قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا
(110)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ المُنْكِرِينَ صِفَةَ الرَّحْمَن ِللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، المُعَارِضِينَ تَسْمِيَتَهُ بِالرَّحْمَنِ: لاَ فَرْقَ بَيْنَ دُعَائِكُمْ لَهُ بِاسْمِ اللهِ، أَوْ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ، فَإِنَّ الأَسْمَاءَ الحُسْنَى هِيَ للهِ تَعَالَى. وقد دعا اللهُ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى، عِبَادَهُ إِلَى مَعْرِفَةِ الاسْمَيْنِ الخَاصَّيْنِ، اللَّذَيْنِ فِيهِمَا أَسْرارُ جَمِيعِ الأَسْمَاءِ، وَالصِّفاتِ وَالذَّاتِ، والنُّعُوتِ وَالأَفْعَالِ، فَـ "الرَّحْمَنُ" اسْمُ عَيْنِ الجَمْعِ، و "اللهُ" اسْمُ عَيْنِ جَمْعِ الجَمْعِ، وَالرَّحْمَنُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ اسْمِهِ: "الله" لِأَنَّهُ عَيْنُ الكُلِّ، فَإِذَا قُلْتَ: "الله" فقد ذَكرْتَ عَيْنَ الكُلِّ. وَبِهِ يَفْنَى الكُلُّ، وإذَا قُلْتَ: "الرَّحْمَن" يَبْقَى الكُلُّ لأَنَّ هَذَا الاسْمَ يَقْتَضِي أَنْ يُوجَدَ مَنْ يَشْمَلُهُمُ الرحمنُ بِرَحْمَانِيَّتِهِ.
قَوْلُهُ: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} هوَ رَدٌّ على المشركينَ وَتَعْلِيمٌ لهم بِأَنَّ تَعَدُّدَ الْأَسْمَاءِ لَا يَقْتَضِي تَعَدُّدَ الْمُسَمَّى، وَشَتَّانَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ دُعَاءِ الْمُشْرِكِينَ آلِهَةً مُخْتَلِفَةَ الْأَسْمَاءِ وَالْمُسَمَّيَاتِ، وَالتَّوْحِيدُ وَالْإِشْرَاكُ يَتَعَلَّقَانِ بِالذَّوَاتِ لَا بِالْأَسْمَاءِ. فإِنَّ مِنْ عَظِيمِ نِعْمَتِهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، عَلَى أَوْلِيائِهِ تَنَزُّهُهُمْ بِأَسْرَارِهِمْ فِي رِياضِ ذِكْرِهِ بِتَعْدَادِ أَسْمَائِهِ الحُسْنَى مِنْ رَوْضَةٍ إِلَى رَوْضَةٍ، وَمَنْ مَأَنَسٍ إِلَى مَأْنَسٍ. فإنَّ تَنَزُّهَ الأَغْنِيَاءِ فِي بَسَاتِينِهِمْ، وَتَنَزُّهَ الأَوْلِيَاءِ فِي مَشَاهِدِ تَسْبِيحِهِمْ، يَسْتَرْوِحُونَ إِلَى مَا يَلُوحُ لِأَسْرارِهِمْ مِنْ كُشُوفاتِ جَلالِ مولاهُم وَجَمَالِهِ.
قولُهُ: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} وَلَا تَجْهَرْ: بِالقِرَاءَةِ في صَلاتِكَ حَتَّى تُسْمِعَ المُشْرِكِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى السَّبِّ والشَّتْمِ وَاللَّغْوِ فِيهَا والتشْويشِ عَلَيْهَا. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ بِمَكَّةَ فَيُؤْذَى، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَقَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذا جَهَرَ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلِّي تَفَرَّقُوا عَنْهُ، وأَبَوْا أَنْ يَسْتَمِعُوا مِنْهُ فَكَانَ الرَّجُلُ إِذا أَرَادَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْضَ مَا يَتْلُو وَهُوَ يُصَلِّي، اسْتَرَقَ السَّمْعَ دُونَهُمْ فَرَقًا مِنْهُم، فَإِنْ رَأَى أَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ يَسْتَمِعُ، ذَهَبَ خَشْيَةَ أَذَاهُمْ فَلَمْ يَسْتَمِعْ. فَإِنْ خَفَضَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَسْتَمِعِ الَّذينَ يَسْتَمِعُونَ مِنْ قِرَاءَتِهِ شَيْئًا. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ" فَيَتَفَرَّقُوا عَنْكَ، و "وَلَا تُخَافِتْ بِهَا" فَلَا تُسْمِعُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْمَعَهَا مِمَّنْ يَسْتَرِقُ ذَلِكَ، فَلَعَلَّهُ يَرْعَوِي إِلَى بَعْضِ مَا يَسْتَمِعُ فَيَنْتَفِعُ بِهِ "وابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ" وَلَا تُصَلِّ مُرَاءَاةَ النَّاسِ، "وَلَا تُخَافِتْ بِهَا" قَالَ: لَا تَدَعْهَا مَخَافَةَ النَّاسِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا" قَالَ: لَا تُصَلِّهَا رِيَاءً، وَلَا تَدَعْها حَيَاءً.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ" قَالَ: ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ وَالْمَسْأَلَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ" لَا تَجْعَلْهَا كُلَّهَا جَهْرًا، و "وَلَا تُخَافِتْ بِهَا" قَالَ: لَا تَجْعَلْ كُلَّهَا سِرًّا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي دَاوُدَ فِي (الْمَصَاحِفِ) عَنْ أَبي رَزينٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، "وَلَا تُخَافِتْ بِصَوْتِكَ وَلَا تُعَالِ بِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، والحَسَنَةُ بَيْنَ تِلْكَ السَّيِّئَتَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ أَبي قُلَابَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا.
قولُهُ: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} واطْلُبُ بَيْنَهُمَا سَبِيلًا وَسَطًا فَإِنَّ الاعْتِدَالَ والتَوَسُّطَ مَحْبُوبٌ مَطْلُوبٌ في الأُمُورِ جَمِيعِها. كَمَا أَنَّ التَطَرُّفَ مَرْغُوبٌ عَنْهُ فِي كُلِّ الأُمُورِ. والسَّبِيلُ الوسَطُ بينَ الجهرِ والإسْرارِ هُوَ أَنْ يقرأَ بحيثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ فقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمْ يُخَافِتْ مَنْ أَسْمَعَ أُذُنَيْهِ. وَقِيلَ: وابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا بِالإِسْرارِ نَهَارًا والجَهْرِ لَيْلًا.
وَقَدْ وَرَدَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ أَحاديثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أُمِّ المُؤْمِنِينَ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَجْهَرُ بِالدُّعَاءِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا اللهُ، يَا رَحْمَنُ. فَسَمِعَهُ أَهْلُ مَكَّةَ، فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: "قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ" الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَكَّةَ ذَاتَ يَوْمٍ فَدَعَا رَبَّهُ فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: يَا اللهُ، يَا رَحْمَنُ. فَقَالَ الْمُشْركُونَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئِ يَنْهَانَا أَنْ نَدْعُوَ إِلَهَيْنِ، وَهُوَ يَدْعُو إِلَهَيْنِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: "قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ" الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَاتَ يَوْمٍ فِي حَرْثٍ، فِي يَدِهِ جَرِيدَةٌ، فَسَأَلَهُ الْيَهُودُ عَنِ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ لَهُمْ كَاهِنٌ بِالْيَمَامَةِ يُسَمُّونَهُ الرَّحْمَنَ، فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: "قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ فِي (المُصِّنْفِ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذا صَلَّى عِنْدَ الْبَيْتِ جَهَرَ بِقِرَاءَتِهِ، فَكَانَ الْمُشْركُونَ يُؤْذُونَهُ، فَنَزَلَتْ "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ" الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا صَلَّى يَجْهَرُ بِصَلَاتِهِ، فَآذَى ذَلِك الْمُشْرِكِينَ فَأَخْفَى صَلَاتَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلِذَلكَ قَالَ اللهُ تَعَالى: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا" وَقَالَ: فِي سُورةِ الْأَعْرَافِ: {وَاذْكُرْ رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} الآيَةَ: 205.