وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
قوْلُهُ ـ جَلَّ وَعَلَا: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ} قُرْآنًا: اسْمُ الْقُرْآنِ الكريمِ، أَيْ: الكتابِ الذي نَزَّلَهُ على رَسولِهِ محمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وهو مُشْتَقٌّ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَهِيَ التِّلَاوَةُ، أَيْ كَوْنُهُ كِتَابًا مَقْرُوءًا. وفيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ الَّذِي يُحْفَظُ وَيُتْلَى، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى في أَوَّلِ سُورةِ الحِجْر: {تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ}، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. فَإنَّ لهَذَا الْكِتَاب أَسْمَاء مُختلفةٌ بِاخْتِلَافِ صِفَاتِهِ، فَهُوَ كِتَابٌ، وَقُرْآنٌ، وَفُرْقَانٌ، وَذِكْرٌ، وَتَنْزِيلٌ. وهَذِه الْأَوْصَافُ تَجْرِي عَلَيْهِ ـ كُلُّها أَوْ بَعْضُهَا، بِاخْتِلَافِ الْمَقَامِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 78، مِنْ هذِهِ السُّورةِ المُباركةِ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، وَقَولِهِ مِنْ سُورَةِ المُزَمِّلِ: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} الآيَةَ: 20، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَقَامَ هو الأَمْرُ بِالتِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ مُطْلَقًا، وَقَوْلِهِ في أَوَّلِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا} فِي مَقَامِ كَوْنِهِ فَارِقًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَلِهَذَا لَمْ يُوصَفْ بِالْقُرْآنِ غَيْرُ هَذَا الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلى مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ بينِ جميعِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ التي أُنْزِلتْ عَلَى أَنْبِياءِ اللهِ ـ عليهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
وَ "فَرَقْناهُ" أَيْ: جَعَلْنَاهُ فَرْقًا، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا غَيْرَ مُجْتَمِعٍ صَبْرَةً وَاحِدَةً. يَقولونَ: فَرَّقَ الْأَشْيَاءَ إِذَا بَاعَدَ بَيْنَهَا، وَفَرَّقَ الصَّبْرَةَ إِذَا جَزَّأَهَا. وَيُطْلَقُ الْفَرْقُ عَلَى الْبَيَانِ لِأَنَّ الْبَيَانَ يُشْبِهُ تَفْرِيقَ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِطَةِ، فَيَكُونُ فَرَقْناهُ مُحْتَمِلًا مَعْنَى بَيَّنَّاهُ وَفَصَّلْنَاهُ وَأَقْرَأْنَاهُ.
وأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَرَأَ: "وَقُرْآنًا فَرَّقْنَاهُ" مُثَقَّلَةً. قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ إِلَى السَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ رَمَضَانَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَكَانَ الْمُشْركُونَ إِذا أَحْدَثُوا شَيْئًا، أَحْدَثَ اللهُ لَهُم جَوَابًا، فَفَرَّقَهُ اللهُ فِي عِشْرينَ سَنَةً.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِم، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي (الْمَصَاحِف) مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنْ عِنْدِ اللهِ، مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَفَرَةِ الْكِرَامِ الْكَاتِبينَ، فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَنَجَّمَتْهُ السَّفَرَةُ عَلَى جِبْرِيلَ عِشْرينَ لَيْلَةً، ونَجَّمَهُ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عِشْرينَ سَنَةً. فَقَالَ الْمُشْركُونَ: لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً. فَقَالَ اللهُ تَعَالى: {كَذَلِك لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} الآيَةَ: 32، مِنْ سورةِ الْفرْقَانِ. أَيْ: نَزَّلْنَاهُ عَلَيْكَ مُتَفَرِّقًا لِيَكُونَ عِنْدَكَ جَوَابُ مَا يَسْأَلُونَكَ عَنْهُ، وَلَو أَنزَلْنَاهُ عَلَيْكَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ سَأَلُوكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ جَوَابُ مَا يَسْأَلُونَ عَنْهُ.
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، حَتَّى وُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ، فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ونَزَّلَهُ جِبْرِيلُ عَلَى رَسولِهِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِجَوَابِ كَلَامِ الْعِبَادِ وَأَعْمِالِهِمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، مِنْ طَرِيقِ أَبي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ قَرَأَهَا مُثَقَّلَةً، يَقُولُ: أُنْزِلَ آيَةً، آيَةً.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمَانِ عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الخطابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ خَمْسَ آيَاتٍ، خَمْسَ آيَاتٍ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ ـ عَليهِ السَّلامُ، كَانَ يَنْزِلُ بِالْقُرْآنِ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَمْسًا خَمْسا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ، قَالَ: كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يُعَلِّمُنَا الْقُرْآنَ خَمْسَ آيَاتٍ بِالْغَدَاةِ، وَخَمْسَ آيَاتٍ بالْعَشِيِّ، ويُخْبِرُ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِالْقُرْآنِ خَمْسَ آيَاتٍ خَمْسَ آيَاتٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ" قَالَ: فَصَّلْنَاهُ، "عَلَى مُكْثٍ" بِأَمَدٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "عَلَى مُكْثٍ" قال: فِي تَرَسُّلٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الضِّرِّيسِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ" الْآيَةَ، قَالَ: لَمْ يَنْزِلْ فِي لَيْلَةٍ وَلَا لَيْلَتَيْنِ، وَلَا شَهْرٍ وَلَا شَهْرَيْنِ، وَلَا سَنَةٍ وَلَا سَنَتَيْنِ، وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ عِشْرُونَ سَنَةً، أَوْ مَا شَاءَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الضِّرِّيسِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: كَانَ يُقَالُ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى نَبِيِّ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثَمَان سِنِينَ بِمَكَّةَ وَعَشْرًا بَعْدَمَا هَاجَرَ.
وَكَانَ قَتَادَةَ يَقُولُ: عَشْرٌ بِمَكَّةَ وَعَشْرٌ بِالْمَدِينَةِ. واللهُ أَعْلمُ.
قولُهُ: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} أَيْ: لِتَبَلِّغَهُ للنَّاسِ، وَ "عَلَى مُكْثٍ" أَيْ: حَالَةَ كَوْنِكَ مُتَمَهِّلًا، وَمُتَأَنِّيًا، وَقارِئًا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، رِعَايَةً لِمَصَالِحِ العِبَادِ، وَمَعَايِشِهِمْ، والمُكْثُ: التَطَاوُلُ فِي المُدَّةِ، وَفِيهِ ثَلاثُ لُغَاتٍ: الضَمُّ والفَتْحُ ـ وَنَقَلَ القِرَاءَةَ بِهِمَا الحُوفِيُّ وَالعُكْبُريُّ أَبُو البَقَاءِ. وَالكَسْرُ، وَلَمْ يُقْرَأْ بِهِ ـ فِيمَا عَلِمْنا. وَفِي فِعْلِهِ الفَتْحُ وَالضَّمُ، فَتقولُ: "مَكَثَ" وَ "مَكُثَ".
وَفي هذِهِ الجُمْلَةِ عِلَّتَانِ: أُولاهُما: أَنْ يُقْرَأَ عَلَى النَّاسِ، وَتِلْكَ عِلَّةٌ لِجَعْلِهِ قُرْآنًا، وَالثانيةُ: أَنْ يُقْرَأَ عَلَى مُكْثٍ، أَيْ مَهَلٍ وَبُطْءٍ وَهِيَ عِلَّةٌ لِتَفْرِيقِهِ. وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ أَلْفَاظُهُ وَمَعَانِيهِ أَثْبَتَ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ، والحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
قَوْلُهُ: {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} وهَذِهِ الجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ الأُولَى: "وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ". وَالتَضْعيفُ فِي فِعْلِ "نَزَّلْناهُ" والتَأْكِيدُ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ "تنزيلًا" للإِشَارَةِ إِلَى تَفْرِيقِ إِنْزَالِهِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ مِنَ الآيةِ: 105، التي قبلَ هذهِ: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ}. أَمَّا بَيَانُ الْحِكْمَةِ فقد طُوِيَ هنا لِلِاجْتِزَاءِ بِمَا فِي قَوْلِهِ: "لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ" مِنِ اتِّحَادِ الْحِكْمَةِ. وَهِيَ مَا صُرِّحَ بِهِ في قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ الْفُرْقَانِ: {كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا} الآيةَ: 32.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَذِهِ الجُمْلَةِ المُباركةِ المعنى الآتي: فَرَّقْنَا إِنْزَالَهُ رِعايَةً لِلْأَسْبَابِ وَالحَوَادِثِ. وَفِي كِلا الْوَجْهَيْنِ إِبْطَالٌ لَشُبْهَةِ المُشْرِكِينَ الذينَ قَالُوا: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً} الآيةَ: 32، منْ سورةِ الْفرْقَانِ، واللهُ أَعْلمُ.
