إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} هو اعْتِرَاضٍ بِالتَّعْلِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ، مِنَ أَمْرِهِ عبادَهُ المُؤْمِنينَ بِإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينِ، والْأَمْرِ بِالْقَصْدِ في النَّفَقَةِ دونَ تَبْذِيرِ ولا تَقْتيرٍ، وهَذَا وَاجِبٌ عليهم فِي أَمْوَالِهِمْ، وَوَاجِبُهُمْ نَحْوَ أَرْحَامِهمْ وأَقَارِبِهِمْ، وَالضُعَفَاءِ ممَّنْ حولَهُمْ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَمْتَثِلُوا مَا أَمَرَهُمُ اللهُ بهِ في ذَلِكَ. فالشُّحُّ لَيْسَ بِمُبْقٍ مَالَ الشَّحِيحِ لِنَفْسِهِ، وَلَا التَّبْذِيرُ بِمُغْنٍ مَنْ يُبَذِّرُ فِيهِمُ الْمَالَ، فَاللهُ ـ سُبحانَهُ وتعالى، قَدَّرَ لِكُلِّ نَفْسٍ رِزْقَهَا. وهوَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ، وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِ، وَيُقَتِّرُ فيهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِ، ولَهُ في ذلك كلِّهِ مِنَ الحِكْمَةِ ما لا يعلمُهُ إِلَّا هو ـ تَبَارَكَ وتَعالى.
وَ "يَقْدِرُ": ضِدُّ يَبْسُطُ، وفي اللُّغَةِ، القَدْرُ في العَيْشِ: هو التَضْييقُ فيهِ، ومنْ ذلكَ قولُهُ تعالى في الآية: 7، منْ سُورَةِ الطَلاقِ: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}، وقولُهُ مِنْ سُورَةِ الفجْرِ: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} الآية: 16، أَيْ: ضَيَّقَ، فَمَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ الكريمَةِ: أَنَّهُ يُوَسِّعُ في الرِّزْقَ على مَنْ شاءَ مِنْ عِبادِهِ، وَيُضيِّقُ على مَنْ شاءَ منهم، بِحَسَبِ مَصَالِحهم؛ كَمَا قَالَ مِنْ سُورَةِ الشُّورَى: {وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ} الآيةَ: 27، وهذا هوَ مَعْنَى قولِهِ: "إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا"، حَيْثُ أَجْرَى رِزْقَهُمْ عَلى مَا عَلِمَ أَنَّ صَلاحَهُم فيهِ. وروى في هَذِهِ الآيةِ الكريمةِ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ قالَ: يُريدُ لَوْ أَرَدْتُ أَنْ أَبْسُطَ عَلَيْكَ الرِّزْقَ، وأَجْعَلَ جِبَالَ الدُنْيا لَكَ ذَهَبًا وفِضَّةً لَفَعَلْتُ، وَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ الدُنْيَا، لِكَرامَتِكَ عَليَّ، وجَعَلْتُ لَكَ الآخِرَةَ.
فَيَجُوزُ إذًا أَنْ يَكُونَ الكلامُ قَدْ حُوِّلَ إِلَى خِطابِ النَبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووُجِّهَ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ الْأَوْلَى بِعِلْمِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أُمَّتُهُ مَقْصُودَةً بِالْخِطَابِ تَبَعًا لَهُ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْوَصَايَا مُخَلَّلَةً بِالْإِقْبَالِ عَلَى خِطابِ النَبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ جَارِيًا عَلَى سَنَنِ الْخِطَابِ السَّابِقِ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ.
وَأَخْرَجَ الطَبَريُّ، وابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: ثُمَّ أَخْبَرَنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى، كَيْفَ يَصْنَعُ، فَقَالَ: "إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ"، قَالَ: يَقْدِرُ: يُقِلُّ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ يَقْدِرُ كَذَلِكَ، ثُمَّ أَخْبَرَ عِبَادَهُ أَنَّهُ لَا يَرْزَؤُهُ وَلَا يَئُودُهُ أَنْ لَوَ بَسَطَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ نَظَرًا لَهُمْ مِنْهُ، فَقَالَ: {وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} الآية: 27، مِنْ سُورَةِ الشُّورَى، قَالَ: وَالْعَرَبُ إِذَا كَانَ الْخِصْبُ وَبُسِطَ عَلَيْهِمْ أَشِرُوا، وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَجَاءَ الْفَسَادُ، فَإِذَا كَانَ السَّنَةُ شُغِلُوا عَنْ ذَلِكَ. جامِعُ البَيَانِ للطبريِّ، ط/ هجر: (14/577)، وتفسيرُ ابْنُ أَبي حاتِمٍ: (7/2327). وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تعالى: "إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ"، قَالَ: يَنْظُرُ لَهُ فَإِنَ كَانَ الْغِنَى خَيْرًا لَهُ أَغْنَاهُ، وَإِن كَانَ الْفَقْرُ خَيْرًا لَهُ أَفْقَرَهُ. تَفْسيرُ ابْنِ أَبي حاتمٍ: (11/371). وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ أَيضًا عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ"، قَالَ: يَبْسُطُ لهَذَا مَكْرًا بِهِ وَيَقْدِرُ لِهَذَا نَظَرًا لَهُ.