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بهَا" قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا دَعَا فِي الصَّلَاةِ رَفَعَ صَوْتَهُ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ مُسَيْلَمَةُ الْكَذَّابُ قَدْ تَسَمَّى الرَّحْمَنَ، فَكَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى فَجَهَرَ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَن الرَّحْيمِ، قَالَ الْمُشْركُونَ: يَذْكُرُ إِلَهَ الْيَمَامَةِ. فَأَنْزَلَ اللهُ "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ فِي (المُصَنَّفِ) عَنْ سَعيدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَكَانَ مُسَيْلَمَةُ قَدْ تَسَمَّى الرَّحْمَنَ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: قَدْ ذَكَرَ مُسَيْلَمَةَ إِلَهَ الْيَمَامَةِ، ثُمَّ عَارَضُوهُ بِالمُكَاءِ وَالتَصْدِيَةِ والصَّفِيرِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ" الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا جَهَرَ بِالْقُرْآنِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَيُؤْذونَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالشَّتْمِ، وَذَلِكَ بِمَكَّةَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: يَا مُحَمَّدُ "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا"، لَا تَخْفِضْ صَوْتَكَ حَتَّى لا تَسْمَعُ أُذُنَيْكَ، "وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِك سَبِيلًا" يَقُولُ: اطْلُبِ الإعْلانَ والجَهْرَ وَبَيْنَ التَخَافُتِ وَالجَهْرِ طَرِيقًا. لَا جَهْرًا شَدِيدًا وَلَا خَفْضًا حَتَّى لَا تَسْمَعَ أُذُنَيْكَ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْمَدِينَةِ تَرَكَ هَذَا كُلَّهُ.
وَأَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ فِي (المُصَنَّفِ)، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ في صَحِيحَيْهِما، وَأَبُو دَاوُد فِي (النَّاسِخِ) وَالْبَزَّارُ، والنَّحَّاسُ، وَابْنُ نَصْرٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، فِي سُنَنِهِ، عَنْ السَّيِّدةِ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمنينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّها قَالَتْ: إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا" فِي الدُّعَاءِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ الصِّدِّيقةِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّها قَالَتْ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي التَّشَهُّدِ: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا".
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ" قَالَتْ: نَزَلَتْ فِي الْمَسْأَلَةِ وَالدُّعَاءِ.
وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا صَلَّى عِنْدَ الْبَيْتِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالدُّعَاءِ، وَآذَاهُ الْمُشْرِكُونَ، فَنَزَلَ قولُهُ تَعَالَى: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا".
وَأَخْرَجَ سَعْيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ دَرّاجِ أَبي السَّمْحِ: أَنَّ شَيْخًا مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا" إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ، لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فِي دُعائِكَ، فَتَذْكُرُ ذُنُوبَكَ فَتُسْمَعُ مِنْكَ، فَتُعَيَّرُ بِهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ مَنيعٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ" قَالَ: نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ، كَانُوا يَجْهَرُونَ بِالدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي، فَلَمَّا نَزَلَتْ أُمِرُوا أَنْ لَا يُخَافِتُوا وَلَا يَجْهَرُوا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ فِي (المُصَنَّفِ)، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ أَعْرَابٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ إِذا سَلَّمَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا إِبِلًا وَوِلْدًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبيعِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إِذَا صَلَّى مِنَ اللَّيْلِ خَفَضَ صَوْتَهُ جِدًّا، وَكَانَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إِذَا صَلَّى رَفَعَ صَوْتَهُ جِدًّا. فَقَالَ عُمَرُ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ: يَا أَبَا بَكْرٍ لَوْ رَفَعْتَ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا عُمَرُ لَوْ خَفَضْتَ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا. فَأَتَيَا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَاهُ بِأَمْرِهِمَا، فَأَنْزَلَ اللهُ: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا" الْآيَةَ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَيْهِمَا، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا، وَقَالَ لِعُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا.
وأَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمانِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَانَ إِذا قَرَأَ خَفَضَ، وَكَانَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إِذا قَرَأَ جَهَرَ، فَقِيلَ لِأَبي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا؟ قَالَ: أُنَاجِي رَبِّي، وَقَدْ عَلِمَ حَاجَتي. وَقِيلَ لِعُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا؟ قَالَ: أَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، وَأُوقِظُ الْوَسْنَانَ. فَلَمَّا نَزَلَتْ: "وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا" قِيلَ لِأَبي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ارْفَعْ شَيْئًا. وَقِيلَ لِعُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: اخْفِضْ شَيْئًا.