قوْلُهُ تعَالَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ} الواوُ: عاطِفَةٌ، و "قُرْآنًا مَنْصُوبٌ عَلَى الاشْتِغَالِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ وُجوبًا، والتَقديرُ: وَفَرَقْنَا قُرْآنًا، فَرَقْنَاهُ، وقَدِ اعْتَذَرَ الشَّيْخُ أَبو حيَّان الأندلُسيُّ عَنْ ذَلِكَ، أَيْ: عَنْ كَوْنِهِ لَا يَصِحُّ الابْتِداءُ بِهِ لَوْ جَعَلْنَاهُ مُبْتَدَأً لِعَدَمِ مُسَوِّغٍ؛ لِأَنَّهُ لا يَجُوزُ الاشْتِغَالُ إِلَّا حَيْثُ يَجُوزُ فِي ذَلِكَ الاسْمِ الابْتِداءُ، بِأَنَّ ثَمَّ مَحْذُوفَةً، والتَقْدِيرُ: وَقُرْآنًا، أَيَّ قُرْآنٍ، بِمَعْنى عَظِيمٍ. وَ "فَرَقْناهُ" عَلَى هَذَا لَا مَحَلَّ لَهُ، بِخِلافِ الأَوْجُهِ الآتيَةِ؛ فإِنَّ مَحَلِّهُ النَّصْبُ لِأَنَّهُ نَعْتٌ لِـ "قُرْآنًا"، فإنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يكونَ منصوبُ على المَفعوليَّةِ لفعلٍ محذوفٍ، والتقديرُ: وآتَيْناكَ قُرْآنًا، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى في الآيةِ: 101، السابقةِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى}. ويَجُوزُ أَنْ يكونَ نَصْبُهُ عَطْفًا عَلَى الكافِ فِي "أَرْسَلْنَاكَ". قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مِنْ حَيْثُ كانَ إِرْسَالُ هَذَا، وَإِنْزَالُ هَذَا مَعَنًى وَاحِدًا. ويَجُوزُ أَنْ يكونَ مَنْصُوبًا عَطْفًا عَلَى قولِهِ مِنَ الآيةِ التي قبلها: {مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}. قَالَ الفَرَّاءُ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِـ {أَرْسَلْناك}، أَيْ: مَا أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّرًا ونَذِيرًا وَقُرْآنًا، كَمَا تَقُولُ: وَرَحْمَةً لِأَنَّ القُرْآنَ رَحْمَةٌ. يَعْنِي أَنَّهُ جُعِلَ نَفْسُ القُرْآنِ مُرادًا بِهِ الرَّحْمَةُ مُبَالَغَةً، وَلَوِ ادَّعَى ذَلِكَ عَلى حَذْفِ مُضَافٍ كانَ أَقْرَبَ، أَيْ: وَذَا قُرْآنٍ. وَهَذَانِ الوَجْهَانِ الأخيرانِ مُتَكَلِّفَانِ. وهذِهِ الجُمْلَةُ الفِعليَّةُ المَحْذوفَةُ، مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ {أَنزلْناهُ} مِنَ الآيةِ التي قبلَها عَلَى كَوْنِها جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. و "فَرَقْناهُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ مُتَحرِّكٌ هوَ "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبحانَهُ، و "نا" التَعْظِيمِ هذِهِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ رَفعِ فاعِلِهِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمَفْعوليَّةِ، والجُمْلَةُ مُفَسِّرَةٌ للجملةِ المحذوفَةِ، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} اللَّامُ: حَرْفُ جَرٍّ وتَعْلِيلٍ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "فَرَقْناه". وَ "تَقْرَأَهُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةً بَعْدَ لَامِ "كي"، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مسْتترٌ فيهِ وُجُوبًا تَقْديرُهُ "أنتَ" يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمَفْعُولِيَّةِ. وَ "عَلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَقْرَأَ"، وَ "النَّاسِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "عَلى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفٍ، عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الفاعِلِ أَوْ المَفْعُولِ فِي "لِتَقْرَأَهُ"، أَيْ: مُتَمَهِّلًا مُتَرَسِّلًا. وقالَ الحوفيُّ: يجوزُ أَنْ يكونَ بَدَلًا مِنْ "عَلَى النَّاسِ"، وَهُوَ وَهْمٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ "عَلَى مُكْثٍ" مِنْ صِفَاتِ القَارِئِ أَوِ المَقْروءِ، وهَذَ مِنْ جِهَةِ المَعْنَى، وليسَ مِنْ صِفاتِ النَّاسِ حَتَّى يَكونَ بَدَلًا مِنْهُمِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِـ "فَرَقْنَاهُ". وقَالَ الشَّيْخُ أَبو حَيَّان: والظاهِرُ تَعَلُّقُ "عَلَى مُكْثٍ" بِقَوْلِهِ "لِتَقْرَأَهُ"، وَلَا يُبَالَى بِكَوْنِ الفِعْلِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَرْفَا جَرٍّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لأَنَّهُ اخْتَلَفَ مَعْنَى الحَرْفَيْنِ؛ لأَنَّ الأَوَّلَ فَي مَوْضِعِ المَفْعُولِ بِهِ، وَالثاني فِي مَوْضِعِ الحَالِ، أَيْ: مُتَمَهِّلًا مُتَرَسِّلًا. قالَ السَّمِينُ الحَلَبِيُّ: قَوْلُهُ أَوَّلًا إِنَّهُ مُتَعَلَّقٌ بِقَوْلِهِ "لِتَقْرَأَهُ" يُنَافي قوْلَهُ فِي مَوْضِعِ الحَالِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ حَالًا تَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ. لَا يُقالُ: أَرَادَ التَعَلَّقَ المَعْنَوِيَّ لَا الصِنَاعيِّ لِأَنَّهُ قالَ: وَلَا يُبَالَى بِكَوْنِ الفِعْلِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَرْفَا جَرٍّ مِنْ جِنْسِ واحِدٍ، وَهَذَا تَفْسيرُ إِعْرَابٍ لا تَفْسيرُ مَعَنًى. و "مُكْثٍ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعَ أَنْ المُضْمَرَةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِاللَّامِ، والتَقْديرُ: لِقِرَاءَتِكَ إِيَّاهُ "عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ".
قولُهُ: {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} الوَاوُ: للعطْفِ، و "نَزَّلْناهُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السَّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ مُتَحرِّكٌ هوَ "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبحانَهُ، و "نا" التعظيمِ هذِهِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ رَفعِ فاعِلِهِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمَفْعوليَّةِ. و "تَنْزِيلًا" مَنْصُوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ معْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "فَرَقْناهُ"، عَلَى كَوْنِها مُفَسِّرَةً للجُمْلَةِ المَحْذُوفَةِ، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {فَرَقْناه} بالتَخْفِيفِ، أَيْ: بَيَّنَا حَلالَهُ وَحَرَامَهُ، أَوْ فَرَقْنا فيهِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَرَأَ: "وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ" مُخَفَّفًا يَعْنِي بَيَّنَّاهُ. وَقَرَأَ "فَرَّقناهُ" بالتَّشْديدِ، عَلِيُّ بْنُ أَبي طَالبٍ ـ كرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ ورضِيَ عنْهُ وَأَرْضاهُ، وأُبَيُّ بْنُ كعبٍ، وعَبْدُ اللهُ بْنُ مَسعودٍ، وعبدُ اللهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، والشَّعْبِيُّ، وقَتَادَةُ وحُمَيْدٌ في آخَرِينَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهمْ جميعًا. وفي هذِهِ القراءةِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّضْعِيفَ هُنَا للتَكْثيرِ، أَيْ: فَرَّقْنَا آيَاتِهِ بَيْنَ حِكَمٍ وأحكامٍ، وأَمْرٍ وَنَهْيٍ، ومَوَاعِظَ وَأَمْثَالٍ وَقِصَصٍ وأَخْبَارٍ مَاضِيَةٍ وَمُسْتَقْبَلَةٍ. والثانِيَةُ: أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى التَّفْريقِ في نُزُولِهِ وتَنْجِيمِهِ. وذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، أَنَّهُ قَرَأَ مُشَدَّدًا، وَقَالَ: لَمْ يَنْزِلْ فِي يَوْمَيْنِ وَلَا فِي ثَلاثَةٍ، بَلْ كَانَ بَيْن أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ عِشْرِونَ سَنَةً، يَعْنِي أَنَّ "فَرَقَ" بالتَّخْفيفِ يَدُلُّ عَلَى فَصْلٍ مُتَقَارِبٍ. قالَ الشَّيْخِ أَبو حيَّانَ: وَقَالَ بَعْضُ مَنِ اخْتَارَ ذَلِكَ ـ يَعْنِي التَنْجِيمَ، لَمْ يَنْزِلْ في يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ وَلَا شَهْرٍ وَلَا شَهْرَيْن، ولا سَنَةٍ وَلا سَنَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما: كانَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ عِشْرُونَ سَنَةً، كَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في الكشافِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما. وظَاهِرُ هَذَا أَنَّ القَوْلَ بِالتَنْجِيمِ لَيْسَ مَرْويًّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ فَصَلَ قَوْلَهُ: قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ قَوْلِهِ "وَقَالَ بَعْضُ مَنْ اخْتَارَ ذَلِكَ، وَمَقْصُودُهُ أَنَّهُ لَمْ يُسْنِدْهُ لابْنِ عَبَّاسٍ لِيَتِمَّ لَهُ الرَّدُّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ فِي أَنَّ "فَعَّلَ" بِالتَّشْديدِ لا يَدُلُّ عَلَى التَفْرِيقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ مَعَهُ هَذَا المَبْحَثُ أَوَّلَ هَذَا المَوْضُوعِ.