْ إِذا طَلَعَتْ دَخَلُوا فِي أَسْرَابِ حَتَّى إِذا زَالَتِ الشَّمْسُ خَرَجُوا إِلَى حُرُوثِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كَهيلٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: لَيْسَتْ لَهُمْ أَكْنَافٌ إِذا طَلَعَتِ الشَّمْسُ طَلَعَتْ عَلَيْهِم، لأَحَدِهِمْ أُذُنانِ يَفْتَرِشُ وَاحِدَةً وَيَلْبَسُ الْأُخْرَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا" الْآيَةَ: قَالَ: يُقَال لَهُمُ الزُّنْج. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فِي الْآيَةِ، قَالَ: تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ حُمُرٍ قِصَارٌ، مَسَاكِنُهُمُ الغِيرَانُ، فَيُلْقَى لَهُمْ سَمَكٌ، أَكْثَرُ مَعيشَتَهُم.
وفي هَذِهِ الآثارِ مَا هوَ غريبٌ لا يُصَدِّقُهُ العَقْلُ خَاصَّةً في هَذَا العَصْرِ الذي غَزَا فيهِ الإنسانُ الفَضَاءَ، وأَخْضَعَ الكُرَةَ لِتَصْويرٍ دَقيقٍ وَمُرَاقَبَةٍ دَؤوبٍ، وَجَابَ البِحارَ والمُحيطاتِ، وَسَبَرَ قِيعانَهَا، واطَّلَعَ عَلَى أَسْرارها ومَجَاهِلِها، ولَمْ يَثْبُتُ في ذَلِكَ كُلِّهِ وُجُودُ بَشَرٍ هَذِهِ صِفاتُهُم، ك (لأَحَدِهِمْ أُذُنانِ يَفْتَرِشُ وَاحِدَةً وَيَلْبَسُ الْأُخْرَى). وأَظُنَّها مِنْ أَوْهامِ الأُمَمِ السَّابِقَةِ، المَعروفةِ بِـ (الإسْرائِليَّاِ) فَشَتْ بَيْنَ المُسْلِمِينَ فرووها كما هي على عُهْدَةِ الراوي، فما أَثْبَتَهُ العِلْمُ مِنْهَا قَبِلْنَاهُ، وَمَا لَمْ يَثْبُتْ بِوَحْيٍّ صَريحٍ أَوْ خَبَرٍ صَحِيحٍ، أَو عِلْمٍ موثوق بِهِ تَرَكْنَاهُ.
إِذًا لَمْ يَبْقَ أَمَامَنا إِلَّا تَجَاهُلُ هذِهِ الأَخْبَارِ لأَنَّهُ لمْ يَصِحَّ نَقْلُ شَيْءٍ مِنَها، أَوْ أَنَّ هَذِهِ المخلوقاتِ الَّتي وُصِفَتْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ العجيبةِ الغريبةِ كانَتْ مَوْجودةً في ذَلِكَ العَصْرِ، ثُمَّ ما لَبِثَتْ أَنْ هَلَكَتْ، وانْقَرَضَتْ، وبادَتْ، واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ تَعَالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} حَتَّى: حَرْفُ جَرٍّ وَغَايَةٍ. وَ "إذا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ، خافضٌ لِشَرطِهِ مُتَعلِّقٌ بِجَوابِهِ. وَ "بَلَغَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على الفتحِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى "ذِي القَرْنَيْنِ". و "مَطْلِعَ" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ، وهوَ مُضافٌ. و "الشَّمْسِ" مَجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِإضَافَةِ "إِذَا" إِلَيْهَا عَلَى كَوْنِهَا فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِالجَوَابِ الآتي بَعْدُ.
قولُهُ: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ} وَجَدَهَا: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى "ذِي القَرْنَيْنِ" وَ "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ جَوَابُ "إِذَا" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. وَجُمْلَةُ "إِذَا" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِـ "حَتَّى"، وَحَتَّى مُتَعَلِّقَةٌ بِـ "أَتْبَعَ" وَالتَقْديرُ: "ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا" إِلَى وُجْدَانِهِ الشَّمْسَ طَالِعَةً عَلَى قَوْمٍ وَقْتَ بُلُوِغِهِ "مَطْلِعَ الشَّمْسِ". و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَطْلُعُ"، و "قَوْمٍ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ. وَجُمْلَةُ "تَطْلُعُ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ مَفْعُولِ "وَجَدَ" أَوْ هيَ مَفْعُولٌ ثانٍ لَهُ.
قولُهُ: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} لَمْ: حَرْفُ جَزْمٍ ونَفْيٍّ وَقَلْبٍ. و "نَجْعَلْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لَمْ"، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُستترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "نَحْنُ" يَعودُ عَلى اللهِ ـ تَعَالَى. و "لَهُمْ" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "نَجْعَلْ" في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ ثَانٍ لَهُ، والهاء: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ "سِتْرًا"، و "دُونِهَا" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "سِتْرًا" مَفْعولٌ بِهِ أَوَّلُ لـ "نَجْعَلْ" مَنْصُوبٌ بِهِ، وَجُمْلَةُ "نَجْعَلْ" فِي مَحَلِّ الجَرِّ صِفَةً لـ "قَوْمٍ".
قَرَأَ العامَّةُ: {مَطْلِعَ} عَلَى كَسْرِ اللَّامِ، والمُضَارِعُ يَطْلُعُ بِالضَّمِّ، فَكَانَ القِياسُ فَتْحَ اللَّامِ فِي المَفْعَل مُطْلَقًا، ولكنَّها سُمِعَ فِيهَا الكَسْرُ مَعَ أَخَوَاتٍ لَهَا، وَقِياسُهَا هوَ الفَتْحُ، وَبهِ قَرَأَ ابْنُ الحَسَنِ، وَعِيسَى، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، ورُوِيَتْ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَهْلِ مَكَّةَ أَيَضًا. قَالَ الكِسَائِيُّ: هَذِهِ اللَّغَةُ قَدْ مَاتَتْ، يَعْنِي: كَسْرَ اللامِ مِنَ المُضَارِعِ على وزنِ "مَفْعِل". وَهَذَا يُشْعِرُ أَنَّ مِنَ العَرَبِ مَنْ كانَ يَقُولُ: طَلَعَ يَطْلِعُ بِالْكَسْرِ فِي المُضَارِعِ.