قولُهُ تَعَالى: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} قُلِ: فِعْلْ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ. و "ادْعُوا فِعْلُ أَمْرٍ مَبنِيٌّ عَلى حَذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بِالفاعِلِيِّةِ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ. وَلفظُ الجَلالَةِ "اللهَ" مَنْصُوبٌ بالمَفْعُوليَّةِ، وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ "قُل".
قولُهُ: {أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ} أَوْ: حرفُ جَرٍّ للتَنْويعِ والتَخيير. و "ادْعُوا" إِعْرابُهُ كَإعْرابِ سابقِهِ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَ "الرَّحْمَنَ" مَنْصُوبٌ بالمَفْعولِيَّةِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى سَابِقَتِها، على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {أَيًّا مَا تَدْعُوا} أَيًّا: اسْمُ شَرْطٍ جَازِمٍ مَنْصُوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ بِـ "تَدْعُوا"، وعلامَةُ نَصْبِهِ ظاهِرةٌ على آخِرِهِ، فَهِيَ عاملةٌ معمولةٌ، وَقدْ نُوِّنَتْ؛ تَعْويضًا عَمَّا فَاتَها مِنَ الإِضَافَةِ، أَيْ: أَيَّ الاسْمَيْنِ تَدْعُوا. وَ "مَا" زَائِدَةٌ زِيدَتْ تَأْكِيدًا لِلإبْهامِ المَفْهُومِ مِنْ "أَيًا". ويَجوزُ أَنْ تكونَ شَرْطِيَّةً وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدًا، كَمَا جُمِعَ بَيْنَ حَرْفَيْ الجَرِّ للتَّأكِيدِ، وحَسَّنَهُ اخْتِلافُ اللَّفْظِ كما في قَوْلِ الأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُر، وهو شاذٌّ:
فَأصْبَحْنَ لا يَسْألْنني عَنْ بِمَا بِهِ ........ أصَعَّدَ في عُلُوِ الْهَوَى أمْ تَصَوَّيَا
فالباءُ بِمَعْنى "عَنْ" وَهِيَ مُؤَكِّدةٌ لَهَا، وَيُؤَيِّد هَذَا مَا قَرَأَ بِهِ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: {أَيًّا مَنْ تَدْعُوا} فَقِيلَ: :مَنْ" تَحْتَمِلُ الزِّيادَةَ عَلَى رَأْيِ الكِسَائِيِّ، كَقَوْلِهِ في قوْلِ الشَّاعِرِ عَنترةَ العَبْسِيِّ:
يَا شَاةَ مَنْ قَنَصَ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ ............ حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ
واحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، وَقد جُمِعَ بَيْنَهُمَا تَأْكِيدًا لِمَا تَقَدَّمَ. و "تَدْعُوا" فعلٌ مُضارعٌ مَجْزُومٌ بِـ "أَيًّا" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وَعَلامَةُ جَزْمِهِ حَذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بِالفاعِلِيِّةِ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَقْديرُهُ: فَهُوَ حَسَنٌ دَلَ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، وَجُمْلَةُ الشَّرْطِ مَعَ جَوَابِهِ، فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ "قُلِ".
ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ "تَدْعُوا" هُنَا مِنَ الدُّعاءِ، وَهوَ النَّداءُ فَيَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ بِمَعْنَى التَسْمِيَةِ فَيَتَعَدَّى لاثْنَيْنِ، إِلَى الأَوَّلِ بِنَفْسِهِ، وإِلى الثاني بِحَرْفِ الجَرِّ، ثُمَّ يُتَّسَعُ فِي الجَارِّ فيُحْذَفُ كما في قولِ الشاعرِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُمِّ الحَكَمِ:
دَعَتْنِي أَخَاهَا أُمُّ عَمْرٍو ، وَلَمْ أَكُنْ ........... أَخَاهَا ولمْ أَرْضَعْ لَهَا بِلَبَانِ
دَعَتْنِي أخَاهَا بَعْدَمَا كَانَ بَيْنَنَا ........... مِنَ الفِعْلِ مَا لَا يَفْعَلُ الأَخَوَانِ
والتقدير: قُلِ: ادْعُوا مَعْبُودَكمْ: بِاللهِ، أَوْ بِالرَّحْمَنِ، بِأَيِّ الاسْمَيْنِ سَمَّيْتُمُوهُ فلا مانِعَ مِنْ ذَلِكَ لأنَّهما اسْمَانِ مِنْ أَسْمائِهِ الحُسْنَى ـ تباركَتْ أَسْماؤُهُ.
