قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} أَيْ: قالَ نَبِيُّ اللهُ مُوسَى ـ عليْهِ السَّلامُ: لَقَدْ عَلِمْتَ يَا فِرْعَوْنُ يَقينًا أَنَّني لَسْتُ ساحِرًا، وَلَا مَسْحُورًا، فَقَدْ تَرَبَّيْتُ فِيكُمْ وعِشْتُ بَيْنَكُمْ، تَعْرِفُونَنِي جَيِّدًا، وَأَعْرِفُكُمْ عَنْ قُرْبٍ، وَتعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ الآيَاتِ التي شَاهَدْتَها وَعَايَنْتَها هِيَ مِنَ اللهِ تَعَالَى، رَبِّ السَمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وما فيهِما، وما بَيْنَهُما، لكِنَّكَ تُنْكِرُ ذَلِكَ مُكَابَرَةً مِنْكَ وَعِنَادًا، خَوْفًا مِنْ أَنَّ تُزَلْزِلَ هَذِهِ الآياتُ سُلْطانَكَ، وَتُقوِّضَ عَرْشَكَ، وتَذْهَبُ بِمُلْكِكَ. وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، لِفِرْعَوْنَ وَهُوَ يُكَلِّمُهُ مُبَاشَرَةً، ويُخَاطِبُهُ مُواجَهَةً وكِفاحًا، فَإِنَّ تَاءَ "عَلِمْتَ" هُنَا هِيَ للخِطَّابِ، وهِيَ مَفْتُوحَةٌ بِحَسَبِ قِراءَةِ الجُمْهورِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَرَأَ: "لَقَدْ عَلِمْتَ" بِنَصْبِ الباءِ ـ يَعْنِي فِرْعَوْن، ثمَّ تَلَا {وَجَحَدُوا بِهَا واسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُم} الآية: 14، مِنْ سورةِ النَّمْل.
وَقِيلَ: هِيَ مَضْمُومَةٌ بِحَسَبِ قِرَاءَةِ الكِسائيِّ وَغَيْرِهِ، أَيْ أَنَّ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، هوَ الذي عَلِمَ وَلَيْسَ فِرْعَوْنُ، فقد أَسْنَدَ الفِعْلَ لِضَمِيرِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَيْ: إِنِّي مُتَحَقِّقٌ مِنْ أَنَّ مَا جِئْتُ بِهِ هُوَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ، مُتأكِّدٌ مِنْ ذَلِكَ. وورَدَ عَنْ عَليٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ أَنْكَرَ قِرَاءَةَ الفَتْحَ، وَقَالَ: مَا عَلِمَ عَدُوُّ اللهِ قَطُّ، وَإِنَّما عَلِمَ مُوسَى. جاءَ ذلكَ فيما أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: "لَقَدْ عَلِمْتُ" يَعْنِي بِالرَّفْعِ، قَالَ: وَاللهِ مَا عَلِمَ عَدُوُّ اللهِ، وَلَكِنَّ مُوسَى هُوَ الَّذِي عَلِمَ. وفي التَعَرُّضِ هَهنا لِمَقَامِ رُبوبِيَّتِهِ لِلسَّمَاءِ والأَرضِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِيتاءِ مِثْلِ هذِهِ الآياتِ العَظيمَةِ إِلَّا خَالِقُهُما وَمُدَبِّرُ الأَمْرِ فيهِما. وَ "بَصَائِرَ" جَمْعُ بَصِيرَةٍ، أَيْ يُبَصَرُ بِهَا. وَهِيَ حَالٌ مِنَ الآياتِ، أَيْ: آياتٍ بَيِّنَاتٍ، مَكْشُوفَاتٍ تُبَصَّرُكَ صِدْقِي وَصِحَّةَ دَعْوَايَ.
قوْلُهُ: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} لَقَدْ قَارَعَ ـ علَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ظَنَّ فِرْعَوْنَ بِظَنِّهِ، وَشَتَّانَ ما بَيْنَ الظنَّينِ، ظَنٍّ هُوَ تخمينٌ وتخَرُّصاتٌ وأوهامٌ، وَظَنُّ يِمْتَحُ مِنْ معينِ الصِدْقِ والحَقيقةِ. وَ "مَثْبُورًا" هوَ مِنْ قَوْلِكَ: مَا ثَبَرَكَ عَنْ هَذَا؟ أَيْ مَا صَرَفَكَ. إِذًا فَمَعنَى "مَثْبُورًا": مَصْرُوفًا عَنِ الخَيْرِ، مَطْبُوعًا عَلَى الشَرِّ، أَوْ هَالِكًا. فَالمَثْبُورُ: المُهْلَكُ. يُقَالُ: ثَبَرَهُ اللهُ، أَيْ: أَهْلَكَهُ، ومنهُ قولُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الفُرقانِ: {لَّا تَدْعُواْ اليومَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} الآيةَ: 14. ومِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قوْلُ ابْنِ الزَّبْعَرَى:
إذْ أُجاريْ الشَّيْطانَ فِي سَنَنِ الغَيْــ ............. ـــيِ وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، مِنْ طُرُقٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ قالَ: "مَثْبُورًا" مَلْعُونًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيق عَليِّ بْنِ زيدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وَأَخْرَجَ الشِّيرَازِيُّ فِي (الأَلْقَابِ)، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، مِنْ طَرِيقِ مَيْمُون بْنِ مهْرَان، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ "مَثْبُورًا": قَلِيلَ الْعَقْلِ.
وَأَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُمَا، أَنَّ نَافِعَ ابْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ: "مَثْبُورًا" قَالَ: مَلْعُونًا، مَحْبُوسًا عَنِ الْخَيْرِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي الدُّنْيَا فِي (ذَمِّ الْغَضَبِ) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: "وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا" قَالَ: مُخَالِفًا. وَقَالَ: الْأَنْبِيَاءُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ تَلْعَنَ أَوْ تَسُبَّ.
قولُهُ تَعَالَى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} قالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُوسَى، على سيِّدِنا محمدٍ ـ عَلَيْهِما الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، حسْبَ ما تقدَّمَ في مبحَثِ التفسيرِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ. و "لَقَدْ" اللَّامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ، و "قَدْ" للتَحْقٍيقِ. و "عَلِمْتَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ مُتَحرِّكٍ هو تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعِلِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعليَّةِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةِ هذِهِ جَوَابُ القَسَمِ المَحْذوفِ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ المَحْذُوفِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لـ "قالَ". و "ما" نَافِيَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. و "أَنْزَلَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتْحِ الظاهِرِ. و "هؤُلاءِ" الهاءُ: للتَنْبِيهِ، وَ "أُلاءِ" اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الكَسْرِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالمَفْعُولِيَّةِ. و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ (أَداةُ حصْرٍ) و "رَبُّ" فاعلُهُ مرفوعٌ بِهِ مُضافٌ. و "السَّماواتِ" مجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، وَ "الْأَرْضِ" مَعْطُوفٌ عَلَى "السَّماواتِ" مجرورٌ مِثْلُهُ. و "بَصائِرَ" منصوبٌ عَلَى الحالِ مِنْ "هؤُلاءِ"، أَيْ: أَنَزَلَ اللهُ هَذِهِ الآياتِ بَصَائِرَ، وَإِنَّما احْتَجْنَا إِلى هَذَا التَقْديرِ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ "إِلَّا" لَا يَكُونُ مَعْمُولًا لِمَا قَبْلَهَا، وأَجَازَهُ بَعْضُهم، فَهِيَ حَالٌ مِنْ "هَؤُلاءِ"، وَجُمْلَةُ "أَنْزَلَ" مِنَ الفِعْلِ، والفَاعِلِ، سادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "عَلِمَ" مُعَلِّقَةٌ عَنْهَا بِـ "ما" النَّافِيَةِ. فَهِيَ فِي مَحَلِّ النَّصْبٍ لِأَنَّها مُعَلِّقَةٌ للعِلْمِ قَبْلَهَا.
قولُهُ: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} الواوُ: للعَطْفِ، و "إِنِّي" إنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعلِ، وياءُ المتكَلِّمِ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلٍّ النَّصْبِ، اسْمُهُ. و "لَأَظُنُّكَ" اللامُ المُزحلقةُ للتوكيدِ (حَرْفُ ابْتِدَاءٍ). و "أَظُنُّكَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ. وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فِيِهِ وُجوبًا تقديرُهُ "أَنَا" يَعُودُ عَلى سيِّدِنا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ. و "يا" أَداةٌ للنِّداءِ، و "فِرْعَوْنُ" مُنَادَى مُفْرَدٌ عَلَمٌ مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ النَّصْبِ بالنِّداءِ، وجملةُ النِّداءِ هذِهِ جملةٌ معترِضَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ. و "مَثْبُورًا" مَفْعولٌ بِهِ ثَانٍ لِـ "ظَنَّ". وَجُمْلَةُ "ظَنَّ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا لِـ "إِنَّ"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "عَلِمْتَ" عَلَى كَوْنِهَا جَوَابَ القَسَمِ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قَرَأَ الْعَامَّةُ: {لَقَدْ عَلِمْتَ} بِفَتْحِ التَّاءِ خِطَابًا لِفِرْعَوْنَ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ "عَلَمْتُ" بِضَمِّها، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وَقَالَ: لَمْ يَعْلَمِ الْخَبِيثُ أَنَّ مُوسَى عَلَى الْحَقِّ وَلَوْ عَلِمَ لَآمَنَ وَلَكِنْ مُوسَى هُوَ الَّذِي عَلِمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلِمَهُ فِرْعَوْنُ وَلَكِنَّهُ عَانَدَ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} الآية: 14مِنْ سورةِ النَّمْلِ) وقد تقدَّمَ في مبحثِ التفسيرِ. وَقِرَاءَةُ نَصْبِ التَّاءِ أَصَحُّ فِي الْمَعْنَى، وَهو مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ، لِأَنَّ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مَا كانَ لِيَحْتَجَّ عَلَيْهِ بِعِلْمِ نَفْسِهِ، ثمَّ إنَّ ما رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ ابْنِ زَيْدٍ لَا يَثْبُتُ عَنْهُ وهُوَ رَفْعُ التَّاءِ، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَجُلٍ مَنْ مُرَادٍ، عَنْ عَلِيٍّ، وَفي ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مَجْهُولٌ، وَلَمْ يَتَمَسَّكْ بِهَذِهِ القراءةِ أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ غَيْرُ الْكِسَائِيِّ واللهُ أَعْلمُ.