وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} أَيْ: ضَرَبَ اللهُ لِقَرْيَتِكُمْ مَثَلًا، وبَيَّنَ أَنَّ لَهَا شَبَهًا. وَضَرْبُ المَثَلِ بَيَانُ المُشبَّهِ والمُشَبَّهِ بِهِ، وقد ذَكَرَ هَهُنا المُشبَّهَ بِهِ وَلَمْ يَذْكُرِ المُشَبَّهَ لِوُضُوحِهِ عِنْدَ المُخاطَبينَ. و "كَانَتْ آمِنَةً" أَيْ: كانت ذَاتَ أَمْنٍ مِنْ كُلِّ مَخُوفٍ، وَ "مُّطْمَئِنَّةً" لا يُزْعِجُ أَهْلَها مُزْعِجٌ أَبَدًا.
وَقَدْ ذَهَبَ عامَّةُ المُفَسِّرينَ إلى أَنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي قريشٍ وَمَا امْتُحِنُوا بِهِ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ، بَعْدَ أَنْ كانتْ آمِنَةً مُنَعَّمَةُ، وذَلِكَ لأَنَّهم كذَّبوا النَبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ عبَّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَقَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جميعًا: القَرْيَةُ المَضْرُوبُ بِهَا المَثَلُ هِيَ مَكَّةُ المُكَرَّمَةُ، كانَتْ بِهَذِهِ الصِفَةِ التي ذَكَرَ اللهُ تعالى، فَلَمْ تَكُنْ تُغْزَى، وَلَا يُغِيرُ عَلَيْها أَحَدٌ. نَقَلَ هذا ابْنُ كَثيرٍ رِوايةً عَنِ العَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَكَاهُ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِي، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الْمَذْكُورَةُ الَّتِي اتَّصَفَتْ بِهَا هَذِهِ الْقَرْيَةُ، تَتَّفِقُ مَعَ صِفَاتِ أَهْلِ مَكَّةَ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآن. وقَدْ جَاءَ في القُرْآنِ الكَريمِ غَيْرُ آيَةٍ نَظِيرَ هَذِهِ الآيَةِ المُبَارَكَةِ، عَنْ قُرَيْشٍ أَهْلِ مَكَةَ، فقالَ فِي الآيةِ: 125، مِنْ سُورةِ البَقَرَةِ: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا}، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ آلِ عُمْرانَ: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} الآيَةَ: 97، وقالَ في الآيَةِ: 57، مِنْ سُورةِ القَصَصِ: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا}، وَقَالَ مِنْ سُورةِ العَنْكَبوتِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} الْآيَةَ: 67، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ قُرَيْشٍ: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} الآية: 4. وأَكْثَرُ المُفسِّرينَ عَلَى أَنَّ القريَةَ المقصودةَ بِهَذِهِ الآيةِ الكريمةِ هيَ مكَّةُ المُكرَّمةُ. فقَد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئنَّةً" قَالَ: يَعْنِي مَكَّةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عَطِيَّةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً" قَالَ: هِيَ مَكَّةُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ بَعْدَها: {وَلَقَدْ جَاءَهُم رَسُولٌ مِنْهُم فَكَذَّبُوهُ}؟. الآيَةَ التي تَلِيهَا: 113. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً" قَالَ: مَكَّةُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالى: {وَلَقَد جَاءَهُم رَسُولٌ مِنْهُم فَكَذبُوهُ فَأَخَذَهُم الْعَذَابُ} قَالَ: أَخَذَهُمُ اللهُ بِالْجُوعِ وَالْخَوْف وَالْقَتْلِ الشَّديدِ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا الْمَدِينَةُ المُنَوَّرَةُ، آمَنَتْ بِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ كَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ لِقَتْلِ أَميرِ المُؤْمنينَ عُثْمانَ ابْنِ عَفَّانَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وَمَا حَدَثَ فيهَا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الْفِتَنِ. وَهَذَا قَوْلُ أُمِّ المُؤْمِنِينَ السَيِّدَةِ حَفْصَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَلِيمِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: صَحِبْتُ حَفْصَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ خَارِجَةٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأُخْبِرَتْ أَنَّ عُثْمَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَدْ قُتِلَ، فَرَجَعَتْ، وَقَالَتْ: ارْجِعُوا بِي فَوَالَّذي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَلْقَرْيَةُ الَّتِي قَالَ اللهُ: "قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً" إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَذَكَرَ القُرْطُبِيُّ فِي تَفْسيرِه أَنَّ أُمَّ المُؤْمِنِينَ السَيِّدةَ عائشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُا، قالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: الْقرْيَةُ الَّتِي قَالَ اللهُ: "كَانَتْ آمِنَةً مُطمَئِنَّةً" هِيَ يَثْرْبُ. وَقِيلَ بِأَنَّ القَرْيَةَ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، وَجُعِلَتْ مَثَلًا لِمَكَّةَ ـ حَرَسَها اللهُ تَعَالَى، بِقَصْدِ تَحْذيرِ أَهْلِهَا، وأَهْلِ كُلِّ قريَةٍ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَاللهُ تَعَالى أَعْلَمُ بِمُرادِهِ.