قولُهُ: {فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} الفَاءُ: رَابِطَةٌ الجَوَابَ، و "لَهُ" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ. وَ "الْأَسْماءُ" مَرْفوعٌ بالابْتِدَاءِ مُؤَخَّرٌ، و "الْحُسْنى" صِفَةٌ للمبتَدَأِ مرفوعةٌ مِثْلُهُ، وعَلامَةُ الرَّفعِ ضمَّةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلى آخِرِهِ، لِتَعذُّرِ ظهورِها على الأَلفِ، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ عَلى كَوْنِهَا "جَوَابًا" لِـ "أَيْ" الشرطيَّةِ.
قولُهُ: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلا تُخافِتْ بها} الوَاوُ: عَاطِفَةٌ، و "لا" نَاهِيَةٌ جَازِمَةٌ. و "تَجْهَرْ" فعلٌ مُضارِعٌ مَجْزُومٌ بِها، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيِهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتْ) يَعُودُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ، وعَلى كلِّ مَنْ هوَ أهلٌ لهذا الخِطابِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "قُلِ" فَلَا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ. و "بِصَلاتِكَ" الباءُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "سَبيلًا"، أَوْ بِحالٍ مِنْ "سَبيلًا" نَعْتٌ تَقَدَّمَ عَلى مَنْعوتِهِ. و "صَلاتِكَ" مَجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِليْهِ. قوْلُهُ: {وَلا تُخافِتْ بها} مثلُ قَوْلِهِ: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ}، مَعْطُوفٌ عليهِ، ولهُ مثلُ إِعرابِهِ.
قولُهُ: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} الوَاوُ: للعَطْفِ، وَ "ابْتَغِ" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ عَلى حَذْفِ العلَّةِ مِنْ آخِرِهِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وكلِّ منْ هو أهلٌ للتكليفِ بهذا الخطابِ السَّامي، والجُملةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "قُلِ"، فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. و "بَيْنَ" منصوبٌ على الظَّرْفِيَّةِ الاعتباريَّةِ، متعلق بـ "ابْتَغِ"، وهو مُضافٌ، و "ذلِكَ" ذا: اسْمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ مُضافٌ إِلَيْهِ، واللامُ للبُعْدِ، والكافُ للخِطابِ. و "سَبِيلًا" مَفْعولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ.
قرأَ الجُمهورِ: {أَيًّا مَا} فَوَقَفوا عَلى "مَا" لامْتِزَاجِهَا بـ "أَيّْ"، وَلِهَذَا فُصِلَ بِهَا بَيْنَ "أَيّْ" وَبَيْنَ "ما" أُضِيفَتْ إِلَيْهِ في قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ القَصَصِ: {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} الآيَةَ: 28. وَوَقَفَ الأَخَوَانِ (حمزةُ والكِسائيُّ) عَلى "أَيًّا" بِإِبْدَالِ التَنْوينِ أَلِفًا، وَلَمْ يَقِفَا عَلَى "مَا" تَبْيِينًا لانْفِصالِ، "أيَّ" مِنْ "مَا". وَقِيلَ: "ما" شَرْطِيَّةٌ عِنْدَ مَنْ وَقَفَ عَلى "أَيًّا" وَجَعَلَ المَعْنَى: أَيَّ الاسْمَيْنِ دَعَوْتُمُوهُ بِهِ جَازَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ {مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} يَعْنِي أَنَّ "مَا" شَرْطٌ ثَانٍ، و "فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنى" جَوابُهُ، وَجَوَابُ الأَوَّلِ مُقَدِّرٌ. وَهَذَا مَرْدُودٌ بِأَنَّ "مَا" لَا تُطْلَقُ عَلَى آحَادِ أُولِي العِلْمِ، وَبِأَنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي عُمُومًا، وَلَا يَصِحُّ هُنَا، وَبِأَنَّ فِيهِ حَذْفَ الشَّرْطِ وَالجَزَاءِ مَعًا.