إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} أيْ: إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ يَتَّقُونَهُ فَيَقِفُونَ عِنْدَ مَا حَدَّ لَهُمْ. وَالْمَعِيَّةُ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّأْيِيدِ وَالنَّصْرِ. قالَ الزَجَّاجُ في هَذِهِ الآيَةِ: قَدْ وُعِدُوا النَّصْرَ، أَيْ أَنَّ اللهَ نَاصِرُهُمْ كَمَا قَالَ مِنْ سُورةِ التَّوْبَة: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} الآيةَ: 40. "مَعَانِي القُرْآنِ وإِعْرابُهُ": (3/224)، بنحوِهِ. أَي: إنَّ اللهَ ناصِرُنا. فهَذِهِ الْمَعِيَّةُ معيَّةُ إِعَانَةٍ وَنَصْرٍ وتأييدٍ وَتَوْفِيقٍ. وَقد كَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كتابِهِ العزيزِ، فقال في الآيةِ: 12، مِنْ سورةِ الأَنْفَالِ: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ}. وَقَالَ مِنْ سورةِ طَهَ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} الآية: 46. وَقَالَ مِنْ سورةِ الشُعَراءِ: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} الآية: 62. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ في مَعيَّتِهِ لِعِبَادِهِ المؤمنينَ. وَأَمَّا الْمَعِيَّةُ الْعَامَّةُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ فَهِيَ بِالْإِحَاطَةِ التَّامَّةِ وَالْعِلْمِ، وَنُفُوذِ الْقُدْرَةِ في الوُجودِ، وجَميعِ الخَلْقِ، وَكَوْنِ الْجَمِيعِ فِي قَبْضَتِهِ ـ جَلَّ وَعَلَا: فَإنَّ جميعَ الْكَائِنَاتِ فِي يَدِهِ ـ جَلَّ وَعَلَا، أَصْغَرُ مِنْ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، وَهَذِهِ المعيَّةُ مَذْكُورَةٌ أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، منها قَوْلُهُ تَعَالى مِنْ سُورَةِ الأعرافِ: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} الآيةَ: 7. وَقَوْلُهُ منْ سُورةِ يونُس ـ عليْهِ السَّلامُ: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} الْآيَةَ: 61. وَقَوْلُهُ منْ سُورةِ الحديد: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} الْآيَةَ: 4. وقولُهُ مِنْ سورةِ المُجادِلة: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} الْآيَةَ: 7. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الكريمة. فَهُوَ ـ جَلَّ وَعَزَّ، مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ، عَلَى الْكَيْفِيَّةِ اللَّائِقَةِ بِكَمَالِهِ وجمالِهِ وَجَلَالِهِ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِجميعِ خَلْقِهِ، وهم كلُّهُمْ فِي قَبْضَةِ يَدِهِ وقدرَتِهِ، قائمينَ بقيَّوميَّتِهِ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ منهم مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ.
وقد تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ تعريفُ التقوى وعرضُ مختلِفِ الأقوالِ فيها، وملخَّصُها أَنَّ تَقَوَى اللهِ تعالى إنَّما تكونُ باتِّقاءِ غضَبِهِ وعقابِهِ وإنَّما يكونُ بِتَرْكِ مَا نَهَى عَنْهُ، وإتيانِ ما أَمَرَ بِهِ. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما: يُريدُ خَافَوْني، وَلَمْ يُشْرِكوا بِي شَيْئًا. وقالَ الكَلْبِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: اتَّقَوْا الفَوَاحِشَ والكَبَائِرَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصنعانيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جَريرٍ الطَبَرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ الرازِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذينَ اتَّقوا وَالَّذينَ هُمْ مُحْسِنُونَ" قَالَ: اتَّقَوْا فِيمَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِم، وأَحْسَنُوا فِيمَا افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْهِم.
قولُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} أَيْ: وهو سُبحانَهُ مَعَ الْمُحْسِنِينَ. وقد تَقَدَّمَ أَيضًا تَعْريفُ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الإِحْسَانَ بِأَوجَزِ العباراتِ وأَبْلَغِ الكلماتِ. وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ أَمِيرُ المُؤْمِنينَ عُمَرُ بْنُ الخطَّابِ ـ رُضْوانُ اللهِ تعالى عَلَيْهِ، مِنْ حَديثٍ، حَيْثُ أَجَابَ جبريلَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، عنْ سُؤالِهِ: ما الإحْسانُ؟. قال ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: الإحسانُ ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كأَنَّكَ تراهُ، فإنْ لم تكُنْ تَرَاهُ فإنَّهُ يَرَاكَ)). فالإحسانُ هو الُركْنُ الثالثُ للدينِ الإسلاميِّ الحنيفِ. أَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَهَنَّادٌ، وَابْنُ جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ هَرَم بْنِ حَيَّانٍ ـ رحمهُ اللهُ، أَنَّهُ لَمَّا أُنْزِلَ بِهِ الْمَوْتُ قَالُوا لَهُ: أَوْصِ. قَالَ: أُوصِيكُمْ بِآخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحِكْمَةِ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَقد أَتَى فِي جَانِبِ التَّقْوَى بِصِلَةِ الاسْمِ المَوْصولِ جُملةً فِعْلِيَّةٍ مَاضِيَةٍ "اتَّقَوا" لِلْإِشَارَةِ إِلَى لُزُومِ حُصُولِهَا وَتَقَرُّرِهَا مِنْ قَبْلُ لِأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ التَّقوى آيِلَةٌ إِلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ حَقٌّ عَلَى الْمُكَلَّفِ. وَلِذَلِكَ أُمِرَ فِيهَا بِالِاقْتِصَارِ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ.
وَأَتَى فِي جَانِبِ الْإِحْسَانِ بِالْصلةِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِلْإِشَارَةِ إِلَى كَوْنِ الْإِحْسَانِ ثَابِتًا لَهُمْ دَائِمًا مَعَهُمْ، لِأَنَّ الْإِحْسَان فَضِيلَةٌ، فبِصاحِبِهِ حَاجَةٌ إِلَى رُسُوخِهِ مِنْ نَفْسِهِ وتَمَكُّنِهِ، واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} إِنَّ: حَرْفٌ نَاصِبٌ ناسِخٌ مُشبَّهٌ بالفِعْلِ للتوكيدِ. وَلفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. و "مَعَ" منصوبٌ عَلَى الظَرْفيَّةِ الاعْتِبَارِيَّةِ متعلِّقٌ بخبرِ "إِنَّ"، مُضافٌ. وَ "الَّذِينَ" اسمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على الفتْحِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلها لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "اتَّقَوْا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضمَّةِ المُقدَّرةِ عَلَى الأَلِفِ المَحْذوفَةِ لالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ فارقةٌ، والجُمْلةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} الوَاوُ: للعطْفِ، وَ "الَّذِينَ" تقدَّمَ إِعرابُهُ مَعْطوفٌ عَلَى المَوْصُولِ الأَوَّلِ. و "هُمْ" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ بالابتِداءِ، و "مُحْسِنُونَ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ. والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ. والجُمْلَةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
بِحَمْدِ اللهِ تمَّتْ سورةُ النَّحْلِ وبتمامها يتمُّ الجزءُ الرابع عشرَ، ويليهِ الجزءُ الخامس عشر بإذنِهِ تعالى ومنَّتِهِ.
زحلة، لبنان
الخميس في: 28/ربيع الأول: 1440 هجرية.
الموافق: 6/12/ 2018 ميلادية.