وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
قولُهُ ـ جَلَّ وعَلَا: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} أَيْ: إِنَّ القُرآنَ الكَريمَ يُعَالِجُ القَضَايَا بِأَسالِيبَ مُتَعَدِّدَةٍ، فيهَا مُرُونَةٌ ومُراعاةٌ لأَفْهامِ العِبَادِ المُخْتَلِفَةِ وَمَصَالِحِهُمُ المُتَعدِّدَةِ. ولا يَعالُجُها بجمودٍ ورتابةٍ؛ لأَنَّهُ يُخَاطِبُ طِبَاعًا مُتَعَدِّدَةً، وَيَتَعَرَّضُ لِمَوْضوعاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، ومَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَذَلِكَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُصَرِّفَ الأُسْلوبَ وَيَقَلِّبَهُ عَلَى غيرِ وَجْهٍ. فالتَّصْريفُ: هوَ التَكْريرُ والتَرْديدُ وتَنْوِيعُ الأَسَالِيبِ وتَحْويلُها زِيَادَةً في البَيَانِ والإيضاحِ والإِقْنَاعِ. وَوَجَّهْنَا الْقَوْلَ فِيهِ بِكُلِّ مَثَلٍ يَجِبُ بِهِ الِاعْتِبَارُ، مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ والعِظَاتِ، وَالأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَقَصَصِ الْأَوَّلِينَ، وَالتَّرْغِيبِ بِالْجَنَّةِ، وَالتَّرْهِيبِ بِعذابِ يومِ الْقِيَامَةِ والنَّارِ. و "مِنْ كُلِّ مَثَلٍ" يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَثَلِ الْحَالُ، أَيْ: مِنْ كُلِّ حَالٍ حَسَنٍ مِنَ الْمَعَانِي يَجْدُرُ أَنْ يُمَثَّلَ بِهِ، وَيُشَبَّهَ مَا يُزَادُ بَيَانُهُ فِي نَوْعِهِ. وَالتَنْوِينُ في "مَثَلٍ" لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّشْرِيفِ، أَيْ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ شَرِيفٍ. وَالْمُرَادُ: شَرَفُهُ فِي الْمَقْصُودِ مِنَ التَّمْثِيلِ.
قولُهُ: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} يُريدُ بـ "أَكْثَرُ النَّاسِ" أَهْلَ مَكَّةَ بَيَّنَ لَهُمُ الْحَقَّ، وَفَتَحَ لَهُمْ وَأَمْهَلَهُمْ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، فَأَبَوْا إِلَّا الْكُفْرَ وَقْتَ تَبَيُّنِ الْحَقِّ. و "كُفُورًا" جُحُودًا لِلْحَقِّ. فإِنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِسَمَاعِ ما ذُكِرَ في القُرْآنِ الكِريمِ مِرَارًا كَثِيرَةً مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَنَفَيِ الشُّرَكَاءَ وَالْأَنْدَادِ، وَما ذَكَرَ مِنْ شُبَهَاتِ مُنْكِرِي النُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ، مِرَارًا وَأَطْوَارًا، وَأَجَابَ عَنْهَا ثُمَّ أَرْدَفَهَا بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ وَالْمُعَادِ، بَلْ بَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى شِرْكِهم وَإِنْكَارِ نُبُوَّةِ رسولِهِم محمدٍ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصَحَبِهِ وسَلَّمَ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، واللَّامُ: مُوْطِّئَةٌ للْقَسَمِ. وَ "قَدْ" حَرْفُ تَحْقِيقٍ. وَ "صَرَّفْنا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٌ هو "نا" المُعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبحانَهَ وتَعَالَى، و "نا" التَعْظيمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ. و "لِلنَّاسِ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "صَرَّفْنا" وَكَذَا "في" مِنْ قَوْلِهِ: "فِي هذَا الْقُرْآنِ" مُتَعَلِّقٌ بِهِ أَيْضًا، و "الناسِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "هَذا" الهاءُ: للتَنْبِيهِ، و "ذا" اسْمُ إشارةٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، و "القُرْآنِ" بَدْلٌّ مِنِ اسْمِ الإِشَارَةِ، أَوْ عطْفُ بيانٍ لَهُ. وَ "مِنْ" حَرْفُ جرٍّ زائدٌ، و "كُلِّ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ الزائدِ لفظًا، مَنْصُوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ لِـ "صَرَّف" مَحَلًا، وهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ والأَخْفَشِ فَي جَوازِ زِيادَةِ "مَنْ" فِي الإِثْبَاتِ، وَعَلَى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ هُوَ مَفْعُولُ "صَرَّفْنا" مَحْذُوفٌ والتَقْديرُ "البَيِّنَاتِ، والعِبَرَ"، وَ "مِنْ كُلِّ" مَثَلُ بَيَانٍ، لِذَلِكَ المَحْذوفِ، و "كلِّ" مُضَافٌ. وَ "مَثَلٍ" مَجْرُورٌ بالإضَافَةِ إِلَيْهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ، جَوَابُ القَسَمِ، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، وجُمْلَةُ القَسَمِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ أَيضًا.
قولُهُ: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} الفَاءُ: للعَطْفِ، و "أَبَى" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ المُقَدَّرِ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهِ عَلَى الأَلِفِ. و "أَكْثَرُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، وهو مُضافٌ. و "النَّاسِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "صَرَّفْنا". و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ لأَنَّ "أَبَى" مُتَأَوَّلٌ بِالنَّفْيِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمْ يَرْضَوْا إِلَّا كُفُورًا. و "كُفُورًا" منصوبٌ على المَفْعُوليَّةِ لِـ "أَبَى"، وَهُوَ اسْتِثْناءٌ مُفَرَّغٌ لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ: لَمْ يَفْعَلُوا إِلَّا الكُفُورَ.
قرَأَ الجُمْهورُ: {صَرَّفْنا} بِتَشْديدِ الراءِ. وَقَرَأَ الحَسَنُ: "صَرَفْنا" بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظيرُهُ.