إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} تَعْليلٌ للنَّهْيِ عَنِ التَبْذيرِ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} منَ الآيةِ السابقةِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ إِلَخْ.. لِأَنَّ التَّبْذِيرَ لَا يُوصَفُ بِهِ بَذْلُ الْمَالِ فِي حَقِّهِ وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَةِ الْمُعْطَى. فَجُمْلَةُ {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} الآيةَ: 23، السابقةِ، لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا قَضَى اللهُ بِهِ، وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ قولِهِ: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ} وَجُمْلَةُ {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} الْآيَة: 2، منْ هذه السورَةِ، فَتَضَمَّنَتْ جُمْلَةُ {ولا تُبَذِّرْ تبذيرًا} وَصِيَّةً سَادِسَةً مِمَّا قَضَى اللهُ بِهِ، ثمَّ جاءَ قولُهُ هنا في هَذِهِ الآية: "إِنَّ المبذِّرينَ كانوا إِخْوَانَ الشياطينِ تعليلًا للنهيِ عَنِ التبذيرِ في الآيَةِ السَّابقةِ.
و "إخوانُ الشياطينِ" أَيْ: أَمْثالُهمْ فِي الشَّرِّ، أَوْ: عَلَى طريقَتِهم، أَوْ: أَصْدِقاؤُهم، وأَتْباعُهم، فإِنَّ تَضْييعَ المالِ وإِتْلافَهُ شَرٌّ، وَهُمْ إِخْوانُ الشياطِينِ لأَنَّهم يُطيعونَهم فِي الإِسْرافِ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كانُوا في الجاهليَّةِ يَنْحَرُونَ الإِبِلَ وَيَتَيَاسَرونَ، أَيْ: يَتَقَامَرُونَ عَلَيْها، فيُبذِّرونَ أَمْوالَهُمْ ويُبَدِّدونَها، فَنَهَاهُمُ اللهُ عَنْ ذَلِكَ، وأَمَرَهُم بالإِنْفاقِ فِي الطاعاتِ والقُرُاباتِ، لأَنَّ الإنفاقَ في القُرُباتِ إلى اللهِ تَعَالى وطاعتِهِ لا يُعْتَبَرُ تَبْذيرًا بالِغًا مَا بَلَغَ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ الأَسْوَدِ: كُنْتُ أَطُوفُ حَوْلَ الكَعْبَةِ، مَعَ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى أَبي قُبَيْسٍ (جَبَلٌ مُشرفٌ عَلَى الصَفَا، أَحَدُ الأَخْشَبَيْنِ) فَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَنْفَقَ مِثْلَ هَذَا فِي طاعَةِ اللهِ لَمْ يَكُنْ مِنَ المُسْرِفِينَ. وَ "إِخْوَانُ" جَمْعُ أَخٍ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْمُلَازِمِ غَيْرِ الْمُفَارِقِ لِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الْأَخِ، كَقَوْلِهِمْ: فلانٌ أَخُو الْعِلْمِ، أَيْ مَلَازِمُهُ وَالْمُتَّصِفُ بِهِ، وَفلانٌ أَخُو السَّفَرِ، إِذَا كانَ مُكْثِرًا للأَسْفَارَ. وَمنهُ قَوْلُ الشاعِرِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:
وَأَخُو الْحَضَرِ إِذْ بَنَاهُ وَإِذْ دِجْــ ................. ــلَةُ تَجْبِي إِلَيْهِ وَالْخَابُورُ
يُرِيدُ صَاحِبَ قَصْرِ الْحَضَرِ، وَهُوَ مَلِكُ بَلَدِ الْحَضَرِ الْمُسَمَّى الضَّيْزَنَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الْقُضَاعِيَّ الْمُلَقَّبَ السيَّطْرُونَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ وَحُلَفَائِهِمْ كَمَا يُتَابِعُ الْأَخُ أَخَاهُ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ التَّبْذِيرَ يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ لِأَنَّهُ إِمَّا إِنْفَاقٌ فِي الْفَسَادِ وَإِمَّا إِسْرَافٌ يَسْتَنْزِفُ الْمَالَ فِي السَّفَاسِفِ وَاللَّذَّاتِ فَيُعَطِّلُ الْإِنْفَاقَ فِي الْخَيْرِ وَكُلُّ ذَلِكَ يُرْضِي الشَّيْطَانَ،
فَلَا جَرَمَ إِذًا أَنْ كَانَ الْمُتَّصِفُونَ بِالتَّبْذِيرِ مِنْ جُنْدِ الشَّيْطَانِ وَإِخْوَانِهِ. وقالَ أَبو إِسْحَاقٍ الزَّجَّاجُ: أَيْ: يَفْعَلونَ مَا يُسَوَّلُ لَهُمْ الشَيْطانُ. مَعَاني القُرآنِ وَإِعْرَابُهُ: (3/235). قال أهل المعاني: مُؤاخاةُ الشيطان: موافقتُه فيما يدعو إِلَيْه، وَكُلُّ مَنْ أَجابَ الشيطانَ إلى ما سَوَّلَ لَهُ، فهو مِنْ إِخْوانِ الشياطينِ؛ لأَنَّهُ يَتَّبِعُ أَثَرَهُ، ويَجرِي عَلى سُنِّتِه. وقيلَ: إِخْوانُ الشَياطينِ: الذينَ يُقْرَنونَ بِهِ في نارِ جهنَّمَ.
وَقَدْ زِيدَ "كانُوا" تَأْكِيدًا لذَلِكَ، وليُفِيدَ أَنَّ تِلْكَ الْأُخُوَّةَ بينَهم وبينَ الشياطينِ هيَ صِفَةٌ رَاسِخَةٌ فِيهِمْ، وَكَفَى بِحَقِيقَةِ الشَّيْطَانِ كَرَاهَةً فِي النُّفُوسِ وَاسْتِقْبَاحًا.
قولُهُ: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} مِنْ تَتِمَّةِ التَعْليلِ، وَ "كَفُورًا" صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ في الكُفْرِ، أَيْ: كَثيرَ الكُفْرِ، وصَفَهُ اللهُ تعالى بذلكَ لِيَرْتَدِعَ المُؤْمِنُونَ عَنِ اتِّباعِهِ فيما يَدْعُو إِلَيْهِ، فيَنبغي أَلَّا يُطاعَ، وفيهِ أَيضًا ذَمٌّ للمبذِّرينَ؛ حيثُ وُصِفوا بِأَنَّهُم إِخْوانُ الشياطين، ثُمَّ ذَمَّ الشَيْطانَ؛ لأَنَّهُ كَفُورٌ لِرَبِّهِ، فهوَ يَتَضَمَّنُ أَنَّ المُسْرِفَ شديدُ الكفْرِ لِنعَمِ رَبِّهِ عَلَيْهِ. قالَ ابْنُ عبَّاسٍ ـ رَضيَ اللهُ عنهُما، في قولِهِ: "وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا" يُريدُ جاحِدًا لأَنْعُمِهِ، سُبحانَه. وَهَو تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ مِنْ أَنْ يُفْضِيَ التَّبْذِيرُ بِصَاحِبِهِ إِلَى الْكُفْرِ تَدْرِيجًا بِسَبَبِ التَّخَلُّقِ بِالطَّبَائِعِ الشَيطْانِيَّةِ، فَيتَدَهْوَرُ فِي مَهَاوِي الضَّلَالَةِ حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ إِلَى الْكُفْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى في سُورةِ الأَنْعامِ: {وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} الْآية: 121.
وَيَجُوزُ حَمْلُ الْكُفْرِ هُنَا عَلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ فَيَكُونُ أَقْرَبَ دَرَجَاتٍ إِلَى حَالِ التَّخَلُّقِ بِالتَّبْذِيرِ، لِأَنَّ التَّبْذِيرَ صَرْفُ الْمَالِ فِي غَيْرِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ فَهُوَ كُفْرٌ لِنِعْمَةِ اللهِ بِالْمَالِ. فَالتَّخَلُّقُ بِهِ يُفْضِي إِلَى التَّخَلُّقِ وَالِاعْتِيَادِ لِكُفْرَانِ النِّعَمِ.
قولُهُ تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ} إِنَّ: حرفٌ ناصبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ، لإفادةِ التوكيدِ. و "الْمُبَذِّرِينَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ.
قولُهُ: {كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} كانوا: فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ، مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ اسْمُهُ، والألفُ للتفريقِ. و "إِخْوانَ" خبرُ كانَ منصوبٌ بها، وهو مُضافٌ، و "الشَّياطِينِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والجُمْلَةُ خبَرُ "إِنَّ" في مَحَلِّ الرَّفْعِ، وجُمْلُةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ النَّهْيِ السَّابِقِ كما تَقَدَّمَ في مبحثِ التفسيرِ، لا محلَّ لها منَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} الواوُ: عَاطِفَةٌ أَوْ حَالِيَّةٌ. و "كانَ" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ مبنيٌّ على الفتحِ. و "الشَّيْطانُ" اسْمُهُ مرفوعٌ بِهِ. و "لِرَبِّهِ" اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بالخبرِ بَعْدَهُ، و "ربِّه" اسمٌ مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ. و "كَفُورًا" خَبَرُ "كانَ" منصوبٌ بها. والجُمْلَةُ إِمَّا مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "إِنَّ" على كونِها مُسْتأْنَفةً لا محلَّ لها منَ الإعرابِ، أَوْ هي في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنَ "الشَّياطِينِ".