وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا
(101)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أَيْ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ واضِحَاتٍ دَالَّاتٍ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِ رِسَالَتِهِ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. فَلَمْ يَهْتَدِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ سِحْرٌ، وفي هَذَا مَثَلٌ لِلْمُكَابِرِينَ لِلْمُعَانِدِينَ كُلِّهِمْ، مِنْ قُرَيْشٌ وسِوَاهُمْ. وفِيهِ أَيْضًا تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. وَالْآيَاتُ التِّسْعُ هِيَ: بَيَاضُ يَدِهِ كُلَّمَا أَدْخَلَهَا فِي جَيْبِهِ وَأَخْرَجَهَا، وَانْقِلَابُ الْعَصَا حَيَّةً كلَّما أَلقاها، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالرِّجْزُ وَهُوَ الدُّمَّلُ، وَالْقَحْطُ وَهُوَ السُّنُونَ، وَنَقَصُ الثَّمَرَاتِ، وَهِيَ المَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَاف. وَقد جَمَعَهَا الفَيْرُوزآباديِّ فِي بَيْتٍ مِنَ الشِعْرِ فقَالَ:
عَصًا، سَنَةٌ، بَحْرٌ، جَرَادٌ، وَقُمَّلُ ......... يَدٌ، وَدَمٌ، بَعْدَ الضَّفَادِعِ طُوفَانُ
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاق، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ ـ جلَّ شَأْنُهُ: "وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ" قَالَ: الْيَدُ، والعَصَا، والطُوفانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقَمْلُ، والضَفَادِعُ، وَالدَّمُ، والسِّنِينُ، وَنَقْصٌ مِنَ الثَمَرَاتِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيضًا عنْ مُجَاهِدٍ. والشَّعْبِيِّ. وَقَتَادَةَ. وَعِكْرِمَةَ. وتُعُقَّبَ هَذَا بِأَنَّ السِّنِينَ وَالنَّقْصَ مِنَ الثَمَرَاتِ آيَةٌ واحِدَةٌ، كَمَا رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِالحَسَنِ، إِذْ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأَعْرَافِ: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين، وَنَقْصٍ مّن الثَمَرَاتِ} الآية: 130، يَقْتَضي المُغَايَرَةَ، فَيُحْمَلُ الأَوَّلُ عَلَى الجَدْبِ في بَوَاديهم، والثاني عَلى النُّقْصانِ فِي مَزَارِعِهِمْ، أَوْ عَلى نَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ فِيهِ، فَلَا ضَيْرَ فِي عَدِّهِمَا آيَتَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ. وابْنُ أَبي حاتِمٍ، في رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ الحَبْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهَا يَدُهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولِسَانُهُ، وعَصَاهُ، والبَحْرُ والطُوفانُ، والجَرَادُ، والقُمَّلُ والضَّفَادِعُ والدَمُ. وفي (الكَشَّافِ) للزَّمَخْشَرِيِّ عَنْهُ أَيْضًا ـ رَضيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّها: العَصَا، وَالْيَدُ، والجَرَادُ، وَالقُمَّلُ، والضَّفَادِعُ، والدَّمُ، والحَجَرُ، والبَحْرُ، والطُّورُ الذي نَتَقَهُ اللهُ تَعَالى عَلَى بَني إِسْرائيلَ. وَتُعُقِّبَ هذا بِأَنَّ الحَجَرَ والطُّورَ لَيْسَا مِنَ الآيَاتِ التي ذَهَبَ بِهَا إِلَى فِرْعَوْنَ، وَقَالَ تَعَالَى في سورةِ النَّمْلِ: {في تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوِمهِ} الآية: 12، وَذَكَرَ ـ سُبْحَانَهُ، فِي الآيةِ: 102، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبارَكَةِ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء}، والإِشارَةُ إِلَى الآياتِ. ثُمَّ قالَ الزَّمَخْشَريُّ: والجَوَابُ: جَازَ أَنْ يَكونَ التِسْعُ البَيِّنَاتُ بَعْضًا مِنْها غَيْرَ البَعْضِ مِنْ تِلْكَ التِّسْعِ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ الكُلَّ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وأَمَّا الإِشَارَةُ، فإِلَى البَعْضِ بِالضَرُورَةِ لِأَنَّ الكُلَّ إِنَّما حَصَلَتْ عَلَى التَدْريجِ، وَفَلْقُ البَحْرِ لَمْ يِكُنْ فِي مَعْرِضِ التَحَدِّي بَلْ عِنْدَمَا حَقَّ الهَلَاكُ. انْتَهى. وقولُهُ هَذَا جاءَ خِلافَ الظَّاهِرِ. فإِنَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، لائِحُ الوَجْهِ لا إِشَكَالَ فِيهِ؛ وَقَدْ نَسَبَهُ الزَمَخْشَريُّ فِي (الكَشَّافِ) إِلَى الحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وَهوَ خِلافُ مَا هو مَوْجودٌ فِي الكُتُبِ التي يُعَوَّلُ عَلَيْهَا فِي أَمْثَالِ ذِلِكَ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العزيزِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، سَأَلَ مُحَمَّدَ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ هَذِهِ الآياتِ فَعَدَّ مَا عَدَّ وَذَكَرَ فِيهِ الطَمْسَ، فَقَالَ عُمَرٌ: كَيْفَ يَكونُ الفَقِيهُ إِلَّا هَكَذَا؟.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ" قَالَ: يَدُهُ، وَعَصَاهُ، وَلسَانُهُ، وَالْبَحْرُ، والطُّوفانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقَمْلُ، والضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ.
وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَةَ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ قَانِعٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مَعًا فِي الدَّلَائِلِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ: أَنَّ يَهُودِيَّيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: انْطْلِقْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ نَسْأَلْهُ. فَأَتَيَاهُ فَسَأَلَاهُ عَنْ قَولِ اللهِ تَعَالَى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ" فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُشْرِكُوا بِالله شَيْئًا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَسْحَرُوا، وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ فَيَقْتُلَهُ، وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلَا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً))، أَوْ قَالَ: ((وَلَا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ)) ـ شَكَّ شُعْبَةُ، ((وَعَلَيْكُمْ يَا يَهُودُ خَاصَّةً أَنْ لَا تَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ)). فَقَبَّلا يَدَيْهِ وَقَالا: نَشْهَدُ أَنَّك نَبِيٌّ، قَالَ: ((فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تُسْلِمَا))؟ قَالَا: إِنَّ دَاوُدَ دَعَا أَنْ لَا يَزَالَ فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ، وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ أَسْلَمْنَا أَنْ تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ. أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: ابْنُ أَبي شَيْبَةَ: (7/329)، وأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَل: (4/239)، والتِرْمِذِيُّ: (3144) وقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالنَّسَائيُّ: (7/111)، والطَبَرِيُّ: (15/172) بِنَصِّهِ وَبِنَحْوِهِ مِنْ طُرُقٍ، والطَبَرَانِيُّ: (8/83)، والحاكِمُ: (1/9) وصَحَّحَهُ، وأَبو نُعَيْمٌ فِي "الحَلْيِةِ": (5/97)، والبَيْهَقِيُّ فِي "الدلائلِ": (6/268).
قولُهُ: {فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} الْخِطَابُ للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ. وَالمُرادُ بهذا السُؤَالِ الِاحْتِجَاجُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَاليَهُودِ، فَلَيْسَ السُّؤَالُ هُنَا لِلاسْتِرْشَادِ ولا للاسْتِفْهامِ، وَإِنَّمَا هُوَ لاسْتِنْكارِ مَوَاقِفِهِمْ، والاحْتِجَاجِ عَلَيْهِم.
قولُهُ: {فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا إِذْ جَاءَهُمْ} هذا ما رَجَحَ عِنْدَ فِرْعَوْنَ بعدَ التفكُّرِ في حَقِيقَةِ مَا أَظْهَرَ موسى ـ عَليْهِ السَّلامُ، مِنَ الْآيَاتِ، ظَنَّ أَنَّ هَذِهِ الآياتِ سِحْرٌ، أَوْ أَنَّ مُوسَى أَصَابَهُ السِحْرُ، يدلُّ على ذَلِكَ قَوْلُهُ: "مَسْحُورا" فظَاهِرُهُ مَعْنَاهُ أَنَّكَ مُتَأَثِّرٌ بِالسِّحْرِ، أَيْ: سَحَرَكَ السَّحَرَةُ وَأَفْسَدُوا عَقْلَكَ، فَصِرْتَ تَهْرِفُ بِالْكَلَامِ الْبَاطِلِ الدَّالِّ عَلَى خَلَلِ الْعَقْلِ، والظَّنُّ دُونَ الْيَقِينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى في سُورَةِ الجاثيَةِ: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} الآيَةَ: 32. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الظَّنُّ أَيْضًا بِمَعْنَى الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ، كَما في قَوْلِهِ تَعَالَى مِنَ الآيَةِ التِي بَعْدَهَا: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} أَيْ: إِنَّني واثقٌ مِنْ ذلكَ تمامًا وَمُتَأَكِّدٌ مِنْهُ.