قولُهُ: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} يَأْتِيهَا رِزْقُهَا: أَيْ: تَأْتِيها أَرزاقُها وأَقْواتُ أَهْلِها، وَهِيَ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِـ "قَرْيَةً"، وَتَغْييرُ سَبْكِ هَذِهَ الصِفةِ عَنِ الصِّفَةِ الأُولَى حَيْثُ عُبِّرَ هُنَا بِالْمُضَارِعِ، في حِينِ عُبِّرَ هُنَاكَ بِالماضِي لِيُفِيدَ أَنَّ إِتْيانَ رِزْقِها مُتَجَدِّدٌ، فِيمَا كَوْنُها آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ثابِتٌ مُسْتَمِرٌّ. وَ "رَغَدًا" وَاسِعًا مِنْ نَوَاحِيها كافَّةً، مِنَ الجَنُوبِ وَمَا هُوَ فِي جِهَتِهِ منْ بلادِ الهِنْدِ والأَحْبَاشِ، وذَلِكَ في رِحْلَةِ الشِتَاءِ إلى اليَمَنِ، وَمِنَ الشِّمالِ وما هوَ في جِهتِهِ منْ بلادِ الشامِ والرافدينِ والرُّومِ وَفارسْ في رِحْلةِ الصَيْفِ. ونَظِيرُ هَذِهِ الجُمْلَةِ مِنْ كِتابِ اللهِ قَوْلُهُ مِنْ سُورةِ البَقَرَةِ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} الْآيَةَ: 126، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ إِبْراهِيمَ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} الْآيَةَ: 37. وقوْلُهُ مِنْ سُورةِ القَصَصِ: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} الآيَة: 57، وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ قُرَيْشٍ: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} الآيات: (1 ـ 4)، فَإِنَّ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ كَانَتْ إِلَى الْيَمَنِ، وَرِحْلَةَ الصَّيْفِ كَانَتْ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَتْ تَأْتِيهِمْ مِنْ كِلْتَا الرِّحْلَتَيْنِ أَمْوَالٌ وَأَرْزَاقٌ، وَلِذَا أَتْبَعَ الرِّحْلَتَيْنِ بِامْتِنَانِهِ عَلَيْهِمْ: بِأَنْ أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ.
قَوْلُهُ: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ} فَكَفَرَتْ: أَيْ: فَكَفَرَ أَهْلُها، و "بِأَنْعُمِ اللهِ" أَيْ: بِنِعَمِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ نَظِيرَهُ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، منها قَوْلُهُ تَعَالَى منْ سورةِ إبراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} الآية: 28.
وأَنْعُم: جَمْعُ نِعْمَةٍ عَلَى تَرْكِ الاعْتِدادِ بِالتَّاءِ، كَدِرْعٍ وَأَدْرُعٍ، أَوْ هوَ جَمْعُ نُعْمٍ كَبُؤْسٍ وَأَبْؤُسٍ، وقيلَ: هو جمعُ نُعْمَى، وَقالَ قُطْرُب: هِي جَمْع نُعْمٍ، والنُّعْمُ: النَّعيم، يُقالُ: هَذِهِ أَيَّامُ طُعْمٍ ونُعْمٍ. وفِي الحديثِ الشريفِ: نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بالمَوْسِمِ بِمِنًى: ((إِنَّهَا أَيَّامُ طُعْمٍ ونُعْمٍ فَلَا تَصُومُوا)). والمُرادُ بِهَذِهِ الأنْعُمِ نِعْمَةُ الرِّزْقِ وَنِعْمَةُ الأَمْنِ المُسْتَمِرِّ المتواصِلِ، وَاسْتُعمِلَ جَمْعُ القِلَّةِ هذا ولَمْ يُسْتَعْمَلْ جمعُ الكَثْرَةِ للعِلْمِ بِأَنَّ كُفْرانَ نِعْمَةٍ قَلِيةِ أَوْجَبَ كلَّ هَذَا العَذَابِ فَمَا ظَنُّكَ بِكُفْرانِ نِعَمٍ كَثِيرَةٍ. فقالَ "بِأَنْعُمِ اللهِ" جَمْعَ تَقْلِيلِ، وَلَمْ يَقُلْ "بِنِعَمِ اللهِ" جَمْعَ تَكثيرٍ تَنْبيهًا بالأَدْنى عَلَى الأَعْلَى؛ لأَنَّ العَذَابَ إَذا كانَ عَلى كُفْرانِ القَلَيلِ فَكَوْنُهُ عَلَى النِّعَمِ الكَثيرَةِ أَوْلَى.
قولُهُ: {فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} فَأَذَاقَهَا اللهُ: أَيْ أَذَاقَ أَهْلَهَا. و "لِبَاسَ الجُوعِ والخَوْفِ" شُبِّهَ أَثَرُ الجُوعِ والخَوْفِ وَضَرَرُهُما المُحِيطُ بِهِمْ بِاللِّباسِ الذي يَغْشى لابِسَهُ، فَاسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُهُ، والإذاقَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِمُطْلِقِ الإِيصالِ المُنْبِئَةِ عَنْ شِدَّةِ الإِصابَةِ بِمَا فِيهَا مِنِ اجْتِمَاعٍ إِدْراكَيْ المُلامَسَةِ والذَّوْقِ عَلَى التَجْريدِ فإِنَّها لِشُيُوعِ اسْتِعْمالِها فِي ذَلِكَ وَكَثْرَةِ جَرَيانِهَا عَلَى الأَلْسِنَةِ جَرَتْ مُجْرَى الحَقِيقَةِ كَقَوْلِ كُثَيِّرِ عَزَّةَ:
غَمْرُ الرِّداءِ إِذا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا ............ غَلَقَتْ لِضِحْكَتِهِ رِقابُ المَالِ
فاسْتَعَارَ الرِّدَاءَ للمَعْرُوفِ لأَنَّهُ يَصُونُ عِرْضَ صَاحِبِهِ صَوْنَ الرِّداءِ لِمَّا يُلْقَى عَلَيْهِ، وأَضَافَ إِلَيْهِ الغَمْرَ الذي هُوَ وَصْفُ المَعْروفِ، فإِن َّالغَمْرَ مَعَ كَوْنِهِ فِي الحَقيقةِ مِنْ أَحْوالِ المَاءِ الكَثِيرِ لَمَّا كانَ كَثيرَ الاسْتِعْمالِ فِي المَعْرُوفِ المُشَبَّهِ بِالماءِ الكَثيرِ، جَرَى مُجْرَى الحَقيقةِ، فَصَارَتْ إِضافَتُهُ إِلى الرِّداءِ المُسْتَعَارِ للمَعْرُوفِ تَجْريدًا، أَوْ شَبَّهَ أَثَرَهُمَا وَضَرَرَهُما مِنْ حَيْثُ الإِحاطَةُ بِهِمْ والكَراهَةُ لَدَيْهِمْ تَارَةً باللِّباسِ الذي يَغْشى اللابِسَ المُنَاسِبِ للخَوْفِ بِجَامِعِ الإِحاطَةِ واللُّزومِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ، فاسْتُعيرَ لَهُ اسْمُهُ اسْتِعَارَةً تَصْريحِيَّةً، وَأُخْرى بِطَعْمِ المُرِّ البَشِعِ المُلائمِ للجُوعِ النّاشِئِ مِنْ فَقْدِ الرِّزْقِ بِجامِعِ الكَرَاهَةِ، فَأُومِئَ إِلَيْهِ بِأَنْ أَوْقِعْ عَلَيْهِ الإِذاقَةَ المُسْتَعَارَةَ لإِيصالِ المَضَارِّ المُنْبِئَةِ عَنْ شِدَّةِ الإِصابَةِ بِمَا فِيها مِنِ اجْتِمَاعِ المُلامَسَةِ والذائقةِ، ونَظيرُ قولِهِ هُنَا: "فَأَذاقَهم" قولُهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الدُخانِ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيزُ الكريمُ} الآية: 49. وقَدَّمَ الجُوعَ النَّاشِئَ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ فُقْدانِ الرِّزْقِ عَلَى الخَوْفِ المُتَرَتِّبِ عَلى زَوَالِ الأَمْنِ المُقَدَّمِ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى إِتْيانِ الرِّزْقِ لِكَوْنِهِ أَنْسَبَ بِالإذاقَةِ، أَوْ لِمُراعاةِ المُقارَنَةِ بَيْنَها وَبَيْنَ إِتْيانِ الرِّزْقِ.
وَأَصْلُ الذَّوْقِ بِالْفَمِ ثُمَّ يُسْتَعَارُ فَيُوضَعُ مَوْضِعَ الِابْتِلَاءِ. لَمَّا لَجُّوا فِي الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، وَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: ((اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطَأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِينَ يُوسُفَ". جاءَ هَذَا فِيمَا أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ وَغَيْرُهُ، مِنْ حَديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ، أَوْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ، قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ، فَرُبَّمَا قَالَ ـ إِذَا قَالَ سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ: ((اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ)) ـ يَجْهَرُ بِذَلِكَ، وَكَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ: ((اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا لِأَحْيَاءٍ مِنْ الْعَرَبِ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ}الْآيَةَ. أَخْرَجَهُ الأئِمَّةُ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَل فِي مُسْنَدِهِ: (2/255(7458)، والدارِمِيُّ في سُنَنِهِ: (1595)، والبُخاريُّ في صَحيحِهِ ـ وهذا النَّصُّ لَهُ: (4560)، ومُسْلِمٌ في صحيحِهِ: (2/134(1485)، والنَّسائيُّ: (2/201) وفي (الكبْرَى): (665). وابْنُ خُزَيْمَةً صحيحِهِ: (619). وابْنُ حِبَّانٍ في صحيحِهِ: (1972). فَأَصَابَتْ قُرَيْشًا سَنَةٌ أَذْهَبَتْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى أَكَلُوا الْجِيفَ وَالْعَلْهَزَ (وَهُوَ وَبَرُ الْبَعِيرِ يُخْلَطُ بِدَمِهِ إِذَا نَحَرُوهُ)، وَأَصَابَهُمُ الْخَوْفُ الشَّدِيدُ بَعْدَ الْأَمْنِ، وَذَلِكَ الْخَوْفُ مِنْ جُيُوشِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَزَوَاتِهِ وَبُعُوثِهِ وَسَرَايَاهُ. وَهَذَا الْجُوعُ وَالْخَوْفُ أَشَارَ لَهُمَا الْقُرْآنُ عَلَى بَعْضِ التَّفْسِيرَاتِ، فَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُ، آيَةَ (الدُّخَانِ) بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "فَأَذاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ" قَالَ: فَأَخذهُمُ اللهُ بِالْجُوعِ وَالْخَوْفِ وَالْقَتْلِ.
قولُهُ: {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} أَيْ: "بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ" فِي مَا قَبْلُ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الاسْتِمْرارِ، وَهُوَ الكُفْرانُ المَذْكُورُ، وأَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ القَرْيَةِ تَحْقيقًا للأَمْرِ، بَعْدَ إِسْنَادِ الكُفْرانِ إِلَيْها، وَإيقاعِ الإذاقَةِ عَلَيْها، وَذَلِكَ للمُبالَغَةِ، وَفي صِيغَةِ "يصْنَعونَ" إِيذانٌ بِأَنَّ كُفْرانَ النِعْمَةِ صَارَ صَنْعَةً لَهُمْ راسخةً، وسُنَّةً مَسْلوكةً.
قولُهُ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "ضَرَبَ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فَاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ. و "مَثَلًا" مَفْعُولٌ ثانٍ لِـ "ضَرَبَ" منصوبٌ بِهِ، لأَنَّهُ بِمَعْنَى جَعَلَ. و "قَرْيَةً" مَفْعُولُهُ الأَوَّلُ، وقد أُخِّرَتْ لِتَتَّصِلَ بِصِفاتِها، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} كَانَتْ: فعلٌ ماضٍ ناقصٌ مبنيٌّ على الفتحِ، والتاءُ الساكنةُ للتَأْنيسِ، واسْمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ تقديرُهُ (هي) يَعُودُ عَلى "قَرْيَةً". و "آمِنَةً" خَبَرُ "كان" مَنْصوبٌ بِه. "مُطْمَئِنَّةً" خَبَرٌ ثَانٍ لِـ "كان"، وجملةُ "كان" واسمِها وخبرِها صِفَةٌ لِـ "قَرْيَةً" في مَحَلِّ النَّصْبِ.
قولُهُ: {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} يَأْتِيهَا: فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ مقدَّرةٌ على آخِرِهِ لثِقَلها على الياءِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ. و "رِزْقُهَا" فاعِلٌ مرفوعٌ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "رَغَدًا" منصوبٌ على الحالِ مِنَ الرِّزْقِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يأتي". و "كُلِّ" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ. و "مَكَانٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِفَةٌ ثانِيَةٌ لِـ "قَرْيَةً" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ.
قولُهُ: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ} الفاءُ: حرفٌ للعَطْفِ والتَعْقِيبِ، و "كَفَرَتْ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، والتاءُ الساكنةُ لتأْنيثِ الفاعِلِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازً تقديرُهُ (هي) يَعودُ عَلَى "قَرْيَةً". و "بِأَنْعُمِ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "كَفَرَتْ". وَلَفْظُ الجَلالةِ مَجْرُورٌ بِالإِضافَةِ إِلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "يَأْتي" عَلَى كَوْنِها صِفَةً ثانِيَةً لِـ "قَرْيَةً" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ.
قولُهُ: {فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} الفاءُ: للعطْفِ والتعقيب، و "أَذاقَها" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ. ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" مرفوعٌ بالفاعِلِيَّةِ. و "لِبَاسَ" مَفْعُولٌ بهِ ثانٍ لِـ "أَذَاقَ" وَهُوَ مُضافٌ. و "الْجُوعِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليْهِ. و "وَالْخَوْفِ" حرفُ عطفٍ ومَعْطوفٌ عَلَى "الْجُوعِ" منصوبٌ مِثْلهُ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ لأنَّها مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "كَفَرَتْ".
قولُهُ: {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} بِمَا: الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَذاقَ"، و "مَا" موصولَةٌ مبنيَّةٌ عَلى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، أَوْ هي نَكِرةٌ مَوْصوفةٌ، ويَجوزُ أَنْ تَكونَ مَصْدَرِيَّةً، والعائدُ مَحْذوفٌ، أَيْ: بِسَبَبِ صُنْعِهم، أَوْ بِسَبَبِ الذي كانُوا يَصْنَعونَهُ. وَ "كَانُوا" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ اسْمُهُ، وَ "يَصْنَعُونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعةِ ضَميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ، فاعِلُهُ. وهذهِ الجُمْلَةُ الفعليَّةُ خَبَرُ "كانَ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، وَجُمْلَةُ "كان" صِلَةٌ لِـ "ما" فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ أَوْ صِفَةٌ لَهَا في محلِّ الجرِّ إنْ كانتْ نَكِرةً مَوْصُوفَةً، وَالعائِدُ أَوِ الرّابِطُ مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: بِمَا كانُوا يَصْنَعُونَهُ.
قرَأَ العامَّةُ: {الخَوْفِ} بالجَرِّ نَسَقًا عَلَى "الجُوعِ"، وقرأَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْحَسَنُ وَأَبُو عَمْرِو بْنِ العلاءِ، فِيمَا رَوَى عَنْهُ عَبْدُ الْوَارِثِ وَعُبَيْدٌ وَعَبَّاسٌ "وَالْخَوْفَ" نَصْبًا بِإِيقَاعِ أَذَاقَهَا عَلَيْهِ، عَطْفًا عَلَى. لِباسَ الْجُوعِ أَيْ أَذاقها اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ، وَأَذَاقَهَا الْخَوْفَ. وَهُوَ بَعْثُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَرَايَاهُ الَّتِي كَانَتْ تَطِيفُ بِهِمْ، وَفِيهِ أَوْجُهٌ، أَحَدُهَا: أَنْ يُعْطَفَ عَلَى "لِبَاسَ". وقالَ أَبُو البَقاءِ العُكْبَريُّ: أَنَّهُ مَعْطوفٌ عَلَى مَوْضِعِ "الجُوعِ"؛ لأَنَّهُ فِي المَعْنَى مَفْعُولٌ لِلْمَصْدَرِ. التَقْديرُ: أَنْ أَلْبَسَهُمُ الجُوعَ والخَوْفَ"، وهوَ بَعيدٌ؛ لأَنَّ اللِّبَاسَ اسْمُ مَا يُلْبَسُ، وَهوَ اسْتِعَارَةٌ بَلِيغَةٌ. و قالَ أَبو الفَضْلِ الرَّازِيُّ: يجوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ. ويجوزُ أَنْ يَكونَ منْصوبًا عَلَى حَذْفِ مُضافٍ، أَيْ: ولِبَاسَ الخَوْفِ، ثُمَّ حُذِفَ المُضافُ وأُقِيمَ المُضافُ إِلَيْهِ مُقامَهُ. وفي قراءَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، "فَأَذَاقَها اللهُ الخَوْفَ والجُوعَ"، وَفي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كعبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، "لِباسَ الخَوفِ والجُوعِ".