فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا
(103)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ} بعد ما كانَ مِنْ حوارٍ بَيْنَ مَوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وفِرْعونَ، ولمَّا أَقَامَ مُوسَى الحًجَّةَ على فِرْعَونَ، لَجَأَ فرعونُ إلى اسْتِفْزَازِ مُوسَى وَقَوْمِهِ لِيُخْرِجَهم مِنْ أَرْضِ الكِنَانَةِ، مِصر، شأنَ ضعيفِ الحجَّةِ دائمًا إِذَا غُلِبَ في الحوارِ، وعَدِمَ الحجَّةَ لَجَأَ إلى استِخدامِ القوَّةِ. وَالاسْتِفْزَازُ هُوَ الإِزْعَاجُ بِالصُراخِ بِصَوْتٍ عَالٍ، شأْنُ الفارسِ والمبارزِ فإنَّهُ يصيحُ في وجْهِ خَصْمِهِ لِيُزْعِجَهُ ويُخِيفَهُ، ويَشْغَلَهُ عنِ التَفْكِيرِ والتدبيرِ، فَيَقِلَّ تَرْكِيزَهُ، فيَتَغَلَّبَ عَلَيْهِ.
إِذًا لَقَدْ أَرَادَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَطْرُدَ مُوسَى وبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرضِ مِصْرَ كُلِّهَا. وَقِيلَ: أَرادَ وَقِيلَ أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ وَيَسْتَأْصِلَ شَأْفَتَهم، وعَلَيه فالمُرادُ بـ "الأَرْضِ" مُطْلَقُ الأَرْضِ.
قولُهُ: {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} لكنَّ اللهَ تَعَالَى كانَ لهُ بالمرصادِ فأَغْرَقَهُ وجُنودَهُ في اليَمِّ، وأَنْجَى رَسُولَهُ موسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقومَهُ، إِلى الأرضِ المُقدَّسةِ أَرضِ فِلَسْطينَ، وكانَ حقًا عليْهِ يُنَجِّي المُؤمنينَ.
لقد أَرَادَ فِرْعَوْنُ إِهْلاكَ بَنِي إِسْرائيلَ واسْتِئْصالَهم، وَأَرَادَ الحقُّ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، بَقَاءَهُمْ، فَنَصْرَهمْ، وكانَ مَا أَرَادَ الحَقُّ ـ جَلَّ وَعَلا، لَا مَا كَادَ لَهُ اللَّعِينُ.
وفي الآيةِ إِنْذَارٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ عَاقِبَةَ مَكْرِهِمْ بالنبيِّ محمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، وأَصْحابِهِ ـ رُضوانُ اللهِ تعالى عنهم، وَكَيْدِهِمْ لهم، وَأَنَّ مُحَاوَلَاتِهِمْ كلَّها لا شكَّ صَائِرَةٌ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ مَكْرُ فِرْعَوْنَ وَكَيْدُهُ، فَفَرَّعَ عَلَى تَمْثِيلِ حَالَيِ الرِّسَالَتَيْنِ، وَحَالَيِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمَا ذِكْرُ عَاقِبَةِ الْحَالَةِ المُمَثَّلِ بِهَا نَذَارَةً لِلْمُمَثَّلِينَ بِذَلِكَ الْمَصِيرِ. فَقَدْ أَضْمَرَ الْمُشْرِكُونَ إِخْرَاج النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُسْلِمِينَ معَهُ مِنْ مَكَّةَ، فَمُثِّلَتْ إِرَادَتُهُمْ بِإِرَادَةِ فِرْعَوْنَ إِخْرَاجَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ، قَالَ تَعَالَى في الآية: 76، السابقةِ مِنْ هذهِ السُّورةِ المُباركةِ: {وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها، وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ} الفاءُ: عاطِفَةٌ. و "أَرادَ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفَتْحِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلِةِ {قالَ} منَ الآيةِ التي قَبْلَها على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ. و "أَنْ" حرفٌ نَاصِبٌ مَصْدَريٌّ. و "يَسْتَفِزَّهُمْ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَنْصُوبٌ بِهِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى فِرْعَوْنَ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعُوليَّةِ، والميمُ لتَذْكيرِ الجمعِ. و "مِنَ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، و "الْأَرْضِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، والتَقْديرُ: فَأَرَادَ اسْتِفْزَازَهُمْ مِنَ الأَرْضِ.
قولُهُ: {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} الفاءُ: عاطِفَةٌ. و "أَغْرَقْنَاهُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبحانَهُ، و "نا" التَعظِمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمَفْعوليَّةِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَرَادَ" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. و "وَمَنْ" الواوُ: وَاوُ المَعِيَّةِ. و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى كَوْنِهِ مَفْعُولًا بِهِ، ويَجُوزُ عَطْفُهُ عَلَى الضَمِيرِ. و "مَعَهُ" ظَرْفٌ اعْتِبَارِيٌّ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفِ صِلَةٍ لِـ "مَنْ" المَوْصُولَةِ. و "جَمِيعًا" منصوبٌ على الحالِ مِنْ "مَنْ" المَوْصُولَةِ.