قولُهُ تَعَالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ. واللامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ. و "قَدْ" للتَحْقِيقِ. و "آتَيْنا" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نَا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ، وضميرُ التَعْظِيمِ هَذَا مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعليَّةِ. و "مُوسى" مَفْعولٌ بِهِ أوَّلُ مَنْصُوبٌ، وعَلامَةُ نَصْبِهِ الفتحةُ المُقدَّرةُ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهَا عَلَى الأَلِفِ. وَ "تِسْعَ" مَفْعُولٌ بِهِ ثانٍ مَنْصوبٌ، وَهُوَ مُضافٌ. وَ "آياتٍ" مَجرورٌ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ. و "بَيِّناتٍ" صِفَةٌ لـ "آياتٍ" مجرورةٌ مثلُها، ويَجُوزُ أَنْ تكونَ مَنْصُوبةً صِفَةً لِلَعَدَدِ "تِسْعَ". والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ جَوَابُ القَسَمِ، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} الفاءُ: هِيَ الفَصِيحَةُ، إِنْ كَانَ الخِطَابُ للنَّبِيِّ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، لِأَنَّهَا أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: إِذَا عَرَفْتَ إِيتاءَنَا الآياتِ لِمُوسَى، وَأَرَدْتَ اسْتِخْبَارَ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْهَا، فَأَقُولُ لَكَ: "اسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ". و "اسْأَلْ" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنت) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ. و "بَنِي" مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّل مَنْصُوبٌ، وَعَلامَةُ نَصْبِهِ الياءُ لأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِجَمْعِ المُذَكَّرِ السَّالِمِ، وهو مُضافٌ. والمَفعولُ الثاني مَحْذُوفٌ تَقْديرُهُ: عَنْهَا، وَ "إِسْرائِيلَ" مجرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ، وعلامةُ جرِّهِ الفَتْحَةُ نيابةً عَنِ الكَثْرةِ لأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرفِ بالعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولَ القولِ لِجَوابِ "إِذا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذا" المُقَدَّرَةِ، مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ، وَإِذا كانَ الخِطابُ لِمُوسَى، فَالفاءُ: عَاطِفَةٌ لِقَوْلٍ مَحْذوفٍ؛ تَقْديرُهُ: فَقُلْنا لَهُ: اسْأَلْ فِرْعَوْنَ وبَني إِسْرائيلَ، و "اسْأَلْ" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا "مُوسَى" ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والمَفْعُولُ الأَوَّلُ مَحْذُوفٌ تَقْديرُهُ: فَاسْأَلْ فِرْعَوْنَ. و "بَنِي" مَفْعُولٌ بِهِ ثَانٍ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِذَلِكَ القَوْلِ المَحْذوفِ، والقولُ المَحْذوفُ مَعْطوفٌ عَلى جُمْلَةِ "آتَيْنا".
قولُهُ: {إِذْ جَاءَهُمْ} فيهِ أَوْجُهٌ، أَحَدُها: أَنْ يَكونَ مَعْمُولًا لِـ "آتَيْنا"، وَيَكونُ قَوْلُهُ تَعَالى "فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ" اعْتِراضًا.
ثانيها: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ على المَفْعوليَّةِ بِإِضْمَارِ "اذْكُرْ".
ثالثُها: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بـ "يُخْبِرُونَكَ" مُقَدَّرًا.
رابِعُها: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِقَوْلٍ مُضْمَرٍ، والتقديرُ: فَقُلْنا لَهُ: سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ حِينَ جاءَهُمْ.
وهذِهِ الأَوْجُهُ ذكَرها الزَّمَخْشَرِيُّ مُرَتَّبَةً عَلَى مُقَدِّمَةٍ ذَكَرَهَا قَبْلَ ذَلِكَ. قالَ: "فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ"، أَيْ: فَقُلْنَا لَهُ: سَلْ بَنِي إِسْرَائيلَ، أَيْ: سَلْهُمْ عَنْ فِرْعَوْنَ، وَقُلْ لَهُ: أَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائيلَ، أَوْ سَلْهُمْ عَنْ إِيمانِهِمْ وحالِ دِينِهِمْ، أَوْ سَلْهُمْ أَنْ يُعاضِدوكَ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ قِراءَةُ رَسُولِ اللهِ "فَسال" عَلَى لَفْظِ المَاضِي بِغَيْرِ هَمْزٍ وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ. وَقِيلَ: فَسَلْ يَا رَسُولَ اللهِ المُؤْمِنَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَعَبْدِ اللهِ بْنَ سَلامٍ وَأَصْحَابِهِ عَنِ الآياتِ لِيَزْدُادوا يَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً كَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ البَقَرَةِ: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} الآية: 260. ثُمَّ قالَ: (فإِنْ قُلْتَ: بِمَ تَعَلَّقَ "إِذْ جاءَهم"؟ قُلْتُ: أَمَّا عَلَى الوَجْهِ الأَوَّلِ فَبِالْقَوْلِ المَحْذُوفِ، أَيْ: فَقُلْنَا لَهُ: سَلْهُمْ حِينَ جَاءَهُمْ، أَوْ بـ "سَالَ" فِي القِراءَةِ الثانيةِ. وَأَمَّا عَلى الأَخِيرِ فَبـ "آتَيْنا" أَوْ بِإِضْمَارِ "اذْكُرْ"، أَوْ بِـ "يُخْبِرونَكَ". وَمَعْنَى "إِذْ جاءهم": إِذْ جَاءَ آباءَهُمْ. انْتَهَى كلامُ الزمخشَريِّ. قالَ الشَّيْخُ أَبو حيَّان الأنْدَلُسِيُّ ـ رحِمَهُ اللهُ: وَلَا يَتَأَتَّى تَعَلُّقُهُ بـ "اذْكُرْ" ولا بـ "يُخْبِرونَكَ" لأَنَّهُ ظَرْفٌ مَاضٍ. قالَ السَّمينُ الحَلَبِيُّ ـ رحِمَهُ اللهُ: إِذَا جَعَلَهُ مَعْمُولًا لِـ "اذْكُرْ"، أَوْ لـ "يُخْبِرونَكَ" لَمْ يَجْعَلْهُ ظَرْفًا بَلْ مَفْعُولًا بِهِ، كَمَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
والخَامِسُ: أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، لِـ "فَسَلْ". قَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ: فيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: هوَ مَفْعُولٌ بِهِ بـ "اسْأَلْ" عَلَى المَعْنَى لِأَنَّ المَعْنَى: اذْكُرْ لِبَنِي إِسْرَائيلَ "إِذْ جَاءَهُمْ"، وَقِيلَ: التَقْديرُ: اذْكُرْ إِذْ جَاءَهُم، وَهِيَ غَيْرُ "اذْكُرْ" الذي قَدَّرْتَ بِهِ اسْأَلْ. يَعْنِي العُكْبُريُّ أَنَّ "اذْكُرْ" المُقَدَّرَةَ غَيْرُ "اذْكُرْ" التي فَسَّرْتَ "اسْأَلْ" بِهَا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا تقدَّمَ ذِكْرُهُ آنِفًا مِنْ أَنَّهمْ إِذَا قَدَّرُوا "اذْكُرْ" جَعَلُوا "إِذْ" مَفْعُولًا بِهِ لَا ظَرْفًا. إِلَّا أَنَّ أَبَا البَقَاءِ ذَكَرَ حَالَ كَوْنِهِ ظَرْفًا، وهو مَا يَقْتَضِي أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ، فَقَالَ: وَالثاني: أَنْ يَكونَ ظَرْفًا. وَفِي العامِلِ فِيهِ أَوْجُهٌ، أَحَدُهَا: "آتَيْنا". وَالثاني: "قُلْنَا" مُضْمَرَةً. والثالثُ: "قُلْ"، والتَقديرُ: قُلْ لِخَصْمِكَ: سَلْ. وَالمُرَادُ بِهِ فِرْعَوْنُ، أَيْ: قُلْ يَا مُوسَى، وَكانَ الوَجْهُ أَنْ يُقالَ: "إِذْ جِئْتَهم" بِالفَتْحِ، فَرَجَعَ مِنَ الخِطابِ إِلَى الغَيْبَةِ. قالَ السَّمِينُ: فَظَاهِرُ الوَجْهِ الثالِثِ أَنَّ العامِلَ فيهِ "قُلْ" وَهوَ ظَرْفٌ مَاضٍ، عَلَى أَنَّ هَذَا المَعْنَى الذي نَحَا إِلَيْهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ إِذْ يَرْجِعُ إِلَى: يا مُوسَى قُلْ لِفِرْعَوْنَ: سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ، فَيَعودُ فِرْعَوْنُ هُوَ السَّائِل لِبَنِي إِسْرائيلَ، وليْسَ المُرادُ ذَلِكَ قَطْعًا، وَعَلى التَقْديرِ الذي