قولُهُ: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ إِلَى آخِرِهَا، أَيْ هُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ وَمَا يَلِيقُ بِكُلٍّ مِنْهُمْ بِحَسَبِ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ نُفُوسُهُمْ، وَمَا يَحِفُّ بِهِمْ مِنْ أَحْوَالِ النُّظُمِ الْعَالَمِيَّةِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ الْمُودَعَةُ فِي هَذَا الْعَالَمِ.
وَالْخَبِيرُ: الْعَالِمُ بِالْأَخْبَارِ. وَالْبَصِيرُ: الْعَالِمُ بِالْمُبْصَرَاتِ. وَهَذَانَ الِاسْمَانِ الْجَلِيلَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنَى بَعْضِ تَعَلُّقِ الْعلم الإلهي. وَهُوَ خَبِيرٌ بِعِبَادِهِ ، فَيَعْرِفُ مَنْ يُصْلِحُهُ الغِنَى فَيُغْنِيهِ، وَمَنْ يُصْلِحُهُ الفَقْرُ .. وَهُوَ بَصِيرٌ بِتَدْبِيرِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ. وَفِي الحَدِيثِ القُدْسيِّ: (إِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ لاَ يُصْلِحُهُ إِلاَّ الفَقْرُ، وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لأَفْسَدْتُ عَلَيْهِ دِينَهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ لاَ يُصْلِحُهُ إِلاَّ الغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لأَفْسَدْتُ عَلَيْهِ دِينَهُ). ذكره السيوطي في الجامع الكبير: (2/267). فالبَسْطُ والقَبْضُ مِنْ أَمْرِ اللهِ العالِمِ بِالسَّرائرِ والظَواهِرِ، الذي بِيَدِهِ خَزائِنُ السَّمَواتِ والأَرْضِ، وأَمَّا العِبَادُ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْتَصِدُوا وأَنْ يُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى يَبْسُطُ تَارَةً وَيَقْبِضُ أُخْرَى، فاسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ، فَلا تَقْبِضُوا كُلَّ القَبْضِ، وَلَا تَبْسُطُوا كُلَّ البَسْطِ، وأَنْ يُرادَ أَنَّهُ تَعَالَى يَبْسُطُ ويَقْدِرُ حَسَبَ مَشِيئَتِهِ.
قولُهُ تَعَالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيد. و "رَبَّكَ" اسْمُهُ منصوبٌ بهِ مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "يَبْسُطُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ تعالى، و "الرِّزْقَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ". وَ "لِمَنْ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "يَبْسُطُ"، و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ بِمَعْنَى "الذي" مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. وجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلَهَا، و "يَشاءُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ تعالى، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ صِلَةُ "مَنْ" المُوْصُولَةِ، والعائدُ مَحْذوفٌ والتقديرُ: لِمَنْ يَشَاءُ البَسْطَ لَهُ. "وَيَقْدِرُ" مثلُ "يبسُطُ" معطوفٌ عليْهِ، والجملةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ "يَبْسُطُ".
قولُهُ: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} إِنَّهُ: إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيد. والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُ "إنَّ". "كانَ" فعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الفتحِ. واسْمُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُه (هو) يَعُودُ عَلى اللهِ تعالى. "بِعِبادِهِ" الباءُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، عَلَى سَبيلِ التَنَازُعِ، و "عِبادِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "خَبِيرًا بَصِيرًا" خَبَرَانِ لِـ "كانَ" منصوبانِ بها. وجُمْلَةُ "كانَ" في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إنَّ"، وجُمْلَةُ "إنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلِهَا.