لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أَي: حُقَّ لَهُمْ، وثَبتَ أَنهُمْ وحدَهُمُ الخَاسِرُونَ في الآخِرَةِ لا غَيْرُهم، إِذْ ضَيَّعُوا أَعْمَارَهُمْ وَصَرَفوها إِلى مَا لَا يُفْضِي إِلَّا إِلَى العَذَابِ المُخَلَّدِ أَبدًا، وَذَلِكَ بِمَا اقْتَرَفُوهُ مِنْ مُوجِباتِ الخَسَارَةِ، وَبِمَا أَتَوْهُ مِنْ أَعْمَالٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا الحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِخُسْرانِهِمُ نَعيمَ الحياةِ الآخِرَةَ، في جَنَّاتٍ عَرْضُها السَماواتُ والأرضُ لأنَّها أعِدَّتْ للمؤمنينَ الصالحينَ، وليسَتْ للكافرينَ الفاسدينَ المُفْسِدينَ، فَقَدْ حُقَّ لَهُمْ ذَلِكَ وثَبتَ. فقد كانوا كافرينَ بربِّهم وخالقهم كاذِبِينَ مُفْتَرينَ عَلَى اللهِ ورسولِهِ، واطْمَأَنوا بالكُفْرِ، وانْشَرَحتْ صُدورُهم بِهِ، وَاسْتَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُنْيا عَلَى الآخِرَةِ، كما سَلَفَ مِنْ وَصْفِهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ آياتٍ. فَهُمْ في الآخِرَةِ مُعذَبونَ، وعَنْ ربِّهمْ مَحْجُوبونَ، وَبِذُلِّ البُعْدِ مَوْسُومونَ، وفي النارِ مقيمونَ مُخلَّدونَ. فإنَّ الآيةَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ النَّتِيجَةِ لِمَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا صَارَ كَالدَّلِيلِ عَلَى مَضْمُونِهَا، وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِكَلِمَةِ نَفْيِ الشَّكِّ "لَا جَرَمَ" فهي بِمَعْنَى (لَا بُدَّ)، أَوْ (لَا مَحَالَةَ). وَقالَ فِي الآيةِ: 22، مِنْ سُورَةِ هُودٍ: {هُمُ الْأَخْسَرُونَ}، وَقَالَ هُنَا: "هُمُ الْخاسِرُونَ" لِأَنَّهُ تَقَدَّمَهَا هناكَ: {أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ}، فَكَانَ الْمَقْصُودُ بَيَان أَنَّ خَسَارَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَشَدَّ مِنْ خَسَارَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَاللهُ أَعلمُ.
قولُهُ تَعَالى: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} لَا جَرَمَ: فِعْلٌ مَاضٍ بِمَعْنَى حُقَّ، مُركَّبٌ مِنْ حَرْفٍ وَفِعْلٍ تَرْكِيبًا مَزْجِيًّا، وهو مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ. "أَنَّهُمْ" حرفٌ ناصبٌ ناسخٌ مُشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيد، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "فِي" حرفُ عطفٍ مُتَعَلِّقٌ بِـ "الْخَاسِرُونَ" وَ "الْآخِرَةِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ. وَ "هُمُ" ضَمِيرُ فَصْلٍ؛ و "الْخَاسِرُونَ" خَبَرُ "أَنَّ" مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والنونُ: عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ. ويجوزُ أنْ يُعْرَبَ "هم" مبتَدَأً و ""الْخَاسِرُونَ" خَبَرُهُ، وهذهِ الجملةُ الاسميَّةُ في محلِّ الرفعِ خبرُ "أَنَّ". وَجُمْلَةُ "أَنَّ" فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفوعٍ عَلَى الفَاعِلِيَّةِ لِـ "جَرَمَ"، والتقديرُ: حُقَّ خُسْرانُهم فِي الآخِرَةِ. وَثمَّةَ أَوَجُهٌ أُخْرَى فِي إِعْرابِ "لا جَرَمَ"، فَيَجُوزُ: "لا" نافِيَةٌ للجِنْسِ. وَ "جَرَمَ" اسْمُ "لا" مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ. والمَصْدَرُ المُؤَوَّلُ مِنْ "أَنَّهُم همُ الخاسِرونَ" فِي مَحَلِّ جَرٍّ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذوفٍ تَقْديرُهُ "في" أو "من"، أَيْ: فِي أَنَّهم هُمُ الخاسِرونَ، أَوْ: مِنْ أَنَّهم هُمُ الخاسرونَ. مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "لا" النافيةِ للجنسِ. وهناكَ وجهٌ ثالثٌ: فَيَجوزُ "لا" نافِيَةٌ لا عملَ لها، و "جرم" فِعْلٌ مَاضٍ بِمَعْنَى "وَجَبَ" أَوْ "حَقَّ" أَوْ "ثَبَتَ" والمَصْدَرُ المُؤَوَّلُ مِنْ "أَنَّهُم هُمُ الخاسرون" في مَحَلِّ رَفْعِ فَاعِلٍ أَيْ: ثَبَتَ خُسْرانُهم فِي الآخِرَةِ. وقَدْ يُجْمَعُ اللَّفْظانِ "لا جَرَمَ" بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ بِمَعْنَى "حَقًّا"، فَهُوَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ. والمَصْدَرُ المُؤَوَّلُ في مَحَلِّ رَفْعٍ فاعِلٌ للمَصْدَرِ "حَقًّا" أَيْ: حَقًّا خُسْرانُهم. وجُمْلَةُ "لا جَرَمَ" الفِعْلِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.