قَدَّمْتُهُ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ ـ وهوَ أَنَّ المَعْنَى: يَا مُوسَى سَلْ بَنِي إِسْرَائيلَ، أَيْ: اطْلُبْهُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ، يَكُونُ المَفْعُولُ الأَوَّلُ للسُّؤالِ مَحْذوفًا، والثاني هوَ "بَنِي إِسْرائيلَ"، وَالتَقْديرُ: سَلْ فِرْعَوْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعَلى هَذَا فَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ المَسْأَلَةُ مِنَ التَنَازُعِ، وَأَعْمَلَ الثانيَ، إِذِ التَقْديرُ: سَلْ فِرْعَوْنَ فَقَالَ فِرْعَوْنُ، فَأَعْمَلَ الثانيَ، فَرَفَعَ بِهِ الفاعِلَ، وَحَذَفَ المَفْعُولَ مِنَ الأَوَّلِ وَهُوَ المُخْتَارُ مِنَ المَذْهَبَيْنِ. والظاهِرُ غَيْرُ ذَلكَ كُلِّهِ، وَأَنَّ المَأْمُورَ بِالسُّؤَالِ إِنَّمَا هُوَ سَيِّدُنا محمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، وَبَنُو إِسْرائيلَ كانُوا مُعَاصِرِينَ لَهُ. والضَّميرُ فِي "جَاءَهُمْ" إِمَّا للآباءِ، وَإِمَّا لَهُمْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: جاءَ آباءَهُمْ. وَ "إِذْ" ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "آتَيْنا" عَلَى الوَجْهِ الأَوَّلِ، وعَلَى الوَجْهِ الثاني مُتَعَلِّقٌ بِالقَوْلِ المُقَدَّرِ. و "جاءَهُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى سيِّدِنا مُوسَى ـ عليْهِ السَّلامُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المفعوليَّةِ، والمِيمُ للجَمْعِ المُذَكَّرِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إلى "إِذْ".
قولُهُ: {فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ} الفاءُ: عَاطِفَةٌ، وَ "قَالَ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ. و "لَهُ" اللامُ: حَرْفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "فِرْعَوْنُ" فاعِلُهُ مرْفوعٌ بِهِ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذهِ في مَحَلِّ الجَرِّ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "جَاءَ" عَلَى كونِها في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ لـ "إِذْ".
قولُهُ: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُورًا} إِنِّ: حرفٌ نَّاصِبٌ ناسَخٌ مُشبَّهٌ بالفعلِ، وياءُ المُتَكلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. و "لَأَظُنُّكَ" اللامُ: هي المزحلقةُ للتوكيدِ (حَرْفُ ابْتِداءٍ). و "أَظُنُّكَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجَازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعُودُ عَلَى فِرْعَوْنَ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ، مَفْعُولُهُ الأَوَّلُ. و "يا" أَدَاةٌ للنِّداءِ، و "مُوسَى" مُنَادَى مُفْرَدٌ عَلَمٌ، مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ المُقدَّرِ على آخرِهِ لتعذُّرِ ظهورِهِ على الألِفِ، في مَحَلِّ النَّصْبِ على النداءِ. وَجُمْلَةُ النِّداءِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مَفْعُولَيْ "ظَنَّ" عَلَى أَنَّهَا مَقُولُ القولِ. و "مَسْحُورًا" مَفْعُولٌ بِهِ ثَانٍ لـ "ظَنَّ"، أَيْ إِنَّهُ بِمَعْنَاهُ الأَصِلِيِّ، والمَعْنَى: إِنَّكَ سُحِرْتَ، فَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَّ كَلامُكَ وبَعُدَ، قالَ ذَلِكَ حِينَ جاءَهُ بِمَا لا تَهْوَى نَفْسُهُ الخَبيثَةُ. ويَجُوزُ: أَنَّهُ بِمَعْنَى "فاعِلٍ"، كَ "مَيْمون" و "مَشْؤوم"، أَيْ: أَنْتَ سَاحِرٌ؛ فَلِذَلِكَ تَأْتي بِالأَعَاجِيبِ، يُشِيرُ لانْقِلابِ عَصَاهُ حَيَّةً وَغَيْرِ ذَلِكَ. وجُمْلَةُ الظَّنِّ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا لِـ "إِنَّ"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ "قالَ".